ما الذي يجري بين المغرب وألمانيا؟

برلين تحاول توظيف ملف الصحراء المغربية لترسيخ موقع قدم لها في مغرب ما بعد تحرير الكركرات

مدينة بريمن ظلت دوما في قلب الملفات المصلحية بين البلدين منذ القرن 17 ولا تزال

 

 

هل كان ضروريا أن تكون الإساءة ضد مصالحنا المغربية الحيوية قادمة بالضبط من البرلمان المحلي لولاية بريمن الألمانية، حتى نعود إلى الإنتباه للأهمية الإستراتيجية (ضمن الإتحاد الأروبي) لعلاقاتنا مع الجمهورية الفدرالية الألمانية؟. ذلك أن قصتنا المغربية مع ألمانيا الحديثة، ابتدأت دوما من مدينة بريمن بالتحديد، منذ محاولات توقيع أول اتفاقية تجارية وأمنية بين الإمبراطورية المغربية والولايات الألمانية، ما قبل تأسيس الرايخ الألماني الموحد على عهد القائد التاريخي لألمانيا الحديثة أوتو فون بيسمارك سنة 1871 ميلادية. فقد ابتدأت تلك المحاولات منذ سنة 1780 ميلادية، أي قرنا بالتمام والكمال قبل ميلاد ألمانيا الحديثة.
كانت بريمن، واحدة من أهم ولايات الشمال الألماني المالكة لأسطول تجاري كبير ببحر الشمال وبالمحيط الأطلسي، المنافسة لجارتها مدينة هامبورغ. هامبورغ التي ستكون عمليا أول مدينة توقع اتفاقية تعاون تجاري مع المغرب سنة 1802، على عهد السلطان مولاي سليمان (قبل قرار إغلاق الموانئ المغربية سنتين بعد ذلك بسبب تداعيات الطاعون الأسود، وتداعيات حملة نابليون على مصر وفلسطين والتنازع الإنجليزي الفرنسي على البحر الأبيض المتوسط وعلى مضيق جبل طارق).
وهي ذات مدينة بريمن التي تحاول اليوم ألمانيا اللعب من خلالها على ورقة وحدتنا الترابية، بعد التحول التاريخي لتحرير معبر الكركرات والإعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، من أجل خلق شروط جديدة لتواجدها الإستراتيجي بمنطقتنا المغاربية والغرب متوسطية الغرب إفريقية. فالأمر هو مرحلة من مسلسل طويل للتدافع المصالحي بين بلدينا منذ أكثر من 350 سنة. كيف ذلك؟ وإلى أين ستتطور الأمور؟. ذلك ما تحاول هذه المقالة مقاربته باحتياط.

بالتالي، فإن عودة إسم ولاية بريمن اليوم، بعد أن قرر برلمانها المحلي رفع راية جبهة البوليزاريو عند مدخل مقره، يوم 28 فبراير 2021 المصادف لتاريخ إعلان تلك الجماعة الإنفصالية عن تأسيس ما تسميه «جمهوريتها الصحراوية»، كما لو أنه يعيد عقارب الساعة إلى تاريخ الطموح الألماني منذ القرن 17، لإيجاد قدم مؤثرة لها في الجغرافية المغربية، بما لهذه الجغرافية من مكانة وأدوار جيو سياسية وجيو ستراتيجية، على المستويات الإقتصادية والتجارية والأمنية. وحين قررت الحكومة المغربية، من خلال ما يخوله القانون تدبيريا لوزارة الخارجية والتعاون الدولي المغربي (فهي المنوط بها كل الملفات الدولية للعلاقات المغربية مع العالم على كافة المستويات وليس فقط الديبلوماسية)، بعث رسالة احتجاج قوية لأول مرة إلى الحكومة الفدرالية الألمانية، من خلال تفعيل قرار تجميد كل أشكال التواصل والتعاون مع السفارة الألمانية بالرباط، فإنها بذلك تسجل لحظة أخرى من علاقات تواصل مغربية ألمانية طويلة، غنية، هامة، وغير سهلة منذ القرن 18.
نعم، حسابات القرن 21 ليست هي حسابات القرون السابقة (خاصة القرن 18 والقرن 19 والقرن 20)، لكن طبيعة العلاقات التي ربطت دوما بين الدولة المغربية والدولة الألمانية (ملكية فدرالية في الأول ثم جمهورية فدرالية بعد ذلك)، قد كان فيها شد وجذب، صعود وهبوط، تعاون وقطيعة. مع خصوصية مثيرة دوما، في طبيعة تلك العلاقات بين البلدين، هي تواجد دوما طرف ثالث (أول أكثر من طرف) أروبي بينهما. حيث مرة يكون إنجليزيا ومرة فرنسيا، ومرات عدة كليهما معا مع إضافة إسبانيا. وفي القلب من ذلك التنافس السياسي، تحضر دوما المصالح التجارية والإقتصادية، وليس فقط طموح النفوذ الجيو ستراتيجي.
لايمكننا، اليوم، إغفال قوة الورقة الألمانية عالميا، خاصة ضمن فضائها الأروبي، فهي القوة المالية والإقتصادية الأكبر ضمن مؤسسة «الإتحاد الأروبي»، مما يفرض شكل تعامل خاص مع كل ملف تكون برلين طرفا فيه. ولعل طبيعة التحليل البسيط، تقودنا إلى القول، أنه على بلادنا أن لا تفرط في تجسير وتقوية العلاقة مع قوة مماثلة. لكن الحال، هو أن برلين، في حقيقة واقع الأمور، هي التي ظلت تقصي المغرب من رادارات اهتماماتها الإستراتيجية منذ بداية بروزها كقوة أروبية بعد انهيار المعسكر الشرقي وسقوط جدار برلين وتوحيد الألمانيتين الشرقية والغربية سنة 1990. وهو إقصاء ظل مندرجا ضمن أفق استراتيجي اختارته برلين الجديدة تلك، يتمثل في إدارة ظهرها لكل الجنوب المتوسطي، ضمن المنظومة الأروبية (سواء في مرحلة المجموعة الإقتصادية الأروبية أو في مرحلة تأسيس الإتحاد الأروبي)، وممارستها لضغط مؤثر لتحويل الإهتمام السياسي والإقتصادي والمالي الأروبي صوب عمقها بشرق القارة الأروبية، ونجحت بعد 30 سنة في أن تدمج كل المنظومة الأوربية المشرقية، بما في ذلك تركيا، ضمن الأفق الإقتصادي والسياسي لأروبا الموحدة الجديدة. وأوقفت عمليا كل المشروع الطموح، التعاوني، الهائل ل «الإتحاد من أجل المتوسط» الذي كانت تتزعمه فرنسا وكل دول الجنوب الأروبي مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا واليونان (وكانت حتى بريطانيا منخرطة فيه بحساباتها الخاصة).
بالتالي، ليس المغرب من كان يدير ظهره لألمانيا الجديدة هذه، بل برلين هي التي ظلت تدير ظهرها للمغرب ضمن ذلك الأفق الجيو ستراتيجي الجديد الذي بنت من خلاله قوتها الكبرى اليوم. وكل التقارير الصحفية والسياسية والإقتصادية والديبلوماسية داخل المنظومة الأروبية ببروكسيل، قد ظلت تؤكد على أن الحكومة الألمانية كانت دوما تتخد موقفا من كل ملف مغربي حسب التوجه الذي تأخذه باريس فيه، استنادا على قناعة ضمنية مؤسساتية وسياسية لديها، تعتبر أن مداخل الملف المغربي والتونسي والجزائري، أروبيا، تتم عبر بوابة فرنسا.
ما الذي جرى اليوم؟
واضح أن برلين، لا تزال تلعب (بشكل مثير، يكاد يكون قدريا)، على منطق التوازنات الأروبية كلما تعلق الأمر بملف العلاقة مع المغرب. وهذا أمر يتواصل منذ القرن 19، حيث ظل التنافس دوما حول الملف المغربي، مصالحيا واقتصاديا، بين برلين وباريس ولندن ومدريد.
ولعل الجديد اليوم، هو أن المغرب في القرن 21، بممكناته الواعدة مؤسساتيا (ترسيخ الخيار الديمقراطي بشكل لا رجعة فيه/ إصلاح منظومته القانونية للإستثمار/ إنجاز مشاريع وازنة على مستوى بنيته التحتية من موانئ وطرق ومطارات ميسرة أكثر للإستثمار/ توفيره لعنصر بشري جديد من حيث الكفاءة التقنية ضمن سوق الشغل/ تطوير آليته الأمنية بشكل محترف/ تجسير علاقاته الإقتصادية مع كامل غرب إفريقيا… إلخ)، قد أصبح أفقا جديدا كبوابة عبر شمال إفريقيا ومضيق جبل طارق لدخول الرأسمال الألماني الجديد، القوي أروبيا، إلى الجغرافية المغربية والإفريقية. تماما مثلما حاولت الولايات الألمانية، في مقدمتها ولاية بريمن خلق موقع قدم لها في الموانئ المغربية في القرن 17 والقرن 18، خاصة بمدن آسفي وسلا وطنجة والصويرة. وقد يفاجئ الكثيرون منا، كيف أن التواجد الألماني عبر البوابة البرتغالية قد كان كبيرا بالمغرب خلال تلك القرون، وكانت التجارة المطلوبة كثيرا من قبل بريمن وهامبورغ هي تجارة القمح والزعفران.
ليسمح لنا القارئ هنا، أن نأخذه قليلا إلى قصة ماضي علاقتنا مع برلين خلال القرون الماضية، خاصة خلال القرن 19، ليدرك حساسية قوة حضور الملف المغربي دوما في حسابات ألمانيا ضمن تنافسها مع باقي القوى الأوربية. وكل المراجع التاريخية (خاصة كتاب «المغرب وألمانيا ما بين 1870 و 1905» لصاحبه بيير غيلين. وكتاب «المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر» في جزئيه للمؤرخ المغربي خالد بن الصغير)، تجمع على أن التحول في اهتمام برلين بالمغرب، يعود إلى ما بعد سنة 1871، بعد نجاح القائد التاريخي لألمانيا الحديثة بيسمارك في توحيد ولايات الشمال والجنوب الجرماني، مباشرة بعد الإنتصار العسكري الألماني على فرنسا في «معركة سيدان» سنة 1870، التي تعتبر التدشين التاريخي لميلاد ألمانيا كقوة بأروبا، وهي القوة التي ستدشن عمليا للتنافس الألماني الفرنسي الإنجليزي، على قيادة أروبا وكل المنظومة الإقتصادية الغربية، بكل ما تبعها من حروب مدمرة سواء خلال الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، أو خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945).
لقد قام بيسمارك بفتح مقر أول بعثة ديبلوماسية ألمانية بطنجة سنة 1873، بالتوازي مع تعيين قناصلة ألمان بكل من مدن الرباط، الجديدة، آسفي والصويرة. وكان أول سفير معين من قبله هو السفير فون غوليش، لكنه لن يحضر إلى المغرب ولن يقدم أوراق اعتماده بفاس كما كان مقررا، بسبب وفاة السلطان محمد بن عبد الرحمان (محمد الرابع) في ذات السنة، وصعود ابنه مولاي الحسن الأول إلى العرش. وسنة بعد ذلك، سيقدم ذات السفير أوراقه للسلطان المغربي الجديد، الذي وجد لديه طموحا لتعزيز العلاقات مع برلين، ضمن مخطط لفك العزلة عن المغرب أمام فرنسا المحتلة للجزائر منذ 1830 وهزيمة الجيش المغربي أمام القوات الفرنسية سنة 1844، ثم أمام إسبانيا التي كانت تفرض على الخزينة المغربية ذعائر مالية كبيرة بسبب تبعات هزيمة الجيش المغربي في تطوان سنة 1860، ثم الضغط الإنجليزي لتوقيع اتفاقية تجارية جديدة تحرر السوق المغربية أمام السوق العالمية. وكان لابد من انتظار وصول سفير ألماني (استثنائي بطبيعة شخصيته) هو السفير طاطنباخ الذي يعتبر أول سفير لبرلين سينجح في اقتناص توقيع اتفاقية تجارية مع المغرب سنة 1890. بل أكثر من ذلك، سيصبح ذلك الديبلوماسي الألماني نوعا من المستشار غير المعلن ولا المعين للسلطان مولاي الحسن الأول، الذي كانت آراؤه مسموعة بفاس لمواجهة دهاليز الحسابات الأروبية، الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، بالمغرب. وسيلعب دورا في إعادة تجهيز الجيش المغربي بمدافع حربية متقدمة جديدة، في مقدمتها «مدفع كروب»، المصنع بمدينة بريمن بالضبط (التي هي سبب مشاكلنا اليوم مع ألمانيا أنجيلا ميركل). وقد نفاجئ اليوم أن أول سفارة مغربية إلى ألمانيا من قبل ذلك السلطان المغربي، والتي قادها السفير المغربي بنسليمان قد توجهت إلى بريمن سنة 1878، لعقد صفقات أسلحة، بسبب أن معمل الأسلحة الألماني «كروب» يوجد بتلك المدينة. ثم تلتها أيضا بعثة أخرى بقيادة القائد بريشة لشراء أسلحة ألمانية جديدة، ثم بعثة أخرى سنة بعد ذلك إلى ذات المدينة يترأسها نائب دار المخزن بمدينة آسفي، القائد الطيبي بنهيمة.
لكن الذي حدث بعدها، هو أن فرنسا قد انتصرت، ضمن ذلك التنافس الأروبي على المغرب، من خلال نجاحها في توقيع اتفاقيات سرية مع كل من إنجلترا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا ما بين سنوات 1901 و 1911، للتنازل لها عن احتلال المغرب، الذي سيتم تقسيم جغرافيته من الشمال إلى عمقه الصحراوي الجنوبي بين فرنسا وإسبانيا (وإبقاء طنجة منطقة دولية). فتراجع النفوذ الألماني بالمغرب إلى اليوم.


وواضح أن طموحات برلين بمنطقتنا المغاربية اليوم، مختلفة عن رؤيتها لسنة 1990، بعد أن أنهت مشروعها لإدماج أروبا الشرقية وتطوير تركيا اقتصاديا، مما مكنها من أن تصبح الفاعل الرئيسي ضمن الإتحاد الأروبي. وواضح أنها قررت الإلتفات إلى الجنوب المتوسطي، بدليل أدوارها الجديدة في الملف الليبي، ومحاولات تواجدها الحثيثة في الجزائر، وسعيها الإستراتيجي الجديد لتقوية حضورها المصلحي والإستثماري بالمغرب الجديد (مغرب ما بعد 1999)، وليس اعتباطا أن السيدة ميركل حرصت على التجول بدون حراسة مشددة بأسواق مراكش منذ سنتين وتناولت شايا في مقهى بساحة جامع الفنا. ولأنه في كل منطق للعلاقات الدولية، هناك دوما توظيف للملفات ذات الأولوية والحساسية المؤثرة، ضمن منطق التدافع المصلحي هذا، فإن ورقة ملف الصحراء الغربية للمغرب، ورقة جد مؤثرة ضمن الإستراتيجية الألمانية الجديدة في علاقتها بنا كمغاربة. ومن مكر القدر، ومن مكر الأمور، أن يكون ذلك منطلقا بالضبط من ذات مدينة بريمن، التي كانت أول ولاية سعت لتوقيع اتفاقية تجارية مع الدولة المغربية في القرن 17، وذات بريمن التي استقبلت سفراء مغاربة متعددين طيلة القرن 19 من أجل إعادة تسليح الجيش المغربي حينها. وهي ذات مدينة بريمن التي سمح برلمانها المحلي اليوم برفع علم جبهة البوليزاريو عند مدخله «نكاية» في المغرب. المغرب الذي هو، من وجهة نظر الحكومة الألمانية، دون طموحات برلين لفتح جغرافيته أمام قوة الإستثمار (والنفوذ) الألماني، الطامح للولوج عبره إلى كامل غرب إفريقيا.
هي مرحلة أخرى إذن، من تاريخ محاولات ترسيم أشكال تعاون وتنظيم مصلحة واستفادة بين المغرب وألمانيا، بمنطق القرن 21. وبمنطق الأرقام، فإن رقم معاملاتنا معهم سنة 2020 قد بلغ 3.2 مليار يورو، تميل الكفة فيه لصالحهم حيث نستورد منهم حوالي 1.9 مليار يورو، في مقابل تصديرنا إليهم 1.3 مليار يورو. وتعتبر ألمانيا خامس زبون لنا في العالم بعد إسبانيا وفرنسا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، فيما نعتبر نحن ثالث زبون لهم بإفريقيا بعد جنوب إفريقيا ومصر. وأكيد أن تمة ما يكفي من الذكاء السياسي في الرباط وبرلين، لإعادة ترتيب المصالح بين الدولتين، بما يعزز من واقعهما الجيو ستراتيجي الجديد. لأنه إذا كانت ألمانيا قد أصبحت ألمانيا جديدة، قوية، وهائلة بعد 1989 وبعد ولاية أنجيلا ميركل، فإن رسالة وزارة الخارجية المغربية هي أن المغرب أيضا مغرب جديد، منذ 1999، ضمن منطقته المغاربية وضمن منطقته الغرب إفريقية. والأيام دول بين الناس (والمصالح أيضا).


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 03/03/2021