عنوان ما «يستطيعه التاريخ» Ce que peut l’histoire في الأصل عنوان محاضرة افتتاحية قدمها المؤرخ الوسيطي باتريك بوشيرون Patrick Boucheronفي الكوليج دو فرانس يوم 17 دجنبر من سنة 2015. وحده هذا التاريخ يُحيل على الأحداث الإرهابية التي عاشتها باريس في نفس السنة. فهل يُشرعن هذا التزامن الدعوة إلى إعادة التفكير في مكتسبات الكتابة التاريخية؟ وهل هي دعوة صريحة لتأسيس ثقافة تاريخية جديدة تعيد النظر في فكرة المركزية الأوروبية وتسمح للهوامش بكتابة تاريخ جديد؟
في حقيقة الأمر، يمكن إدراج هذه المحاضرة الافتتاحية ضمن مسارات الاستمرارية الفكرية المتعارف عليها في الوسط الأكاديمي الفرنسي منذ تأسيس «الكوليج دوفرانس» في القرن السادس عشر الميلادي مع الملك فرانسوا الأول. وقد صدرت هذه المحاضرة الافتتاحية عن منشورات فايار، سنة 2016. ومن المعلوم أن بوشيرون ينتمي إلى جمهور المؤرخين الذين يشتغلون على قضايا العصر الوسيط وعصر النهضة، وخاصة عصر النهضة الإيطالي.
منذ سنة 2015 شغل باتريك بوشيرون مهمة أستاذ في الكوليج الفرنسي . وقتها كُلف بأن يشرف على كرسي تاريخ السلطة السياسية في أوروبا الغربية من القرن 13 إلى القرن 16م . وقبل ذلك، كان اسم بوشيرون يتردد بين الباحثين عندما أشرف على تنسيق مواد كتاب «تاريخ العالم في القرن الخامس عشر»، الصادر سنة 2009، بمعية بيير موني وجوليان لوازو ويان بوتان، ومشاركة ما يقرب من ستين مُساهما ، وكتاب «التاريخ العالمي لفرنسا» الذي رافقه صخب واسع في الوسط الثقافي الفرنسي.
شاع اسم بوشيرون بين المؤرخين بخلفيته التاريخية التي تأمل في الانطلاق من تاريخ النهضة الإيطالي نحو كتابة تاريخ شمولي حول مجريات القرن الخامس عشر، وهي الفكرة التي نجد لها صدى عميقا في المقاربات الأنجلوساكسونية التي أعادت التفكير في تفاصيل هذا القرن الصاخب، وخاصة فكرة المركزية الأوروبية.
مسألة العودة إلى تفاصيل القرن الخامس عشر الأوروبي عند بوشيرون تقترن منهجيا بإعادة اختبار فرضية تشكل البوادر الأولى لما سيسمى بعد ب «تيار العولمة «. من هنا قد نفهم بدقة خلفية محاضرته الافتتاحية في الكوليج دوفرانس التي تحاول العودة إلى الأصول الوسيطية للحداثة السياسية في أوروبا الغربية.
تبعا لذلك، يدافع بوشيرون عن فكرة انطلاق مسار الحداثة الأوربية انطلاقا من وقائع القرن الثالث عشر وخاصة في حواضر إيطاليا المتوسطية؛ حينما كانت العلاقات بين الكنيسة والمَلكيات الأوروبية تأخذ منحى الصراع والتضارب. وبطبيعة الحال، لا يمكن لمثل هذه الرؤية الجديدة أن تفرض نفسها في الدراسات التاريخية إذا لم تستند إلى شبكة كثيفة من القراءات، وإلى تمحيص دقيق لوثائق الأرشيف الوطني.
I- باريس تمثل العالم :
عالم في مفترق طرق، أو لنستعيد عبارة دانتي الشهيرة «عالم يسير نحو الأسوأ «. عالم تتداخل فيه سلطتان: سلطة الثرثرة المستمرة، وسلطة الصمت العميق. لم تعد فرنسا بعد أحداث 2015 تُغري بنهضتها وأنوارها، ولم يعد أحد ينصت بعمق للتاريخ الذي كان يصدح به لاتوموس Barthélemy Masson بين جدران الكوليج دوفرانس حول تمجيد تاريخ النهضة وتاريخ أثنيا وروما…فرنسا اليوم تخاف من فوضى الخطاب، وتخشى الضياع والفقد والنسيان كما قال روجي شارتيي Roger Chartier من قبل. هنا، يتولد السؤال الذي صاغه بوشيرون: ماذا يستطيع التاريخ فعله اليوم؟ وماذا يمكنه أن يفعل ليستمر ويبقى وفيا لنفسه؟ سؤال حارق تطرحه فرنسا ومعها أوروبا؟ وعن أي وسيط نتحدث؟ هل عن الوسيط الذي أعاده ميشليه في درسه لسنة 1838؟ أم عن وسيط يجب أن يعاد ابتكاره من جديد ليجيب عن عنف الحاضر؟
يفتتح بوشيرون محاضرته بتمهيد استوغرافي يعود فيه إلى الدروس المؤسسة لكتابة تاريخ أوروبا في عصرها الوسيط كما تراكمت في حلقات التاريخ الأوربي. ويتوسل بالتحليل النفسي لتحليل ثنائية الخوف والانفتاح التي ميزت علاقة الأوروبي مع الشرق. في شأن ذلك، يستحضر عطاءات الإنتاج الاستوغرافي عند كل من مارك بلوك وجاك لوغوف وجورج دوبي وفرنان بردويل…كما ينطلق من راهن الوضع السياسي الفرنسي، وخاصة الأحداث الدامية التي عرفتها باريس في 13 نونبر 2015 للإحالة على عمق التحول بين الماضي والحاضر مستعيرا العبارة التي نحتها فيكتور هوغو في رواية البؤساء»…الجمال والعظمة يمكنهما أن يتحدا لرد قبح العالم وشره…»
تاريخ أوربا، تاريخ قاس، مُلطخ بالمجازر، تاريخ مواجهة التعدد الديني والعمل على بناء نموذج فكر سياسي…تاريخ حُزن بشري يردد صداه عند رواد الفكر الإنسي في مسرحية «العاصفة «la Tempesta لشكسبير، وفي مقالات مونتين، وحكاية دون كيشوت لسرفنتس.
وعبر محطات هذا الحزن البشري ، تأتي مسؤولية التاريخ والمؤرخ. يقول فرناند بروديل: «…يوجد التاريخ اليوم أمام مسؤولية صعبة ونبيلة…» ويمكن أن يلعب وظيفته الاجتماعية، وأن»…يصير فنا للقطائع، يُعطل نظام الكرونولوجيا، ويعرف كيف يُشوش ويُحير، وكيف يرُبك الجينالوجيات ويُقلق الهويات، ويفتح في الزمن فجوة حيث تستعيد الصيرورة التاريخية حقها في اللايقين، وبذلك تستضيف فهم الحاضر»…
العودة إلى الارهاصات الأولى لتشكل الحداثة السياسية ظلت دوما مقرونة بكتابات المؤرخ الفرنسي جول ميشليه، فميشليه هو من أعاد إلينا عصر النهضة، وأعاد إلينا تاريخ سلطة النهضة، وهو من أقنعنا بأن تاريخ كل سلطة لا يمكنه أن يكون سوى تاريخ مقارن للسلطة . والعودة التي صاحبت عصر النهضة هي التي جعلت فكر النهضة يضع المجتمع الإيطالي كأحد مختبرات الحداثة السياسية الأوربية منذ القرن XIII على مستوى الترتيب الاجتماعي للسلطة الرمزية.
مرة أخرى، مع بوشيرون، لماذا هناك حاجة إلى التاريخ في عالم مضطرب، في عالم يفرغ يوما بعد يوم من معناه؟ لأن درس التاريخ وحده من يُعلمنا كيف نستريح من عذاب الحاضر؛ لأن درس التاريخ بلام التعريف هو لحظة توقف لإراحة الضمير؛ ومناسبة لإنقاذ الماضي من جنون الحاضر بالمعنى الذي يبنيه نيتشه؛ لأن التاريخ علم تحول باستمرار، دائم الانفتاح على ما يتجاوزه وينقله. يقول ميشيل فوكو في شأن ذلك: «…التاريخ مُمتع بشكل هائل، إننا نكون فيه أقل عزلة وفي الوقت نفسه أحرارا… «. ومسألة الإمتاع والمؤانسة هذه، تتأسس لكونه فنا للتفكير؛ ودرسا للجمع والفراق، مثل أمواج البحر المتوسط التي كان ترسم السعادة على شعوب ضفتيه حينا، وتتحول إلى مقبرة حينا آخر.