في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي «.
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ « التواطؤات « الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟
كان مجتمع قرية «الحارة» التي ولدت فيها سنة 1945، على الضفة الشمالية لوادي درعة، متكونا من ثلاث فئات: ملاكون وخماسون، وملاكون يفلحون أرضهم. وكان الوالد من الصنف الأول مع أخواله وأسر قليلة، ثم تحول مع الاستقلال إلى الفئة الثالثة لاستغناء الخماسين بعمل أبنائهم. ولذلك كَيَّفَ فلاحتَه إلى العلف والتشجير، بحيث لا تحتاج إلا إلى يد عاملة قليلة، كان يستأجرها في الغالب. حاول في البداية أن يستعين بخدماتي فلم يجد لدي غير استعداد عابر، سرعان ما أصابه الفتور، فكان ذلك بداية حروب الاستقلال.
كان الوالد قد سحبني من الكتاب، وألحق بي مجموعة من إخوتي وأبناء وبنات العائلة، وشرع يحفظنا القرآن والأوراد والأشعار والأناشيد الصوفية. ثم استخلصني، وخصني من بينهم بالمرافقة اليومية، أتلو عليه ما حفظت، ويقص علي قصص الأنبياء وأخبار الصالحين التي كنت مغرما بها. حفظتُ الأوراد الدرقاوية، وكان من مريدي تلك الزاوية، بل أحد مقدميها النائمين، كما كان مُقَدَّمَ طلبة قرى ﮜـلموز كلها. اكتشفت انتماءه للطريقة الدرقاوية عندما سمعتُه ذات يوم خارجا من الدار مؤذنا بطريقة جميلة لم أسمعها من قبل. علمت من الوالدة أنه كان يهلل إيذانا بوصول مقدم الطريقة، أو شيخها، الذي كان في زيارة للمنطقة. لعل الضيف كان محمد الحبيب الذي حفظتُ أشعارا له من قبل.
هذا الرصيد المعرفي سيعفيني، كما أعفى أمثالي، من ثلاث سنوات من الابتدائي عندما التحقت بالتعليم العصري، حيث لم نقض في الابتدائي إلا ثلاث سنوات.
ثم تكشف جانب مؤثر من شخصية الوالد الخفية عندما زار قريتنا شيخ الزاوية الكتانية، حيث دخل الوالد في مشادة مع صديق له حميم من أتباع الزاوية الكتانية (مؤذن يسمى الفقير علي)، جاء الكتاني في ركاب الباشا الـﮜلاوي، وكان الـﮜلاوي قد أفرغ ثلاثَ رصاصاتٍ في قلب شيخ الزاوية البومسهولية الدرقاوية بإماسين. وبعد الاستقلال قليلة سأجد الوالد في حملة ضد الدستور الممنوح، ثم أسمع أن الشخصين اللذين يزودانه بالمنشورات قد أختطفا (سي محمد نايت سي كريم، أخو زوج عمتي، وحسن أمزوغ الكاتب الإقليمي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية). هذا هو البعد الثاني الذي استوعبته بسهولة من شخصية الوالد.
بعد الاستقلال عملت الحركة الوطنية على تعميم المدارس على القرى المغربية بشكل يبدو اليوم معجزا. كانت تكتفي بتوفير العوارض الخشبية للتسقيف، وتعيين المعلمين، ويقوم سكان القرية بالبناء والتكفل، بل والتكفل بمؤونة المعلمين، أحيانا. حين التقى الوالد بمعلم الفرنسية بدأ يرطن معه بجمل فرنسية أحرجت المعلم نفسه، أما معلم العربية فقد أزعجه بالحديث عن تحديد النسل، كانت فكرة غريبة. علمت بعدها، ولأول مرة، أنه كان قد هرب من القرية متمردا على أخواله، رافضا لتسخيرهم له في حراسة القصر. فتعلم الفرنسية من رفقة طويلة لمهندس فرنسي رافقه سنوات في إنشاء الطريق من الدار البيضاء إلى واد الرمان، قرب فاس. وعلمت أنه تلقى القرأن من شيخه أحمد بن المعطي بنفس الطريقة التي لقنني بها. حفظه بعد أن تزوج وصار أبا، ثم اشترى البخاري ومسلم والجلالين، والكثير من كتب التفسير والفقه، وصار فقيـها مشاكسا لنفسه ولمحيطه.
وهذا هو الدرس الثالث الذي تعلمته من الوالد، ليس هناك شيء لا يمكن استدراكه. فاستدركتُ الخصاص اللغوي الذي كان يعاني منه التعليم الأصيل، واستدركت الاطلاع على منتجات الحداثة في مجال التخصص. أدركني أبنائي في مقاعد دراسة اللغات (الإنجليزية خاصة)، وشاركوني في قاعة المصارعة. وشعاري هو شعار الوالد: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه».
كان الوالد يبني عندي شخصية عنيدة مثلَ شخصيته، ولكنه كان يريد، أو يتمني خطأ، أن تظل تحت جناحه. فمن هنا بدأ الاصطدام، وفررت من المنـزل في سن مبكر، عانى الكثير في سبيل عوتي، ليرفع شعار: «قالوا لقدام: طيعوهم لا يعصوكم. تقدو لكتاف». (قال القدماء: أطيعوا أبناءكم حتى لا يعصوكم، تساوت الأكتاف). وبعدها صار يتعامل معي كشخص مستقل. انطلق لسانه وصار يحكي عن ماضيه، ويفسر أسباب كدمات في جسمه، وصار لا يتشدد في الأكل مع تارك الصلاة. حكى أنه كان يتعاطى مخدر الكيف بقوة، ويعيش حياة الفتوات، ثم وقعت حادثة غيرت مسار حياته بشكل نهائي. رحمه الله.