مبدعون في حضرة آبائهم 57 : محمد جليد : الابن.. شبيه أبيه ونقيضه

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

دعوني أقول، منذ البداية، إنني لست كافكاويا في علاقتي بأبي، ولا أماثل جميع من ماثلوا كافكا في علاقاتهم بآبائهم. كما أنني لا أستشعر ذلك الكره الأوديبي- أو بالأحرى الفرويدي- تجاهه نهائيا. لكني شبيهه ونقيضه في الآن ذاته. شبيهه في اللغة والهوية والانتماء. نحن الاثنان عصبة واحدة. أمازيغيان جبليان نأبى التخلي عن جلدتنا وهوانا وذاتيتنا ونظرتنا. وأنا نقيضه كذلك، لأنني لم أرث عنه قوته البدنية وهدوءه وبسمته وبصيرته العميقة وحكمته الحياتية. ولم أكن أبدا متعبدا ورعا في محراب الصمت مثله، بل كنت ثائرا متمردا، مشاغبا، صاخبا، مفتقدا للرصانة والرزانة، لنقل شيطانا صغيرا. ولم أكن مفتول العضلات، بل نحيفا مهزولا، غير أنني أحاول، منذ أن بلغت سن النبوة، أن أشبهه في صمته وابتسامته القاهرين.
تعرف عليَّ أبي في أيامي الأُوَّل- ربما في يومي الأول- وأنا نطفة، كما يقولون. وتعرفت عليه، عندما بلغت الثانية، أو الثالثة على أبعد تقدير. كان هو في الخامسة أو السادسة والعشرين. لم أعد أذكر كيف تعرفت عليه. أخبرني أنني ناديت عليه أولا، قبل أمي، باسم: “بَّا”. كان يهدهدني كلما بكيت، ويغني لي نشيدا أمازيغيا لا أذكر منه سوى مطلعه: “درارا مَمِّي، لالي مَمِّي” (سعدي بولدي، فرحي بولدي- الترجمة تقريبية).
كم فرحت، عندما أمر والدتي، ذات مساء بعد عودته من العمل، بأن تأخذني في اليوم الموالي إلى “المسيد”. كانت سعادتي كبيرة بهذا الخبر، لأنني كنت أغبط ابن جيراننا الذي كان تلميذا في السنة الثالثة ابتدائي حينها، ولأنني كنت أتوق أن أتأبط محفظة مثله وأعيش نفس الحكايات التي كان يرويها لي عن المعلمين واللعب الجماعي في ساحة المدرسة وشيطنات الأطفال الصغار، الخ.
لم يكن يرافقني إلى المدرسة، لا هو، ولا أمي، مثلما يفعل كثيرون من الآباء اليوم. لكنه كان يودعني في باب بيتنا المتواضع بعبارته التي لا يمل من تكرارها كل يوم: “كن راجل!” عندما كبرت وصرت رجلا، ألححت عليه في شرح لازمته هذه. أخبرني بحرقته التي ظلت تلازمه طوال حياته، كونه لم يتمكن أبدا من الالتحاق بالمدرسة. لم أكن أعلم أنه يداوي، بإدخالي إلى المدرسة، جرحا غائرا في نفسه. قال لي إن جدي- والده- قدم كبشا رشوة- لا أدري لمن بالضبط- ليخرج ابنه من المدرسة، حتى لا يصير مثل النصارى. حدث ذلك في أواخر عهد الاستعمار الفرنسي، عندما اشتدت المقاومة في الجبال ضد المحتل الفرنسي (لا بد من الإشارة هنا إلى أن فرنسا أجبرت، قبل ذلك ببضع سنوات فقط، الكثيرين من أبناء بلدته على اللحاق بجيشها في جبهات قتال النازيين).
فهمت أن الرجولة تعني شيئا واحدا فقط: ألا أحيد عن دراستي قيد أنملة. لم يكن يريدني أن أبقى أميا مثله، ومثل أمي وجدي وجدتي وأعمامي وأخوالي- ألم أقل إنني نقيضه أيضا؟ أحببته كثيرا بفضل كرمه وحرصه وتفانيه في توفير طلباتي حتى أصبح إنسانا متعلما (قاري). أدين له بفضل كبير في ما أنا عليه اليوم. حتى عندما كانت تراودني الرغبة، في بداية مراهقتي، في ترك الدراسة، ظل “يسايسني” حتى تجاوزت تلك المرحلة وعانقت حب الدراسة والتعلم من جديد.
ظللت أستشعر اليتم الذي عاشه منذ طفولته، بعد أن مات جدي فجأة. كنت أنوي، عندما صرت صحافيا، أن أصبح أبا له، على جري عادتنا الأمازيغية التي تجعل الأبناء بمثابة صندوق تقاعد وضمان اجتماعي لآبائهم. كنت أعتزم أن أحقق أمنيات طفولته، كأن نسافر معا ونتعرف على العالم سوية، وربما أساعده على الدراسة، وإن اشتعل رأسه شيبا. لكن إصابته بداء السكري- التي أخفاها عنا سنوات طويلة، حتى لا يقلق راحتنا بمرضه ربما- حالت دون تحقيق كثير من هذه الأمنيات. حالت وفاته، قبل نحو ست سنوات، وهو بعد في الثانية والستين، دون اكتمال مسيرتينا معا؛ أنا في حضرته، وهو في حضرتي.
أنا الآن مجبر على استكمال مسيرته بطريقة أخرى. إنني أشعر اليوم بضرورة كتابة ملحمة أبي، هذا الرجل الجبلي البسيط الذي اضطرته ظروف حياته القاسية إلى أن يشق طريقه- وطريقي أيضا- من غير أن يتوكأ على شيء. مازلت عاجزا، إلى اليوم، عن فهم حكمة أبي- هذا الإنسان الأمي الفقير الذي بدأ حياته راعيا، قبل أن يصير مزارعا بسيطا- وإدراك قدرته على أن يتحمل تكاليف الحياة الباهظة وعناءها المتعب، لكي يجعل مني إنسانا متعلما، صار الآن صحافيا ينقل الأخبار، ومترجما يعرب الأفكار. أرى الآن، في حضرة غيابه، أن ملحمته لا حدود لها، بينما لا معرفة مكتملة لي بها. وا أسفي على الزمن! فهل ستسعف الكلمات لتحبيرها في مستقبل الأيام؟ لا أدري، لكني سأعيش على ذكراها طويلا، بما أنني لن أعيش في حضرة أحد، في الأمد المنظور على الأقل.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 09/09/2019