متخيل الذات وسؤال الهوية في السرد النسائي : رواية زهور كرام «جسد ومدينة» نموذجا

1 – في البدء كانت الحكاية

ظل حبر الروائية زهور كرام –الذي تنوع قطافه الإبداعي بين الرواية والنقد- يخفق شغبا بانِيا لجوهر الجمال الناطق والحقيقي، سخِيا في طرح القضايا الساخنة؛ يطرقُ بابَ التمرد على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، مشعلا فتيل ضياء السرد. حبر كاتبة مشهود لها بجرأتها وشجاعتها المعرفية والثقافية، تعلن موقفها دون مواربة أو خفاء وهي تحدثنا عن كوة ضوء، عبر احتراف هتك الحجب واستنطاق المساحات المسكوت عنها، وكشف المعاني الإنسانية الثاوية في أعماقها. تصيخ السمع لنبضات نصوصها بغية الوصول إلى عمق بوح إنساني قائم على تنوع كوني وشمولي، ممتد إلى تطلعات الإنسانية الرحبة التواقة إلى باحة سِلم وقت انبلاج فجر الحرية.

2 – يسألونك عن «جسد ومدينة» قل هي:

رواية مصنوعة بذكاء، تحمل بين طياتها حبكة مثيرة ومشوقة، أصرت ‹›زهور كرام›› بإصدارها على ضخ دماء جديدة في صلب الكتابة السردية، محاولة تشييد جسور إبداعَ كاتبةٍ في جعبتها ما يبشر بمستقبل سردي به عمق، وروح، وحياة. فعندما تكون الحروف تائهة على الشفاه، فيعقد معها الكلام؛ ينبثق السرد ويتغلغل الدفْء إلى الأعماق؛ ليتسرب من ثقوب الأيام مزيج من عطر الحكايا.
رواية وأنت تقرأها تطالعك باقات نرجسية فواحة من خلجات النفس والروح والذاكرة؛ ونبض الوجدان. حاملة في ثناياها الشعور الإنساني المدثر برداء المعاناة، والمزمل بوشاح الاغتراب، المستعر بلظى نار التهميش. حتى أضحت صرخة في وجه الظلم والفقد.
رواية يغازلها طيف شهرزاد الذي راود المرأة طويلا كقدرة سحرية على الرواية الشفهية. فما كانت شهرزاد تقصه همسا على رجل هو السلطة، ولهدف واحد ظاهره الاسترضاء، وباطنه تحرر وانعتاق، أصبحت ترويه كتابة لجمهور لا تعرفه، دون التباس أو استئثار أو استرضاء، مؤكدة توقها الى التعبير والحرية والابداع. تقول الساردة: ‹›لا بد أن أنظف تفكيرك كنت أقول أن أرمي بك في دوامة التفكير.. بعدما اكتشفت أن الصراع بدأ يعرف طريقه إليك… لكن لم أكن أود أن يستمر الصداع طويلا.››(ص48). فأذكت نار متعة السرد بلا هوادة. ودخلت معبده وهي تلامس جوهر القضايا الإنسانية مع تركيزها على ذات المرأة، وإبراز انشغالاتها، باعتبارها سيدة المقام في الكتابة الإبداعية. كما سعت للإنصات لإيقاع نبض المجتمع، ومحاولة خلخلة السياقات المتجذرة التي تسهم في استمرار الوضع، فأخذت من الحياة فوضى لتخرجها نظاما، والاضطراب لتصوغه ترتيبا، والانطماس لتجلوه نورا. تسعى للوصول إلى طريقة للتعبير توازي ما تحس به من تعقيد في وجودها، ‹›ألا تعرفين أنه ناتج عن فوضويتك.. أنت بهذا ستظلين محط شك كل المناخات، لأنك لم تلتحقي بأي مناخ بعد… كالنحلة تنتقلين بين الهنا والهناك… أعترف أنك تحملين قلبا يتسع لكل الأفكار الجميلة.. لكنهم مصرون على قطع جناحيك.. أعرف.. أعرف ما ستقولين.. أنك اكتشفت التناقض.. سلوك بعض عناصر المناخات تدمر حلم الالتحاق.. لكن ميزي بين العنصر والمناخ وقرري››(ص48). فتوحي عن طريق التضاد المباغث، وعن طريق اللاتناسق والتناسق معا ما تحس به في حياة خبرتها عن كثب، عبئا يثقل كاهل ذات المرأة كما الأراضي الخالية عرضة للرياح التي لا تبقي على شيء فيها ولا تدر. فهي النثارة التي تجمعها الروائية في آخر الرواية لتقذف بها في وجه خرائبها، وتدعم بها برجها المنهار. تقول: ‹‹لكن الجذع يبقى راسخا يمتص رحيق الأرض… فتولد أغصان جديدة›› (ص79).
رواية تستجيب لأسئلة الذاكرة، والحياة عبر اختيار فضاء وشخوص روائية نابعة من عمق الواقع، رواية تجسد بوحا صريحا لما يختلج سرائر وكينونة ذات المرأة؛ من إرهاصات ترتبط أساسا بواقع مليء بثقوب التقاليد المقيدة.
رواية تكشف عن ثقافة وواقع مجتمعها الذي تنتمي إليه، ورغم تشابه بعض الموضوعات التي تناولتها بعض الكاتبات، إلا أن كلا منهن عبر عن رؤية وخطاب مختلفين، ففي الأدب: ‘’لا نكون أبدا إزاء أحداث أو وقائع خام وانما إزاء أحداث تقدم لنا على نحو معين، فرؤيتان مختلفتان لواقعة واحدة تجعلان منها واقعتين متمايزتين’’.

3 – الكتابة فعل تحرري وانعتاق الذات من سجن الآخر

حققت شخصية شهرزاد طموح انعتاق الذات الأنثوية، فاستطاعت بالاستمرارية والتحدي والقدرة على الإبحار في دهاليز الحكي أن تتغلغل في أعماق الذات الجماعية، وتعبر عن فضاءات الكائن والممكن. وهي مسكونة بفكرة انعتاق الذات، والبحث عن فضاءات أرحب للحرية وتحقيق الوجود، والدفاع عن الحق بالتعبير والإبداع، في محاولة دؤوبة لمعانقة جماليات الكلمة في أقصى درجات اشتغالها وبوحها ومعاناتها. تقول الدكتورة فاطمة المرنيسي في كتابها ‹›شهرزاد ليست مغربية››: «السرد فن ننجح أو نخفق فيه لكننا نحتاجه لنحيا ونجعل الآخرين يحبوننا، يجب معرفة الآخر جيدا لإغوائه بشكل أفضل». فليس خافيا أن شهرزاد قد أنقذت حياتها من الموت بالحكي، مستخدمة سلاحاً بتاراً حطّم عنفوان شهريار وجبروته. ومن ثم جُعِلت شهرزاد نموذجاً لقدرة المرأة على إنتاج الكلمة/الخطاب الذي يحررها من بطش سيّاف الملك شهريار.
فلا غرو أن يأتي اهتمام المرأة بالكتابة عبر مواجهتها لطريق مسدود حَدَّدت هندسته الثقافة الذكورية السائدة التي عملت على وضع كينونتها على هامش المجتمع، وبذلك اجتاحت كتابة المرأة نزعة امتلاك الوعي بالذات الكاتبة، بالإضافة إلى امتلاك شرط الحرية في التعاطي مع هذه الممارسة الثقافية، فأصبح للكتابة وظيفة مزدوجة تنتقل من فك الأغلال الخارجية إلى تحرير القيود الداخلية، تقول الساردة: تقول: ‹›لماذا تكتب؟.. سالتك مرة…لأني عنيد، اجبتني… ما علاقة العناد بالكتابة؟… إن في الكتابة عنادا، وفي العناد أملا، والأمل هو الوقود للمضي نحو الافضل، حين أكتب فاني أصر على معاندة واقع يحاول تهميشي›› (ص78).
فانفتحت الكتابة على لغة اللاوعي، واعتبر فعل التخييل عند الكاتبة عاملا من عوامل استعادة الأنثوية وانتشالها من منظومة الخطاب العام، ورافدا من روافد الرجوع إلى موقع السؤال والمبادرة، وقد تأتي هذه المواجهة بإعادة تركيب العالم على المستوى الجمالي في نسيج لغوي حالم ينبثق من الصمت ليفجر؛ السكون ويمارس بطلاقة عملية خروجه عن السائد أو عملية الدخول إلى مغامرة تتحول فيها المسلمات إلى تساؤلات والبديهيات إلى إشكاليات’’.
وفعل الكتابة هو لمواجهة كل من سولت له نفسه ورغب في تهميش هذه الذات، وجعلها في مصاف النكرة، وكإرادة للذات من أجل التغيير، تغيير المجتمع المستبد، المصادر للرأي. والخروج من ‘’جُبَّة العمة’’ وتمزيقها، كما جاء على لسان بطلة رواية ‹›قلادة قرنفل’’ الذي تقول فيه: ‹›أخرجت أوراقا بيضاء من درج المكتب وهممت بالكتابة، تركت نفسي مسترسلة مع الورق.. لم أرفع عيني، لم أنتبه إلى زملائي الذين يدخلون ويخرجون دون أن أرد عليهم التحية، منكبة أنا في التهام الحروف، أجمعها أرتبها… أشكلها جملا صارخة بي رغبة للإفراغ… كأني أحمل أثقالا… كأني أرفع أحجارا… كأني أتطهر… أكتب ثم أكتب… عيني على يدي… يدي على الورق… والورق تحتله جمل أراها تشع… تبتسم… تحكي… هم يدخلون ويخرجون وأنا منتشرة بين الحروف أعانقها، أيعقل أن يلد العشق كل هذه القوة’’. فالكتابة عندها تحرر وولادة من جديد. فالمرأة حين تكتب، فهي تكتب ذاتها، وتحقق كيانها بدون رقيب أو وسيط. كما يعد فعل الكتابة انعتاق من ضغوط البيئة، وأحكام القيم والأعراف وضوابط الأخلاق. ومن ثم فهو فعل تطهير للنفس، وتفريغ للمكبوت ما تعززه أحلام مستغانمي في روايتها ‹›ذاكرة الجسد’’ حيث تقول: ‹ لا تبحث كثيرا… لا يوجد شيء تحت الكلمات، إن امرأة تكتب هي امرأة فوق الشبهات لأنها شفافة بطبعها إن الكتابة تَطهرٌ مما يعلق بناء منذ لحظة الولادة …ابحث عن القذارة حيث لا يوجد أدب’’.
الكتابة عند المرأة تجاوز، واختراق، للمألوف والثابت، بعد أن تحولت المرأة من كونها ‘’الموضوع’’ إلى موقع ‘’الذات المنتجة’’، ذلك أن طموح المرأة الكاتبة يتغيا إنتاج نص حداثي خاص، وهو طموحها الاجتماعي لكي تنجز فكرا يعترف بها وبوجودها، لتكون ذاتا جديدة، أو لتُكَوِّن كتابة مختلفة .وما كتابة الذات إلا قراءة الذات أولا كما تقول الدكتورة زهور كرام في كتابها ‹›السرد النسائي العربي مقاربة في المفهوم›› ما يلي: ‹›ولعل مفهوم قراءة الذات ينسجم وواقع الذات المغيبة والمهمشة التابعة. إن المشروع الذي تنطلق منه المرأة–المبدعة ليس إعادة كتابة الذات التي ما تزال مطروحة للسؤال والتداول، ولكن قراءتها في أفق البحث عن إمكانيات عودتها إلى وضعها البشري-الطبيعي الذي يسمح لها بممارسة التفكير والاختيار والقرار بدون وسيط أو شرط››.
إلا أن حرية المرأة في التعبير تكبلها قيود الرقيب الذي ما فتئ يتتبع كل خطوات هذا القلم، الذي أبى إلا ان يصرخ فوق بياض صفحات السرد، معبرا عن كل رغباته. تقول الساردة ‹›أينما وليت وجهك فثمة الرقيب، الملازم لكل حركة.. عدوى الرقيب عمت وانتشرت وأصابت المواقع المواجهة لا كلام.. لا حركة.. لا حب.. لا عشق›› (ص76). الأمر الذي تمجه كل امرأة لم تجد إلا هذا القلم يآزرها ويشد من عضدها لكي تبني ذاتها. تقول زهور كرام في كتابها ‹›في ضيافة الرقابة›› معلقة على أمر محاكمة ‹›ليلى العثمان›› بسبب مقاطع سردية التي لو جاءت على لسان رجل لما حوكم، موضحة أن المرأة حين تكتب تحقق العالم بشكل تخييلي، فلا علاقة للأمر بحياتها الشخصية. ثم تساءلت فيما إذا كنا نتخلى-عندما نقوم بتحليل كتابة المرأة- عن ذاكرتنا، وأساطيرنا، وتعاقداتنا الاجتماعية. كتابة المرأة تفضح ذاكرتنا، وخلفيتها، بل تفضح نظام هذه الذاكرة، وهل بالفعل استطعنا أن نفكك الذاكرة بالمعرفة، أم أن المعرفة تظل شيئا جانبيا نأخذ منه ما نريد ساعة ما نريد، ونتركه حين لا نريد.

4 – ذات المرأة بين سلطة الواقع وسؤال الانتماء

لم تختلف الصورة الذهنية للمرأة إذ شكلت نموذجا ثابت الملامح يتكرر في مجمل الروايات، المرأة الضحية، المرأة المضحية، امرأة فرض عليها المجتمع عاداته، وتقاليده التي تراها جسدا ملغما بلا أحاسيس أو مشاعر، لذلك فهي كما تقول الساردة: ‹›تشعر بالظلم في أقصاه، تلمسه في ارتعاشة نفسها.. في حشرجة حنجرتها، في الدمع المنحبس في عينيها.. إنها تقرأ الظلم في كيانها.. في فكرتها.. فالمسألة لم تعد مجرد نبش لجزء من الجسد.. إنه تداخل سافر في فكرتها، الفكرة التي ألهمتها التسكع لتعيش الهذيان مع المطر.. أو لنقل لتعيش فكرتها.. الآن، بفعلته يلوث حياة الفكرة.. فالشارع صار ملكا له في هذا الوقت المتأخر من الليل›› (ص13).
ستبقى ولو إلى حين خاضعة لسلطة الأهل والمجتمع، ولن تمارس حريتها خارج أسوار الأعراف والتقاليد، وذلك انطلاقا من المرجعية الجمعية التي تحملها ولازالت تسيطر عليها، وتبعا لهذا يكون تصور المرأة لذاتها امتدادا لمنظور الرجل إليها في الواقع، أي نتاج عملية تفاعل طويل بين ما هو واقعي، وما تسقطه هي على واقعها من رؤية ذاتية، أو بمعنى آخر إنها صورة تمر بمصفاة الذاتية، وتصطبغ بلونها وفي الوقت نفسه لا تفلت من منظور الرجل/المجتمع إليها. بل تظل مجرد انعكاس وامتداد له، وفي الوقت نفسه تتوق للتحرر والانفلات، حالة حيرة تعيشها بين ألم النموذج وما يمثله من سلطة الأعراف، وأمل الانعتاق. تقول: «كيف أحرر نفسي من النموذج، كيف انطلق، اتذكر يا ابراهيم أول يوم تجرأت بكلمة قبيحة في حق والدي..، والدي الرجل المحترم.. المثالي.. وكيف أخون هذه الصفات. لا، لن أفتح عيني سأترك الرمانة كما هي.. والدي كل شيء في حياتي.. إنه يختزل حبي.. كثيرا ما كنت تناقشني عن ضرورة الفطام.. شيئا فشيئا ألحقتني بثقة كبيرة بنفسي مهدتني للدخول في حوار مع النموذج من يومها رغبت في قتل النموذج بداخلي.. لكني أتحرر وأعيش أفكاري.. لا بد لي أن يكون لي صوت منفصل.. صرت أبحث عن خطأ آدم في وجه أبي، أترصد ملامح السنين في هذا الوجه.. أسعى لضبط لحظة سرقة.. ألتصق وراء الباب.. أركز السمع.. علني أضبط انزياحه.. كيف يعقل ألا يترك أثرا لجريمته..›› (ص80).
فلا مناص من قسوة هذا النموذج؛ ولكن الأقسى منه هو حين ينظر إليها على أن هذه الذات هي فقط مرتع للمتعة وحسب، وتجرد من حق الدفاع عن كينونتها، وإثبات حقها البسيط في التجوال في الشارع ليلا والهذيان مع المطر. فقط لأن ذاك ليس من حقها، وأن الشارع ليلا هو من حق الرجل. تقول: ‹›تنطلق ضحكاته من قلب السيارة ثم يخرج وجهه من جديد: (الله، الله، هذه المرة طحت مع مثقفة)… يتطلع فيها.. يتفحص وجهها (خلينا من كلام الكتب وأجي نقضيو شي ليلة زوينة›› (ص12). تتكرر هذه النظرة الذكورية إلى المرأة بصورة بارزة، حتى لتنسحب على شخصية ذكورية موظفة في الرواية والتي تحلم وتتمنى تحقيق هدف واحد هو مضاجعة المرأة، ومن ثم تحويلها إلى انتصار يضيفه الى قائمة انتصاراته، فتصير بذلك موضوع متعة. لكن لا يلبث أن تهدم هذا النموذج الذكوري الجاذب، وتحيله إلى تمثال من شمع يذوب مع أول اقتراب حراري أنثوي منه، وهو إجهاض أو تدمير القيم الذكورية. تقول الساردة: ‘’كادت أن تبصق في وجهه لولا أن تواجدها مفردة وفي هذا الوقت المتأخر من الليل جعلها تشد على شالها وتهرع.. لا فائدة من المحاورة.. إنها مكيدة الشارع.. قد يجعلها الأمر تتنازل عن لعبة التجربة.. ستتابع سيرها.. إنها على وشك الوصول.. يبدو البيت على مقربة’’ (ص13). بدأت بالظهور مخاتلة، وعلى استحياء في بداياتها، مختبئة خلف الحلم والخرافة والتجسيد، ثم بدأت تظهر رويداً رويدا، تتخلص من أقفاله، وتحاول التنصل من آثاره. وتقاوم حصاره، وتحلم بالتحول وتكسير القيد والأسر في مختلف تمظهراته، تقول: ‹›إن مجرد الركوب في الحافلة يعني تغيير الزمن.. زمن قريتي النائية التي تذوب في صمتها التاريخي.. لم أكن أعرف ما أرغب فيه وأنا أغادر قريتي لمتابعة الدراسة الجامعية هنا.. فقط كنت أشعر أني أحمل هما ثقيلا فوق صدري.. لكن النموذج الآتي معي من هناك كان يعطل خطوي في البداية، فحين أعشق التسلل من نموذجي وأنطلق في شوارع المدينة، يشمخ نموذج أبي أمامي ويعيدني إلى صوابي كما يعتقد أهل قريتي، يجب أن أعود كما جئت من هناك رمانة مغمضة وإلا لن يجرؤ والدي على الاجتماع مع أهل قريتي مساء عند بوابة المسجد›› (ص80). وهي تخون ‹›النموذج›› يجعلها على عتبات الندم، فإقدامها على اقتراف فعل ‹›ركوب الحافلة›› يعد مَعْبرا للحرية والمتعة التي حرمت منها ولم ينصفها أحد. كما ولّد لديها سلطة الخرق، وتكسير المألوف، بحيث أضحى تحقق فعل الذات لديها رهين بالخروج من دائرة الخنوع والاستسلام إلى فضاء المواجهة والتحدي. فحينما تصطدم الذات بالوجود؛ فإنها تعجز عن تحقيق تطلعاتها وأحلامها لأنها عندئذ تتحرك وتسير وحدها، وتظل محبوسة في إطارها الضيق مادامت تؤمن بمنطقها ونظرتها الخاصة في تقييم الوجود. فلا مناص من أن تعيش صراعا وهي تفتقد كل عناصر امتلاك الذات والتصرف فيها والتعامل مع إمكانياتها وقدرتها في التفكير والاختيار. فهي تابعة للأب ملحقة بالزوج، وبهذا تظل المرأة حاملة لهوية غير مستقلة، بل هوية تتغير حسب تغير مواقعها. تقول: ‹›بقيت مرمية فوق السرير تشهق بكاء.. لماذا هذا البكاء؟ هل هو دليل ضعف متوارث.. هي التي أغوتها فكرة التبلل والهذيان مع المطر.. ألم تعلم مخاطر الطريق›› (ص 14).
بریشة دقیقة يُرْسَم تيه ذات تلوك قسوة الخذلان، وصور المعاناة التي تلقي بظلالها الكئيبة على ذات المرأة، وتشدها إلى قاع الرتابة والإحساس بالضياع مثقلة بالآلام، مضمخة بالحزن على ما مضى؛ والتحسر على ما بات سائدا وهي تسير في طريق الحياة علّها تحظى بساعة انبلاج فجر الحرية.
تحضر وضعية المرأة  باعتبارها ذاتا، وكذلك موضوعا وهو حضور أثر في شكل السرد، فتعمد إلى تقويض المفاهيم المغلوطة، وإلى تغيير مواقف الرجال حيالهن، وعملت على أساس أن تغيير الموقف الاجتماعي. وهذا الشعور الطاغي بالدونية تداريه مشاعر نرجسية كآلية الدفاع عن الذات في مواجهة الآخرين، وهي ناجمة عن الشعور بالقبح، أو بانحطاط المستوى التعليمي أو المهني أو الأسري، أو الاجتماعي، مما يولد عقدة الشعور بعار الفضيحة الناجم عن اطلاع الآخرين على مواطن الضعف. مما يحدو الشخصية الروائية إلى ممارسة سلوك التغطية أو التمويه لمدارات عارها الاجتماعي. فبين رفاث من أمنيات سحيقة تنقب الذات عن خلاص، عن فجوة صبح تسكب تباشير شمس وفية تداري اختناقا وثقلا قاسيين. فتقول: ‹›سأعلن انتمائي بصرخة طفلي… بعودة سعيد… بإحياء أسئلة ابراهيم الذي كان يشيع المدينة كل يوم جنازة ليفضحها أسئلة››(ص88). فانتماؤها وإثبات هويتها لن يكونا إلا بالارتباط بالآخر. فهي كذات مستقلة لا تستطيع الإطاحة بالكثير من الأصنام التي لم تزد وضعيتها إلا تأزما وتهميشا واحتكارا.
على سبيل الختم

زهور كرام روائية رسمت بسردها وثقافتها لوحة جمالية، طرزتها بأدبها الأصيل، وزينتها بدخيرتها المعرفية. ولأن الزمن الإبداعي لا يقاس بالعمر البيولوجي، فستظل هذه المبدعة المتمردة القلقة الحالمة خالدة، ستتجلى مشرقة كلما أظلم ليل في وجه الإنسان. فما زال لها حلم الكتابة والإنتاج طالما قلمها متوهج ينبئ بالإبداع والإمتاع.


الكاتب : جميلة رحماني

  

بتاريخ : 01/05/2019