{ لذلك فالواجب الضروري المطلوب المرغوب والمنشود المفقود ليس الرحيل « ميتا فارغا» إلى المأوى والمثوى الأبدي الأخير في روضة ومقبرة «أغنى أرض في العالم»، بل بعودة الروح و»بمحو اللوح» والكتابة عليه من جديد وبالصحو من الموت في الحياة، و «الإفراغ» الذاتي الشامل والكامل والتام و «دياليز» غسل الدماغ وتنقية الدم من سم جميع التابوهات والترهات والإكراهات، والامتلاء بالجديد والحديث العلمي والتكنولوجي والمعرفي الفلسفي والأدبي والفني والتخلص والتحرر من كل القيود والمقالب والقوالب الجاهزة للعلاج والدواء والعاجزة عن الشفاء، وبالعمل الإبداعي والفعل الاجتماعي وجمال النضال ونضال الجمال الإلهي والطبيعي والعلماني الإيمان العقلاني والديوان الإنساني.}
من كتب ما يسمى «بالأدب الذاتي» هناك الكثير مثل «مت فارغا» Die Empty ,، _داي إيمتي_ المترجم إلى العربية للكاتب الأمريكي تيد هنري.
وما دام الكتاب يقرأ من عنوانه كما يقال، فإن بإمكانه أن يفصح عن «أدبه الذاتي» من خلال إعلانه والقول التالي عنه إنه :» من الكتب الأكثر إلهاما وتحفيزا في الأدب الذاتي»، و»يقدم نصائح قيمة حول تحقيق أهدافنا والعثور على معنى لحياتنا» و «حول فكرة أن الإنسان يجب أن يعيش حياته بطريقة تجعله يشعر بالإشباع والرضا» إلخ وهلم خيرا وشرا وذلك «بالتفكير الإيجابي» والعمل الإبداعي والفعل الاجتماعي، وبذل الإنسان «لكل» و «أفضل ما لديه» و «إفراغ جميع ما فيه « وتقديم نفسه فداء للعالم كله وقربانا للبشرية جمعاء والعيش عاملا مفيدا وفاعلا مؤثرا وراضيا وسعيدا أو شقيا بالعيش فقيرا أو غنيا وحيا، و»ميتا فارغا» حالما أو واهما بحسان وجنان العالم الآخر، الذي لم يعد أحد منه ليخبر أنه في النعيم أو الجحيم على حد قول الشاعر الحكيم بشار بن برد المفكر العقلاني والرائي الضرير البصير:
ما جاءنا أحد يخبّر أنه
في جنة من مات أو في نار!
إن هذا الكتاب الصادر أول مرة عام 2013 كان هو ذاته «إلهاما» وتنزيلا أوحى به إلى كاتبه «مدير أمريكي» عندما قال للحضور سائلا: «ما هي أغنى أرض في العالم؟» ومجيبا عندما «اعطاو حمارهم»: «بل هي المقبرة!» لماذا؟ لأن الملايين من الناس دفنت معهم فيها أفضل «الأفكار الغنية» التي لم تر النور ولم تفد بشرا!
وهذا الحكم ب «الإفراغ» أشبه ما يكون بإخلاء دار الحياة الدنيا ودنيا الحياة الحقيرة والإخراج منها، وترك مالكها أو مكتريها لكل وأفضل ما لديه فيها والذهاب إلى «الموت فارغا» ومفرغا ومفروغا منه وخاوي الوفاض وخالي البال!
ما هي هذه «الطريقة» والبلاد التي يعيش بها الإنسان حياته «مشبعا وراضيا» عنها تماما، وما نمط هذه الحياة الذي يجعله «مفيدا وسعيدا» ويشعره «بالإشباع والرضا» ويحقق له «أهدافه» ويعثر فيه على «معنى للحياة» ؟ إنه بالتأكيد ليس سوى عيش الحياة «ميتا فارغا» ومفرغا منه على حد أقوال الكاتب و»الأدب الذاتي»، وسبيل ومثال ومنوال النمط الرأسمالي الاستغلالي الإمبريالي وبأسلوب «التفكير الإيجابي» وتطبيق نصائحه لتحقيق أهدافه واستنزافه، وبذل كل ما فيه وأفضل ما لديه بكل تفان ونكران أو إنكار لذاته في حياة هذه الدنيا ودنيا هذه الحياة الحقيرة للوصول إلى دنيا الحياة العليا وعليا الحياة الدنيا السعيدة المنشودة والمفقودة، والحصول على المبتغى والمؤمل والمرتجى والرحيل في آخر المطاف إلى مثواه ومأواه الأبدي الأخير «ميتا فارغا» ومفرغا ومفروغا منه ليلغى ويشطب عليه من سجل الأحياء والكائنات، ويمحى من الوجود العبثي الحياة والموت، في روضة ومقبرة «أغنى أرض في العالم».
وذلك كله أو جله من قبيل ما يسمى في الشعر «بالموت في الحياة» وفي النضال «بنكران الذات» وفي كل مجال مدني وديني وثقافي وسياسي بيجب وعليك وينبغي واعمل وافعل وقل وصدق وآمن «بإجماع» ما له ذكر على كل لسان طويل، وليس له أثر علمي وأي دليل، ولابد من قبول فرضه والإيمان به إيمان العجائز جملة وتفصيلا ولا سبيل إلى تكذيبه ورفضه ومجرد الشك فيه وطرح السؤال عليه.
منذ الحصول على شهادات الميلاد إلى التقييد في سجلات الوفيات و شاهدات القبور على النسيان والسلوان،تحشى وتشحن رقائق العقول البليدة الذكاء الاصطناعي وصناديق الجماجم والأذهان والهياكل البشرية الشوهاء والبلهاء بما لا يحصى ولا يعد ولا يرد ولا يصد من «الأفكار الغنية» والغبية التي تفرض رغم الأنف ولا ترفض مهما تكن أخطارها وأضرارها على حقوق وحقول وعقول الإنسان.
وبالتالي فإن ما يأمر به كتاب «مت فارغا» أن يعدم الإنسان نفسه في الحياة ويقدم للعالم -الرأس مالي- نفسه ورأسه قربانا وأن يدفنه حيا ويؤلينه ويشيئه ويدجنه، ويمتص منه كل ما فيه وأفضل ما لديه مقابل أن يخسر ذاته والعالم كله معا على حد قول الكتاب المقدس سائلا ومجيبا: «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟».
وفي خاتمة الكتاب: «مت فارغا» وتصديرات فصوله بآراء الكتاب المفكرين والشعراء ما يؤكد «إفراغ» الحي الميت من كل ما فيه وأفضل ما لديه قبل أن يوارى الثرى في « مقبرة أغنى أرض في العالم» حتى لا يدفن معه أفضل ما فيه دون أن يستفيد منه أحد !
وما أشبه هذا «الإفراغ» بفعل «قل اعملوا وسيرى» و»اعمل ..كأنك ستموت غدا واعمل ..كأنك ستعيش أبدا» و «انقطع عمله إلا من علم ينتفع به»!
ومن ذلك القبيل على سبيل المثال قول خاتمة الكتاب: «ستقاس حياتك في نهاية المطاف بمقدار عطائك، لا بمقدار ما أخذت»، و»إننا بحاجة إلى إسهامك» و»اجعل عمل حياتك بناء هيكل لعمل تفخر به. واسهم يوميا بسرعة واجتهاد، فكل بذور تغرسها اليوم ستحصد محصولها لاحقا. وما الغد إلا أمنية غير محققة، فعش إذن كأن اليوم هو كل ما لديك» !
وفي تصديرات أخرى لهنري ميلر: «فلتنس نفسك» ولباركر بالمر: «الشيء الوحيد الذي علينا تقديمه للمجتمع هو أنفسنا، وهي أفضل الهبات على الإطلاق التي يسعنا تقديمها للآخرين».
وهذه كلها تضحيات ومحرقات وتقدمات وقرابين لبانثيون آلهة الرأسمال على نحو هذا التصدير والتفسير بقول «نبي» جبران خليل جبران : «لأن التحرق إلى الرفاهية ينحر أهواء النفس في كبدها فيرديها قتيلة، ثم يسير في جنازتها فاغرا شدقيه مرغيا مزبدا»، وكذلك الحي «الميت فارغا» في حياته كقتل الميت والمشي في جنازته. تماما كقول أناتول فرانس في تصدير آخر تحت عنوان «إسهامك»: «لا يعرف الشخص العادي ماذا يتعين عليه أن يفعل بحياته، ومع ذلك فإنه يريد حياة أخرى تدوم إلى الأبد».
ولكن هيهات ! بعيد جدا إن لم يكن مستحيلا أن «يعرف الشخص العادي» إلا في عليا الحياة الدنيا ودنيا الحياة العليا السعيدة البعيدة المنال والجمال على هذه الأرض «حياة أخرى تدوم إلى الأبد» وتحت هذه السماء التي قال عنها كاتب «موسم الهجرة إلى الشمال» الطيب صالح سائلا ومجيبا :»هل السماء لا تزال صافية فوق السودان؟ إنهم حجبوها بالأكاذيب!» كما قال عنها «شمس الشعر» الروسي بوشكين على لسان الموسيقار سالييري المتهم بسم الموسيقار موتسارت: «الجميع يقولون: لا توجد عدالة على الأرض. لكن العدالة لا توجد حتى في السماء»!
والآن وأمس وغدا ليس صحيحا دائما وتماما إلا لماما أن «كل بذور تغرسها اليوم ستحصد محصولها لاحقا» و «مهما يكن لن…» و «كما لم يكن أبدا» على حد قولي بلا تواضع ولا فخر، ولا سابقا ولا لاحقا بإنكار الشعر وشاعر الذي يأتي ولا يأتي البياتي : «غرسوا فلم نأكل، ونغرس صاغرين فيأكلون» !
وبإقرار الكاتب والكتاب ذاته وخاتمته : «وما الغد إلا أمنية غير محققة»!
ومثل ذلك في تصديرات أخرى كثيرة منها أيضا لجيمس أوبنهايم تحت عنوان «عش فارغا» :» يبحث الأحمق عن السعادة في مكان بعيد، لكن الحكيم ينميها على خطى أقدامه» ولشاعر «الأرض الخراب» تي إس إليوت تحت عنوان «الحياة العادية المغرية»: «من يغامرون بالمضي قدما إلى أبعد الحدود، هم فقط سيكتشفون إلى أي حد يمكن للمرء أن يصل»!
وحتى هنا والآن، لا تدحض تصديرات الفصول بآراء كبار الكتاب المفكرين والشعراء تصورات وأفكار الكاتب و الكتاب وتفند «تفكيره الإيجابي» فحسب، بل يتعارض فيها العملان الإبداعي والاجتماعي والفعلان الثقافي والسياسي، ويسيران بوتيرة سرعتين غير متوازيتين إن لم تكونا متصارعتين. ومن تلك التصديرات هذا التقدير السياسي للسيد الرئيس الثالث والثلاثين تحت عنوان « تأقلم بثقة» : «بإمكانك تحقيق أي شيىء في الحياة شرط ألا تعبأ بمن سيحظى بالتقدير» وعلى عكس ذلك هذا التصدير والتعبير الثقافي لأندريه جيد : « قيل كل شيء في ما مضى، لكن كون الناس لا يسمعون، فيتعين علينا أن نعود أدراجنا ونبدأ كل شيء من جديد» أجل! هذا هو «الإفراغ « الحقيقي : البدء من جديد في كل مرة ودون انقطاع «بإفراع» العقول والنفوس والقطيع من جميع النقول والطقوس و الروايات الواضحة والفاضحة والفادحة والطافحة بالخرافات والترهات والإكراهات والتابوهات المهيمنة السائدة الطاغية المستبدة والمتداولة على ألسنة السواد الأعظم المظلم الطويلة والحادة الأسنة والمعادية لأكثر من حقوق وقيم الإبداع والديوان الإنساني، بل المتمادية في تكذيب حقائق المعارف والعلوم والفنون و الإيمان والتصديق بكل أساطير الأولين ودساتير الآخرين وأخابير أئمة السلاطين والغوغاء والدهماء . لذلك فالواجب الضروري المطلوب المرغوب والمنشود المفقود ليس الرحيل «ميتا فارغا» إلى المأوى والمثوى الأبدي الأخير في روضة ومقبرة «أغنى أرض في العالم» بل بعودة الروح و»بمحو اللوح» والكتابة عليه من جديد، وبالصحو من الموت في الحياة، و «الإفراغ» الذاتي الشامل والكامل والتام و «دياليز» غسل الدماغ وتنقية الدم من سم جميع التابوهات والترهات والإكراهات، والامتلاء بالجديد والحديث العلمي والتكنولوجي والمعرفي الفلسفي والأدبي والفني، والتخلص والتحرر من كل القيود والمقالب والقوالب الجاهزة للعلاج والدواء والعاجزة عن الشفاء، وبالعمل الإبداعي والفعل الاجتماعي وجمال النضال ونضال الجمال الإلهي والطبيعي والعلماني الإيمان العقلاني والديوان الإنساني.