النقيب امحمد الشقوري رجل بصم مساره العلمي بكل عصامية، لم ينتظر كواحد من جيل الأربعينيات الاتكاء على أحد، بل نحت طريقه لوحده كما ظل يردد على مسامع الباحثين والطلبة الذين ترددوا على مكتبته القانونية العامرة والغنية والمنتقاة كتبها بعين العارف الحذق، كان يقول.. السياسة بلا تكوين نظري صلب مثل محام يرافع بلا ذخيرة قانونية
في زحمة الوقت يرحل بدون استئذان..
لم يخبرنا القدر بما ينويه، القضاء سبقنا …
قبل أسابيع خلت.. كنا ننوي تكريمه كأحد أبرز أطر الحزب ومناضليه الذين خلفوا أثرا لدى مرورهم على المسؤوليات النضالية، في المؤتمر الإقليمي الأخير للاتحاد الاشتراكي في أسفي ..صدى مرضه المتقدم واستحالة حضوره أجل الفكرة ……كان الرجل حاضرا دوما لدى الاتحاديين، فهو ابن أصيل وشرعي للحركة الاتحادية منذ قرارات المؤتمر الاستثنائي في 1975، لم يسقط من طائرة ولا حجز حديقة سقوط …
النقيب امحمد الشقوري رجل بصم مساره العلمي بكل عصامية، لم ينتظر كواحد من جيل الأربعينيات الاتكاء على أحد، بل نحت طريقه لوحده كما ظل يردد على مسامع الباحثين والطلبة الذين ترددوا على مكتبته القانونية العامرة والغنية والمنتقاة كتبها بعين العارف الحذق، كان يقول.. السياسة بلا تكوين نظري صلب مثل محام يرافع بلا ذخيرة قانونية، لابد من صهر الثقافة في النضال، بل لابد من مواصلة تتبع ما يصدر، فتحيين المعلومات ومواكبة حركية النشر يتيح للقانوني والسياسي والحقوقي زاوية نظر وتحاليل واسعة وموضوعية ..كان مؤمنا بهذه الخطاطة الراقية ..ويرفض التماهي مع الجاهز والمبتسر والدعي من الأفكار والشخوص …
امحمد الشقوري كلما زرته في السنوات العشرين الأخيرة، لأمر مرتبط بلقاءات ثقافية وسياسية أو البحث العلمي، خصوصا ومكتبه يتواجد على بضع أمتار من مكتب الجريدة في آسفي.. كان دائما يبادرني بأسلوبه المرح والهادئ، هل قرأت هذا الكتاب، هل زرت المكتبة الفلانية، لقد صدر كتاب ..هل أجد عندك كتاب أمير المؤمنين والنخبة السياسية لواتربوري، إني أعد محاور المحاضرة التي سألقيها على الطلبة، كان مهووسا بالقراءة، وفي كل سفرة يجلب معه دزينة من الكتب في القانون والأدب والسياسة، لا أكاد أتذكر كم من المرات وقع هذا الأمر ..لكن هذا ما عشته طويلا مع السيد النقيب، لقب كنت أناديه به، والتماعة ساطعة تنز من عينيه، فهو من جيل الوالد ورفيقه في الدراسة رحمهما الله .
عندما سمع بالنقاش الذي كان يدور بين نخب المدينة النظيفة وقتئذ حول غياب جامعة في آسفي والعذاب الذي عاشته أجيال كثيرة من أولاد آسفي لمتابعة دراساتهم العليا، لم يتردد في اللحاق بالفريق الذي أسس جمعية من أجل جامعة في آسفي، وظل من المرافعين الحالمين بجامعة إلى أن جاء الفرج مع حكومة التناوب، يحكي أحد الذين واكبوا لحظات الاتصالات وطرق الأبواب، أن عبد الرحمن اليوسفي، رحمه الله، قال للوفد الذي حضر عنده كوزير أول أو ككاتب أول للاتحاد الاشتراكي…لا فرق، «سنرى ما يمكن فعله..آسفي حمتني مرتين وأخفاني مناضلوها مرتين ..في الاستعمار والاستقلال، مدين لمناضلي وأهل آسفي……»
عندما هرب اليوسفي، أخذ الوجهة لآسفي ملاحقا من الفرنسيين ولما بدأ القمع في بدايات سنوات الرصاص عاد الرجل، وكان في تأدية الواجب، الوطنيون من جيش التحرير والمناضلون ممن انتصروا يومها للاختيار الثوري، التاريخ يقول هذا، ينتشي المرحوم الشقوري وهو العارف بالتفاصيل التي قادت خالد اعليوة لابتداع تخريجة الكليات المتعددة التخصصات أمام استحالة وتعقد فتح جامعات في المدن المتوسطة وصغيرة الديمغرافيا والجغرافيا ….
في المحاكمات السياسية الكبرى يستحيل ألا تجد الرجل مع فطاحلة الدفاع والمحاماة الذين عرفهم المغرب وانتموا كلهم للفكرة التقدمية التي بدأها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية واستمرت مع قرارات 30 يوليوز، التي أعطت الاتحاد الاشتراكي والمؤتمر الاستثنائي الذي قام بالتوضيح والفرز النهائي والحاسم بين الاختيار الديمقراطي والبلانكية …الله يرحم عبد الرحيم بوعبيد، هذا ما يدفع العين للاغروراق ..نحن أبناء تاريخ سياسي باذخ وكبييييير.
كان هذا الرجل الذي غادرنا نهاية الأسبوع الفارط منخرطا في ما سبق ذكره، متواضعا صموتا منهجيا في تحركاته، أشهد بحكم تواصلنا الطويل وتحاكينا في محطات مختلفة ومتعددة، أنه كان عدوا للفوضى، عدوا للأمية القانونية،عدوا للتسطيح والابتذال وعدم احترام التكوين الصلب في المحاماة ..منتصرا للمقولة التاريخية، «المحامي يولد محاميا، أما القاضي فتصنعه الأيام»، أن يموت الرجل بهذه السرعة وهو المحب للحياة والأنيق دوما في كلامه وملبسه ومشيته التي تجر وراءها زمنا حقوقيا وسياسيا ثريا ..آه يا نقيب..الكلية التي دافعت وكنت من الذين وقفوا في السر والعلن أمام تفسيدها لما كان يعربد فيها الأستاذ المعلوم المعتقل حاليا على ذمة الماستر مقابل المال..كنت من الفاعلين والمصرين على رحيل مثل هذه النماذج من الحرم الجامعي، ومن فضاء ناضل أبناء أسفي لتوفيره دعما للبحث العلمي وليس لحضور الفسدة النكرات الذين اعتبروا الجامعة «كافيتيريا» للذات وتصريف أعطاب الليبيدو …
الشقوري لن يقبل الرثاء وروحه لا تزال تحلق قربنا، لكن الحقيقة واضحة والواقع عنيد، هو كان لا يحب التباهي، يشتغل في صمت، فاعل خير في الظل، كان يطلب وهو الآن في الأعالي يسمع وربما كان سيمنعني من قول ذلك، كلما حضرت وأحضرت لائحة لأسماء طلبة معوزين ومعوزات يحتاجون كتبا بحثية أو نظارات ..لا يتأخر، بل يمعن بطلبه في التأكيد ألا نترك أحدا ممن يحتاج شيئا لمواصلة الدراسة ..هكذا كان الاتحاديون في علاقتهم بالكلية، لا يستقطبون ولا يوظفون الأعمال الخيرية لتعبئة الخزان التنظيمي، ولا يستغلون فقر وحاجة بنات الناس، النضال أخلاق وسلوك نظيف. لمن تركتنا يا امحمد !؟
الذين لا يفهمون قيمة هذا الرجل، فهو غير محتاج لمن يرميه بالورد ولا يحب النفاق ويكره الرياء ومتعبد حقيقي غير متظاهر، مناضل مؤمن بمبادئ حقوق الإنسان في كونيتها وشساعتها، محام جسور لا يكل من التعريف بها والدفاع عنها، لهذا كان من مؤسسي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وكم وددت أن تقوم المنظمة وهي تهيكل أجهزتها التنفيذية يوم وفاته، أن تنعيه يا نوفل ..فالرجل من جيل التأسيس .
لم يكن محاميا ولا نقيبا يلبي الدعوات الرسمية بحكم الصفة والمقام المهني ..وكفى، بل اختار التدريس في الجامعة وفتح في السنوات الأخيرة مقهى أدبيا بذوق رفيع وفضاء راق، ليخرج بروفيل المثقف فيه الذي يحب المثقفين، واستضاف على هذا المنوال الكثير من الوجوه المشهورة في الأدب والسياسة والفنون، اجتمعنا سوية وأعددنا برامج متنوعة لجعل المقهى الأدبي منارة علم في ساحة سياسية أصابها التصحر ودوخة التاريخ، أتكلم عن آسفي، عندما لا يعود للسياسة معنى، أهرب للثقافة وللبحث العلمي(ضم همزة الهروب)، ستجد السياسة بشكل أرقى بعيدا عن «كاراتيكا»….استضاف المقهى الوزراء والمناضلين، الأحبة والصادقين،عبد اللطيف اللعبي، عبد الحميد جماهري، اليازغي، أوريد، حسن طارق، حبيب المالكي، عباس الجيراري، ياسين عدنان، حسن نجمي، السوسيولوجي مصطفى حدية ومصطفى محسن، عبد الله ساعف، واصف منصور الفلسطيني، ربيعة ريحان ..والقائمة طويلة ممن سقطت أسماؤهم سهوا وليس عمدا ..هذا هو الرجل الذي ننعيه اليوم .
في الاتحاد الاشتراكي قاد تجارب تنظيمية من سنوات السبعينيات مع اتحاديي آسفي ولم يتخلف عن تأدية الواجب على جميع المستويات، في مواجهة القمع والاعتقال السياسي العنيف، في إعداد الطعون الانتخابية، في تقوية قطاع المحامين الاتحاديين، في الدفاع عن مطرودي الإضرابات، في تقوية التنظيم الحزبي وضبط عقارب إشعاعه على الساعة الوطنية …
المرحوم فقدته آسفي وفي جنازته وفي تشييعه لمثواه الأخير، حضرت وجوه من أولاد المدينة اختفت وتركت مكانها لليباب والخواء وسلالة الريع السياسي والانتخابي، أبناء آسفي انخرطوا دوما في السؤال التقدمي وكانوا في غالبيتهم يساريي الهوى، لعل جنازة الرجل هي استفتاء ضد البشاعة التي باتت تطوقنا من كل جانب، فيصل بين العطانة والنظافة ، بين النزاهة والحقارة، القيم الإنسانية هي أوكسجيننا كمناضلين، من اختار غير ذلك، شبر وأربعة أصابع تنتظره ولعنة تطارده إلى الأبد، رحمك الله سي امحمد …الأبدية تنتظرنا لنواصل الحكي ومواجهة البشاعة …