أخي محمد، وأنت هناك تعاني الألم،على فراش المرض، لا تغيب لحظة عن التفكير، تحضر في بالي على الدوام، بدون انقطاع، أستحضر لقاءاتنا الكثيرة، القريبة منها والبعيدة، فأستغيث بتألقها، عسى أن تظل نفسي متماسكة، وأحتمي بفيئها، لعل دواخلي تبقى منضبطة.
في هذه الساعة المتأخرة من الليل التي أكتب فيها، لا أعرف لماذا ترتسم في الأفق، غيمة بجناح مقصوص، وتتراءى في المدى سحابة كثيفة شاردة، توشك أن تخنق الهواء الذي في رئتي، والهواء الذي في رئة الأرض، لا أعرف أيضا لماذا ينقبض قلبي بهذه الوطأة الشديدة، التي يصعب تحملها ؟ ولماذا ينسكب الحزن كالرصاص في روحي، عميقا،، عميقا كرحى قدر ضاغط، ينكتب في لوح العمر، ويدون بمداد الدم في سجل الحياة.
لست أدري لماذا تعتريني هذه المشاعر ؟ أحس أن الحياة أمست بلا أي معنى، وبلا أي مسوغ، لأكون هناك، أو هنا في هذه البقعة الضيقة من خريطة الوجود، أصبح سيان عندي، ذلك، لأن البقع تشابهت، في القحط والجفاف والجدب، والأماكن تماثلت في الجفاء والغلظة والفظاظة..
أشعر أن الأشياء، بدأت تبدو لي تفقد بريقها وقيمتها، والحياة طفقت تخسر طعمها ونكهتها، والوجود أخذ يضمحل سحره وبهاءه..لم يقع ذلك بالتدريج، الذي ألفت الحياة أن تسير عليه، ولكنه وقع بعجالة خاطفة، وبسرعة مفاجئة. حتى لكأن الأضواء خفتت فجأة، وبدون سابق إعلان.
آه أخي محمد، على هذا الغياب القسري، الذي يرغمنا على تحمل ثقل الألم!، ويجبرنا على اجترار الأحزان، والخيبات، بقلب محطم، منهد وروح منهارة، مهشمة، أي شيء يبقى لنا في هذه الدنيا؟ إذا غاب الأصدقاء الحميميون، ونأوا بجراحهم خلف جدران الصمت، وابتعدوا بآلامهم وراء أعمدة الإسمنت، وأمست حناجرهم الواهنة، لا تقوى حتى أن تنبس ببنت شفة، أي موقف هذا الذي يجعلنا نغلي من الداخل، ويجعل عقولنا جامدة مثل كومة ثلج، تغوص في غور الجليد، فتمسي حجرا كلسيا، كأن بلادة استوقفتنا، بلا نطق، أو كأن غباوة داهمتنا، بلا استئذان، يا له من موقف حرج وصعب، أن لا نلاقي فيه سوى هذه العيون تغرورق بالدموع، بما نراه من تهالك الجسد، ووهن الصوت، وشحوب الوجه. إنها للحظات ارتباك قصوى! وإنها للحظات شرود عارمة، نتمنى فيها بكل جوارحنا، وبكل قوانا، أن يكون ما نراه وهما، مجرد وهم، يتبخر كدخان أمامنا، لنستعيد قوتنا التي كدنا نفقدها، أمام هذا المشهد المؤلم.
أخي محمد ، سيبقى كرسيك فارغا، طوال مدة الغياب، لكن حضورك سيصاحبني، ستصاحبني ابتسامتك الصافية، الخالصة، اللائقة وسيصاحبني حديثك الرائق، الشجي، الشائق، الذكريات ستصاحبني مثل الظل الخافق، مثل ورق الشجر الأخضر، ستغمرني بالضوء، الذي كنت دائما، تصيبني به في وجداني، سأرى عشقك للحياة، مرحك الدائم، عند صفاء الذهن، وهناءة الروح، سأرى تحليقك الشعري، ونشدان الحلم في عيون الأطفال، سأرى كل ذلك، بعمق كبير، وبدهشة غامرة بالحياة، غامرة بالولادة المتجددة، كأنها الأزل والخلود..
مثل ورق الشجر الأخضر ستغمرني بالضوء
الكاتب : عبد العزيز أمزيان
بتاريخ : 27/12/2024