“مجتمع اللاَّتلامُسَ”: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل -10- كوفيد 19، أو مراقبة حشودٍ مُعْدِيَّة

بينما يكون تعاطي متعةَ التَّوقُّعِ أمراً سهلًا، تطالُنا أحياناً بعض الظَّواهرِ غير المنتظرة، والَّتي تتولَّى إعادةَ صيَّاغةِ مجتمعنا. لقد غيَّرَت موجة الهجمات الَّتي شهِدتها فرنسا سنة 2015، تصوُّرَنَا للخطرِ ولِلْإِحساسِ بالأمْنِ، أَوَّلاً في شهر يناير، مجموعةٌ من الصحافيِّين بجريدة «شارلي إيبدو / Charlie Hebdo»، ثُمَّ ثانياً، في شهر نونبر من نفس السَّنة، مائة وتلاثون شخصاً جميعُهًم لَقُوا حَتْفَهُم في قلبِ باريس إثرَ هجماتِ داعش.
مأْساةٌ، شكَّلَتْ منعطفاً في مسارِ الحياة ، الَّتي أبداً لن تَعُودَ هي نفسُها كما كانت من قبْلُ.
نَعْلَمُ الآنَ، أنَّ أَيًّا كانَ يُمْكِنُهُ أنْ يَقْضِيَ نحبَهُ ضحيَّةً لهجومٍ إرهابيّ. لقد تمخَّضَت هذه الوضعيةُ المأْساويَّةُ عن»قانونٍ للمعلومة»، قَلَّصَ أكثرَ فأكثَر، حرِّياتِنَا الفرديَّةَ، مانحاً الدَّولَةَ إمكانيةَ مراقبةِ السَّاكِنَة، مِنْ أجلِ «تجميعِ المعلوماتِ ذاتِ الصِّلة بالدِّفاع عنِ المصالِحِ العليا لفرنسا، اقتصاديًّا، وصناعيًّا، وعلميًّا»، حتَّى وإن كانتِ القضيَّةُ عادلةً ووجيهة، فالسَّاكنة أبداً لا تعرِفُ ضمن أيّ منحى سَيُسْتَخْدَمُ هذا القانون.
بدءاً من شهر يناير من سنة 2020، شهِد العالمُ واحدةً من أسوأِ الأزماتِ الصحيَّةِ الحادَّة، منذ الأنفلونزا الإسبانيَّة سنة 1918. جائحةُ كوفيد 19. بسرعةٍ، انتشر الفيروس الَّذي أُعْلِنَ عن ظهورِه في شهر دجنبر من سنة 2019 في مدينة «ووهان / Wuhan» الصينيَّة، داخل كلّ أرجاءِ المعمورِ، مخلِّفاً أثناءَ تنقُّلِهِ مئاتَ الآلافِ من الموتى.
أَعْقَبَتْ ذلك حالةٌ من الهَلَعِ، قذَفَت بما يَفُوقُ ثلاثةَ ملايير مِنَ الأشخاصِ، داخل حَجْرٍ صِحِيٍّ لأسابيعَ عديدةٍ.
وضعيَّةٌ غير مسبوقةٍ تماماً، وصادمةٌ بالنِّسبة إلى جيلٍ بكامِلِه، كان عليهِ أن يتعلَّم الحياةَ على نحوٍ آخر.
هنا أيضاً، استسلَمَتْ حكوماتُ دوَّلٍ عديدة للإغراءِ الأمنيِّ، قَصْدَ مراقبةِ السَّاكنَة والتَّأَكُّد من الاحترامِ الجيِّدِ لقواعدِ الحجرِ الصِّحيّ.
أقامَ النِّظامُ الصينيّ، مراقبةً عسكريَّةً، محاولاً احتواءَ الجائحةَ باستخدامِ كاملِ تَرْسَانَتِهِ الأمنيَّة. عَمَدَت دوَّل أُخرى، ( التايوان، كوريا الجنوبية، سنغفورة )، إلى استخدامِ بياناتِ الضَّبْطِ المَوْقِعِيّ والجغرافيّ الخاصَّة بالهواتف المحمولةِ، لِتَعَقَّبِ السَّاكِنَة، فيما قَرَنَتْ كوريَا الجنوبيَّة هذا التَّعَقَّبَ بالصورِ المستمدَّة من كاميرات المراقَبَة بالفيديو ومن البيانَات البنكيَّة، لتَتَبُّعِ تنقُّلاَتِ الأشخاصِ المصابين.
أمَّا في إسرائيل، فقد تَوَلَّتِ المصالحُ الاستخباراتيَّة «Chin Beth» الاطِّلَاعَ دون ترخيصٍ مُسْبَقٍ، ولمدَّةِ ثلاثينَ يوماً، على بياناتِ الضَّبطِ المَوْقِعِي والجُغْرَافِيّ الخاصَّة بهواتفِ كلّ الإسرائيليِّين، لِتَعَقُّبِ مجموعِ تنقُّلاتِهم، ومِنْ ثَمَّ معرفةُ إذا ما كان الشَّخصُ على اتِّصالٍ بشخصٍ آخرَ مصابٍ، من أجلِ إِخْضَاعِهِ عند الاقْتِضَاء، لحَجْرٍ صِحِّيّ.
كُلُّ هذه الصِّيَغ، كانتْ حتَّى عهدٍ قريبٍ، حِكْراً على إجراءاتِ مقاومةِ الإرهاب.
في الولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة، نشَرَت شركةٌ تُدْعَى Unacast « لوحةَ قيَّادَةٍ للبلَدِ بكامِلِه. وِلاَيَةً إِثْرَ وِلاَيَةٍ، تَتَقَصَّى الشَّركة مدى الاحترامِ الجيِّد لِتدابيرِ التَّباعُدِ الاجتماعيّ.
تَمَّ اسْتِخْلاَصُ البياناتِ، استناداً إلى نظامِ الضَّبْطِ المَوْقِعِيّ والجغرافيّ( GPS ) القائمِ في هواتفِ ملايينِ المواطنين الأمريكيِّين، والَّذين لم يَتِمَّ مُطْلَقاً تَنْبِيهُهُمْ إلى مِثْلِ هذا التَّجَسُّسِ.
إحدى ولايات استراليا ( استراليا الغربية )، انتخبَتْ نَصّاً يُجْبِرُ الأشخاصَ الموضوعينَ قَيْدَ الحَجْرِ الصِّحِّيّ على ارتداءِ سِوارٍ إلكترونيّ، كان أيضاً ممكنا تَثْبِيتُ كاميراتٍ للمراقبةِ داخل منازلِهِم، أوالإلقاءُ بهم إلى السُّجونِ حالَ رفضهِمُ التَّعَاوُنَ. أَمَّا في روسيا، فقد استًخدِمتْ مائة ألف كاميرا بتقنيَّةِ التَّعرُّف عبر الوجه، لِيَتِمَّ داخلَ موسكو، تحديدُ المصابينَ الَّذينَ لا يحترمونَ تدابيرَ الحجرِ الصِّحِّيّ.
واليومَ، يُستعملُ هذا النِّظامُ لترصُّدِ المعارضِينَ السِّياسيِّين.
على الرُّغْمِ مِنْ تدابيرِ القانونِ العامِّ بشأنِ حمايةِ البيانات ( RGPD )، فإنَّ أوروبا لم تكن بمَنْجَاةٍ من هذا التَّعَقُّبِ الَّذي أَوْجَبَتْهُ الأزمةُ الصحيَّة. ففي سويسرا مثلًا، كانت شركة الاتِّصالات السويسريَّة «Swiss Com» على اتِّصالٍ مباشرٍ بالسُّلُطاتِ الفيديراليَّة، كُلَّمَا احْتَشَدَ داخلَ فضاءٍ لا تتجاوزُ مساحتُهُ مائة متر، ما يفوقُ عشرينَ هاتفاً. أَمَّا في فرنسا، فقد تَمَّ تعيِّينُ شركة «أورونج / Orang» لتَنْقُلَ إلى الحكومة كُلَّ بياناتِ الضَّبْطِ المَوْقِعِيّ والجُغْرَافِيّ الخاصَّة بالملايين من منخرِطيها، رغبةً في التَّأَكُّدِ من دِقَّةِ الالتزام بتعليماتِ الحَجْرِ الصِّحِّيّ.
إجراءٌ سَمِحَ به «قانون المعلومة» الشَّهير.
مِنْ جِهَةِ الحكومة، ثَمَّةَ تَعَهُّدٌ بالإِبقاءِ على مجهولِيَة هذه البيانات، لكنَّ هذا التَّعَهُّد لم يَحُلْ دون أنْ يُفْشِي السِّرَّ باحثٌ مِنْ قِسْمِ «عِلْمِ التَّشْفِير/ Cryptographie»، داخل المعهد الوطنيّ للبحث في المعلوميَّات والأوتوماتيك( Inria )، والَّذي أكَّدَ في مقالٍ له بالمَوْقِع الفرنسيّ «Media Part «، أَنَّ تطبيقَ «Stop Covid»، إِنَّمَا كان يَعْمَدُ خلافاً لِلْمُتَوَقَّعِ إلى جَمْعِ المَزيدِ من البياناتِ الشَّخصيَة.
تُذَكِّرُ الأزمةُ الصِّحِّيَّةُ كوفيد 19 ،بالسُّهولةِ الَّتي يُمْكِنُ أن يكونَ عليها تَعَقُّبُ هواتِفِنا، حَالَمَا تُقَرِّرُ السُّلُطَاتُ ذلك. وهذه وضعيَّةٌ يَكْتَنِفُهَا الغُمُوضُ في مَا يَرْتَبِطُ بشفافيَّةِ التَّدابير ذاتِ الصِّلَة : لا تَعْرِفُ السَّاكنة متى تَكَونُ مراقَبَة، ولا كيف يَتِمُّ الاحتفاظُ بِبَياناتِها الحسَّاسة الموصولة بالمجالِ الصِّحِّي، ولا كيف يَتِمُّ استعمالُها وتحليلُها.
في النِّهاية، ثَمَّةَ إنذارٌ يُقَدِّمُهُ لنا نَمَطُ تدبيرِ هذه الجائحة بشأنِ الوسائلِ الَّتي تتوافَرُ لدى دولةٍ ديمقراطيَّةٍ كفرنسا، لو غَداً، تَعَيَّنَ أن يكون البلدُ بين يَدَيْ حزبٍ متطرِّفٍ، فستكون رُهْنَ إشارةِ هذا الحزبِ بالفعلِ، كلّ الأدواتِ لإقامةِ سيَّاسَةَ مراقبةٍ مكثَّفَة، مُقَيِّداً بذلك حرِّياتِنَا الفرديَّة. والآن، إذا كان الطَّابَعُ المأْساويّ لهذه الوضعيَّة والذعْرِ الَّذي يَسْتَتْبِعُهُ، يَعْنِيَانِ لزاماً – كما بَدَتْ تَلُوحُ علاماتُ ذلكَ في الأُفُقِ- أَنَّنَا سنتَّخِذُ إجراءاتٍ أمنيَّةً وبيوأمنيَّة مُشَدّدَة، وإذَا ما شَرَعْنَا في التَّباهي بالنَّموذَجِ الصِّيني، بِمَا هو نموذجٌ يفوقُ ذاك الخَاصّ بالديمقراطيَّات، وإذا كانت هذه الفترة من الحجر الصّحِّيّ مفيدةٌ لإقامةِ أدواتٍ للمراقبةِ الرَّقْمِيَّة، ولِلتَّنْطِيقِ ( Zonage )، ولِلتَّحَكُّمِ في السَّاكِنَةِ، وهي الأدواتُ الَّتي يزدادُ استخدامُهَا حِدَّةً، فإنَّ القادِمَ سيكونُ ربَّمَا أسوأ مِمَّا هو عليه الأمرُ الآنَ، { ….. } ولأَنَّنا نَعيشُ أزمةً ذاتَ طبيعةٍ ڨيرولوجيَّةٍ، فإنَّها تُفْضِي تصاعديًّا إلى عصرٍ من الشَّكِّ.
أَلَيْسَ الآخَر بالنِّسْبَةِ إِلَيَّ مجرَّدُ تهديدٍ؟ أَنْ تَتَعَمَّمَ مِثْلُ هذه الشُّكوك، فذَاك ما يحُولُ دون جَعْلِ العالم أَفْضَلَ.
إلى أَيِّ مَدَىً نحن ذاهبون؟ هل سنرسل طائرةً مسيَّرَةً لِتُحَلِّقَ مُرَاقِبَةً الشَّوارعَ، كما هي الحالُ داخلَ المُدُنِ الصِّينِيَّةِ الكُبرى؟ لو واصَلْنا عَبْرَ هذا المُنْحَدَرِ، فَسَنَسِيرُ صَوْبَ تطوُّراتٍ مريبَةٍ لمجتمعاتِنَا، «كما يُنَبِّهُ إلى ذلِكَ الفيلسوف «ميكايل فوسيل / Michael Foossel».
ينطوي هذا الاستشرافُ المستقبَلِيُّ على ما يجعلنا أكثرَ سُخْطاً مِمَّا نحن عليه، إِزَاءَ فيروسِ كورونا، عِلْماً أن الطَّائرات المسَيَّرَة قد حلَّقَتْ فِعْلًا فوق شوارعِ بعضِ المُدُنِ ( باريس، ونيس ) ،داعيةً عَبْرَ مُكَبِّرِ الصَّوْتِ، إلى الاحترامِ الجَيِّدِ لتدابيرِ الحَجْرِ الصِّحِّيّ.
مَشَاهِدٌ مراقَبَةً كُنَّا نَعْتَقِدَ أَنَّهَا وَقْفٌ فقط على مَحْكِيَّاتٍ بائسةٍ.
عَزَّزَتِ الأزمةُ الصِّحِّيَّةُ أيضاً، أَنْظِمَةَ المراقَبَةِ لدى عُمَّالِ التِّقْنِيَّة، عاملَةً بفضلِ الأدواتِ التِّكنولوجيَّةِ على التَّعْجِيلِ بممارساتٍ كالعمَلِ عَنْ بُعْدٍ.
مَظْهَرَانِ يَرْسُمَانِ بوضُوحٍ، الملامحَ الرَّئيسَةَ لُمجْتَمَعِ اللَّاتَلَامُسْ.


الكاتب : محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 22/03/2024