“مجتمع اللاَّتلامُسَ”: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل -11-

من العمل عن بعد إلى العامل غير المرئيّ

 

جَميعُنَا، ضِمْنَ نِطاقِنا، عُمَّالُ نَقْرَةٍ. نُسْهِمُ، طبقاً لإبحارنا الرَّقميّ، في إغناءِ المِنَصَّاتِ الكبرى.»لايك»مِنْ هنا، بحثً عن مسارٍ مِنْ هناك. مجَّاناً نُسَلِّمُ بياناتِنا، وحسب القول المأثور: «إذا كان الأمر يتعلَّقُ بالمجَّانيَّة، فَنَحْنُ المنتوج». لهذا نتعاون أحياناً، دُونَ أنْ نَعلم بذلك.
قَصْدَ التَّأكُّدِ مِنْ أنَّك لست روبوتاً، قَدْ يَطلُب مِنْكَ «غوغل» مثلاً أنْ تنتقيَعَبْرَ خيارِ «ريكابتشا / Recaptcha»، كلَّ الصورِ الَّتي تَعرِضُ إشارةَ مرورٍ حمراء، فَهَلْ تَعْلم أنَّك إذْ تَستجيبُ لذلك، إنَّما تَعملُ على الدَّفْعِ بتطبيقِ «غوغل ستريت ڨيو/ GoogleStreat View» إلى تحسينِعَرْضِهِ؟ الشيءُ نفسُه حينما يَطلبُ منك أيُّ محرِّكٍ للبحثِ تَفْكيكَ كلمةٍ ما، فأنت في المُحصِّلة إنَّما تَعملُ لفائدةِ لوغاريتم البرنامج المُسمَّى «كتب غوغل/ Google Books». بذريعةِ التَّأكُّدِ مِنْ أنَّنا لَسْنا روبوتاتٍ، نَعْمَلُ في الواقعِ لفائدةِ الماكينة الكُبرى.
تُشَغِّلُ صناعةُ الرَّقميّ، بعيداً بالطَّبع عن إسهاماتنا العشوائيَّةِ الصَّغيرة، الآلافَ مِنَ الأشخاصِ العَرَضِيِّين، الَّذين مُقابلَ راتبٍ هزيلٍ، يَصُونُونَ وَهْمَ سِحْرِ الخِدْمَة. سواءٌ كانوا بِصَدَدِ التَّصَبُّبِ عرقاً على مَتْنِ درَّاجة» Deliveroo «، أو عالقينَ بينَ طَرْدَيْنِ مِنْ طرودِ «أمازون»، فإنَّ هؤلاءِ العُمَّال «غير مَرْئيِّين»بِقَدْرِ ما هُمْ مُهْتَمِّين.لقد وَضَعَتْهُمُ الأزمة الصِّحِّيَّة، كوفيد 19، في الصُّفوفِ الأماميَّة ليُواصِلوا تقديمَ الخدمات للسَّاكنة المُتَمَتْرِسَةِ خَلْفَ الشَّاشة، آنَ فترةِ الحجرِ الصحيّ.
في هذه اللَّحظةِ الحرجة، حيثُ الجميعُ مُعَرَّضٌ لخطرِ الإصابة، وافق السيِّد «جيف بيزوس/ Jeff Bezos»، هذا الرَّجُلُ النَّبِيلُ، على زيَّادةٍ بسيطةٍ بمِقدارِ دولارين مقابلَ السَّاعةِ الواحدة. هذا في الوقت الَّذي ارتفعَ فيه سَهْمُ معاملات «أمازون». وخلالَ أَشْهُرِ الجائحة، لِيَبْلُغَ أرقاماً قِيَّاسِيَّة، وهو ما يُفسِّر كيفَ ازْدادَت ثروةُ «بيزوس» الشَّخصيَّة بأربع وعشرينَ مليارِ دولار، خلال أربعةِ أَشْهُرٍ فقط.
اِسْتَفَادَتْ أيضاً، مقاولاتُ «فايسبوك»، و»نيتفليكس»، و»آبل»،مِنَ الأزمة الصِّحِّيَّةِ سَعْياً وراءَ اِسْتِثْمَارِ صفقاتِها واسْتِعَادَةِ شِعارِها. كانت سُمْعَةُ «الڭافام» قبلَ الجائحةِ تحديداً، على المِحكّ. فالمستخدَمون طالبوا بالمزيدِ من الشَّفافيَة، مِثْلَما طالبَ العمَّال بالمزيدِ من العدالةِ والمساواة. من جهاتٍ عديدةٍ، تَعَالَتْ تصريحاتٌ لاذعةٌ بَلَغَتْ حدَّ الإلقاءِ باللَّائمةِ على التِّقنيَّة وعلى العديدِ من فضائِحِها، كَمَا تَكَشَّفَتْ في الصَّحافة.
عانى عمالقةُ الويب من مشاكلَ قاسيَّة، أيْ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْمِيَّتُهُ ب»تيك-لاش/ Techlash»، (إنْكِمَاشٌ في الإنجازِ التِّقنيّ، و إنْخِفَاضٌفي ردودِ الأفعالِ العنيفة « Backlash «، وهو ما يُمْكِنُ ترجمتُهُ ب «الإنْتِكَاسَة» ).
لكنَّ أزمةَ فيروسِ كورونا، أتاحتْ لَهُمْبكيفيَّةٍ غير مباشرة، معالجَة شَعْبيَّتِهِم
تَعَرَّفَ العملُ عن بعدٍ أيضاً، إبَّانَ الجائحةِ، على لحظةِ مَجْدِهِ. فقد استلزمتِ الوضعيَّةُ الاستعجاليَّةُ (حالةُ الطَّوارئِ الصِّحِّيَّة )، بفضل العديدِ من التَّطبيقات، إبْقاءَ أفواجٍ من العمَّالِ على مسافةٍ، وفي حالةِ اسْتنفارٍ تَصَوُّرٌ لعَملٍ مُرْهِقٍ، يسعى في شتَّى نواحيهِ إلى مواصلةِ استمراريةٍ في عصرِ مجتمعِ اللَّاتلامس، حيثُ يتأسَّسُ التَّباعدُ الجسديّ من الآن وصاعداً، كنموذجٍ فلسفيٍّ- بيئيّ.
العمل عن بعد، كنموذج « عالَمُ الما-بعد
كُنَّا بمئاتِ الملايين نَتعاطى، خلالَ فترةِ الحجرِ الصِّحيّ، وبِنِسَبٍ عاليَّةٍ، العملَ عن بعد. كبارُ زعماءِ ومسؤوليّ التِّقنيَّة لمْ ينتظروا انتهاءَ الحجرِ الصِّحيّ حتَّى، بَلْ سارعوا إلى التَّركيزِ على العملِ عن بعد كممارسةٍ مستقبليَّة.
بدءاً من شهرِ ماي، اقْتَرَحَ مَوْقِعُ التَّواصُلُ الاجتماعيّ «تويتر» على مجموعِ مُسْتَخْدَميهِ، الخَيارَ البديل، «العملُ عن بعدٍ مدى الحياة». الشيءُ نفسٌه بالنِّسبةِ إلى «فايسبوك»، فقدْ تَعَهَّدَ «مارك زكربيرغ» بأنْ تَكُونَ مقاولتُهُ «الأكثرُ طليعيةً « في هذا الشأْنِ، مُتَصَوِّراً أنَّ نِصْفَ العمَّالِ الفعليِّين سَيُبَاشِرُ خلالَ عشْرِ سنواتٍ المُقْبلة، عملَهُ بكيفيَّةٍ دائمةٍ انطلاقاً مِنَ المنزل، رَكِبَ «غوغل» أيضاً نفسَ المَوْجَة.
فالعملُ عَنْ بعدٍ يُمْكِنُهُ، بعيداً عنِ الاحتيَّاطِ الماليّ الَّذي حَقَّقَتْهُ المقاولات، تشغيلُ العديدِ من الأشخاصِ، على امتدادِ كاملِ بقاعِ العالمِ. بمقدوره أيضاً تخفيضُ الرَّواتبِ، حالمَا تَتَطَوَّرُ بعيداً عن التَّضَخُّم الكاليفورني، اليدُ العاملةُ في البلدانِ السَّائرةِ في طريقِ النُّمُوّ، ثمَّ إنَّ «زكربيرغ»، فضلاً عنْ ذلكَ، لم تَفُتْهُ فرصةُ التَّذْكيرِ بأنَّ العمَّال الَّذين ينتقلونَ إلى مدنٍ تَكُونُ فيها كُلْفَةُ المَعِيشَةِ أقلّ، يَتعيَّن أن يَقْبِلوا بِتَخفيضٍ في نسبةِ تعويضاتِهِم. هكذا يَسْتَحْوِذُ المُشَغِّلُ على جزءٍ منَ الفضاءِ الخاصِّ بالمُسْتَخْدَمِ، تاركاً لهُ مصاريفَ»الإنسان الهيكل»، الماءُ،والكهرباءُ،والتَّدْفِئَةُ، ومجموعُ الموادِّ الاستهلاكية.
يًغَيِّرُ سادةُ وادي السيليكون هنا البرنامج، وببطءٍ ينتقلونَ من فلسفةِ «المَنْزِلُ في العملِ «، إلى تلك الخاصَّةِ ب «العملُ في المَنْزِلِ «. مع ذلك، كان عالَمُ التِّقنيَّة سبَّاقاً إلى التَّباهي بفضاءاتِه الودِّيَةَ، «Friendly»، حيثُ بسعادةٍ يتجوَّلُ العمَّالُ بينَ مِزْلَجَةٍ»Toboggan»، وبين طاولاتِ «البيغ – بونغ»،وحيثُ المطاعمُ المفتوحةُ تَعْرِضُ نافوراتٍ من العصيرِ في بوفيهاتٍ مُقَامَة، و حيثُ الأرائكُ المَرِحَةَ تُعَوِّضُ الكراسيَّ الجافَّة داخلَ المكاتبِ.
كُلُّ شيءٍ يُسْهِمُ في تحويلِ مكانِ العملِ إلى فضاءٍ دافئٍ ومريح « Cosy «، كما لو أنَّه منزلُ عطلةٍ مثالي. كل شيءٍ موجودٌ، باستثناءِ الوقتِ الضَّروري للاستفادةِ من مباراةٍ لكرةِ القدمِ. فضرورةُ الفعَّاليَة، تجعلُ إذنْ من هذه الأشياءِ التَّرفيهيَّةِ مجرَّدَ إكسِسْواراتٍ للدِّيكور.
هذا النُّزوعُ صوبَ ألاَّ يَكُونَ لكَ، بَعْدُ، مكتبٌ ثابتٌ داخلَ المقاولةِ (يُقابلُه تحديداًالمكتبُ المَرِنُ/ lexoffice )، فذاكَ ما يُسْهِمُ أيضاً في مَنْطِقِ التَّخْفيفِ من ضَغْطِ العمل.
في غيَّابِ مكتبٍ مُعَيَّنٍ (ثابتٍ)، يَتَوَلَّدُ الانطباعُ لدى العاملِ ب»تكسيرِ الرُّوتين»، يَتَمَتَّعُ بحريَّةٍ في الحركةِ، رغمَ أنَّهُ يظلُّ مرتبطاً بحاسوبِه المحمولِ وبالمهامِّ المُوكَلَةِ إليهِ. ألاَّ يَكُونَ، بَعْدُ، بِحَوْزتِكَ فضاءٌ خاصٌّ بِكَ، فذاكَ ما يُفْضِي إلى شكلٍ منَ التَّوارِي. المُسْتَخْدَمُ المُتَرَحِّل لم يَعُدْ، بَعْدُ، يَتَعَهَّدُ بالرِّعايةِ حَيِّزَهُ الشَّخْصِيّ، ولَيْسَ لَهُ مِنَ الآن وصاعداً مِنْ مكتبٍ مخصَّصٍ تُزَيِّنُهُ الرُّسوم أو صورُ أبنائِهِ. إنَّهُ مُتَفَرِّغٌ للتَّنَقُّلِ من طابقٍ إلى آخرَ،دونما نسجٍ لعلاقاتٍ دائمةٍ مع زملائِهِ، إلى درجةِ ألاَّ أحدَ ينْتَبِهُ لغيَّابِ هذا المُسْتَخْدَمِ ذِي المكتبِ المَرِنِ حينما يُقْعِدُهُ المرض، لأنَّهُ لمْ يَعُدْ هناكَ مِنَ الآنِ وصاعداً كرسيٌّ فارغٌ يُمْكِنُهُ أنْ يَكُونَ مؤشِّراً على هذا الغيَّاب.
«ولكن أين كريستوف؟»، «لستُ أدري، يُفْتَرَضُ به أن يَكُونَ في الأسفل، أوفي الخارجِ، أوفي منزلِهِ «. «كريستوف» في كلِّ مكانٍ وفي الوقتِ ذاتِهِ ليسِ في أيِّ مكانٍ، وفي اليومِ الَّذي سَيَتِمُّ فيه تسريحَهُ، ما مِنْ أحدٍ هنا، بَعْدُ، لمواساتِهِ.
في شهر ماي من سنة 2020، قامت « أوبير / Uber « بتسريحِ 3500 مستخدَمٍ إداريٍّ خلالَ ثلاثِ دقائق، عبر تطبيقِ «المناظرة بالفيديو/ Vision Conference». هَلْ تَتَخَيَّل عُنْفَ المَشْهَدِ؟ أَنْ تَعْلَمَ مِنْ مديرةِ الزَّبائِنِ– مَقَرُّهَا في «فينيكس/ Phoenix « – بنهايةِ خَدَمَاتِكَ أمامَ شاشةٍ باردة؟ آلافٌ من النَّاسِ كانوا عُرْضَةً للتَّسْرِيحِ في بِضْعِ دقائق، حتَّى دونَ أن يتمكَّنوا من تقديمِ جوابٍ. يُهَيِّئُ هذا التَّسريحُ الجماعيُّ المُعْلَنُ عن بُعْدٍ لأَشْكَالٍ أُخْرَى منَ العملِ في عصرِ مجتمعِ اللاَّتلامس.


الكاتب : محمد الشنقيطي و عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 23/03/2024