«مجرات وحرائق» المصطفى مفتاح

الشعر كلغة للرسم
لا للقول

مفاجأة جميلة، تلك التي قام بها الأستاذ والمناضل التقدمي المصطفى مفتاح من خلال إصداره ديوانا شعريا بعنوان «مجرات وحرائق»، ضمن منشورات الموجة. ذلك أن الرجل سيصدر على العالمين بصوت جديد، لم يكن ينتظره منه الكثيرون، هو صوت الشعر (إن لم نقل بشكل أدق «بوح الشعر»). ما يجعل شكل التلقي يعلي من أفق انتظاره، كون المناضل الأستاذ المصطفى مفتاح، الذي راكم علاقة تواصلية على مستوى المكتوب مع الرأي العام الوطني، من موقع التحليل السياسي، قد رسخ معنى لصوته لا يمكن إنكار أن ذائقة الشعر غير منتظرة منه. وبهذا المعنى، فإن منطوقه الشعري فيه جمالية المفاجأة، على قدر ما فيه من بوح للروح أمام شساعة الكون.
في «مجرات وحرائق»، نحن لا نكتشف فقط الشاعر الكامن في الأستاذ مفتاح، بل نكتشف أيضا قيمة أن يصدر السياسي عن رؤية شعرية أيضا. أليست السياسة كفنّ للممكن، وكترجمان لمطامح عمومية ضمن مشاريع مجتمعية ورؤيوية، بعضا من الإبداع أيضا، بل إنها في صلبها تستوجب إبداعية أكيدة؟. أليست السياسة، من حيث هي صيرورة لمنظومة أخلاقية، موضوعها الإنسان، عنوانا آخر لشعرية ثاوية، بالمعنى السلوكي للشاعرية؟. بالتالي، فإن ما أنجزه الأستاذ مفتاح، إنما هو عنوان من بين عناوين أخرى، على أن السياسي النبيل هو الذي يصدر عن رؤية معرفية وجمالية. وها هنا يكمن عمق مغامرته الشعرية هذه.
إن قراءة قصائد ونصوص الديوان الشعري «مجرات وحرائق»، تجعلنا نقف عند قاموس، لا ينتصر للانزياح اللغوي، قدر انتصاره لانزياح الواقع من حيث هو متوالية من الصور والتراكيب تؤطر واقع وجودنا اليومي. بل إنه في مكان ما، نكاد نجد أن بنية الجملة في قصائد الديوان، صادرة عن تأمل رياضي لمعادلات ذلك الواقع، بسبب التكوين الأصلي للأستاذ المصطفى مفتاح كطالب مجد كان في علم الرياضيات، حتى وإن سرقته علوم الاقتصاد بعد ذلك. مما يفرض على قارئ قصائده أن ينزاح قليلا عن المنظومة النقدية الكلاسيكية لتلقي الشعر، المشتغلة تقليديا على الصورة وجمالية اللغة، وأن ينتبه إلى أن شاعرية نصوص «مجرات وحرائق» كامنة في مجال آخر للاشتغال على أشياء الواقع من حيث هي ذات تركيب معقد. بمعنى آخر، إن موسيقى الديوان الشعري ليست كامنة في اللغة، بل في صوت الصور التي ينتبه الشاعر/ الإنسان لتعقد وجودها.
في قصيدة «سأنتظر» (كمثال)، نجد أن اللغة تبني شاعريتها من خلال تركيب الصورة، مثلما يفعل الرسام أمام بياض قماش لوحته البكر، حيث نقرأ:
«سأنتظر
قبل أن أحرق قبلتي البائتة
سأنتظر
قبل أن أروي لشقائق النعمان
أسماء الصخور التي تسلقت وجه السماء لتلاعب سرة
الشمس. (…)»
وفي قصيدة «ترتيب ما»، نجد قاموسا آخر لصورة شعرية، تبني الصورة بتؤدة، من خلال موضعة حالات، تريد أن تقول للقارئ، إن الكينونة ليست ما نعتقده ككائنات هشة، بل هي ما تقدمه التفاصيل الصغيرة للطبيعة من معان ثاوية. حيث نقرأ:
«في الجهة المقابلة للغروب عوى ذئب أنيق
لعله في اشتياق للأصيل
لعله محض اشتهاء أو ملل
لعله يفضح الأسرار.
على اليمين اعتلى طير صغير جدا
ظهر حلزون أزرق
اعتاد المرور من هنا
لعله يهمس
لعله ينام
يكتم الأسرار. (…).
بهذا المعنى فإن ديوان «مجرات وحرائق»، الصادر في 97 صفحة من القطع المتوسط الصغير، والذي أنجز غلافه ورسومه الداخلية الكاتب المغربي عبد القادر الشاوي، هو دعوة لتأمل آخر في الكينونة من داخل تفاصيل تعقد الواقع كصورة، وليس من داخل ذات الشاعر عبر انزياح اللغة. ها هنا تكمن في ما أتصور جرأة الأستاذ المصطفى مفتاح، الذي عاد إلى قرائه، من باب مواربة لم ينتظره عبرها أحد، هي باب المقول الشاعري. وأنه نجح في أن يفرض على القارئ ذاك، أن يعدل من آليته كمتلقٍّ تفرض عليه انتباها آخر للغة، تلك التي ترسم ولا تقول.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 31/03/2021