شهد العالم العربي في بداية سنة 2011 أحداثا مهمة كادت تشكل منعرجا يقطع مع الماضي، ويبشر بمستقبل تتحقق فيه كرامة الإنسان؛ بيد أن أيد داخلية وخارجية أبت إلا أن تقتل الفرح، بتحريف الثورة عن مسارها، وجعلها تدخل نفقا ولد في النفوس خيبة مريرة؛ لكن جذوة التغيير بقيت مترسبة في الأعماق، تنتظر الفرصة لتشتعل من جديد.
في هذا السياق ولدت قصائد ديوان «تراتيل الجمار الخابية» للشاعر عبد الله فراجي. هذا الديوان هو الثالث في مساره الشعري؛ جاء محملا بالحزن، حاملا معه نبراس الأمل بغد أفضل. ذلك أن الشاعر لا يهادن، ولا يقبل بالراهن؛ إنه مسكون بالرغبة في التغيير، يسعى لما هو أفضل، ويبقى نظره مشدودا إلى الأمام، بتفاؤل لا يحيد، ولا ينكسر. صحيح أن الظلام يحيط بالشاعر، ولأنه غير مصابً بقصرِ النّظرِ؛ فقد رأى الأضواءَ الخافتةَ البعيدةَ؛ أكيد أنها خابية، لكنها تختفي تحت الرماد كالجمر، ينتظر اللحظة المناسبة للإعلان عن نفسها.
الذات الشاعرية لا يمكنها أن تستكين زمناً ، بل تبقى متطلعة إلى الارتقاء، مسكونة بالبحث عن سبل تمكن من تحقيق غد أفضل، مهما بلغت من السنين. الشاعر دائم الشك، ومن قلقه، وشكه، ينبثق الإبداع.
ومن هنا، قيمة العنوان، وأهميته.
العنونة: تراتيل الجمار الخابية:
التراتيل هنا ليست حاضرة بمفهومها الديني المعروف، بقدر ما هي حاضرة بمعنى ردة فعل عبر حروف القصيدة وتلاوينها على واقع الانكسار والقهر، والخيبة والحزن، إذن هي صراخ وتذمر، قول وتصريح يتكرران ولا يتوقفان..
أما الجمار الخابية، فهي كذلك إلى حين، ولن تبقى على حالها، بل يمكنها أن تشتعل من جديد، وفي أي وقت، فهي بهذا ليست رمادا باردا، ولا جمارا مشتعلة، بل إنها في حالة ما قبل الاشتعال؛ حالة كمون. حالة تراتيل غضب وحزن وضجر وانكسار.
يلعن الشاعر في قصائده الظلام المستشري في جسد الإنسان، همسا مرة وجهرا مرات ، معبرا عما يحس به من آلام وآمال؛ إنه يكتب للحياة، ولا يؤمن إلا بالإنسان بعامة، غير أن هذا الإيمان يصطدم بواقع ثقافيّ مترهل، حيث يهيمن خطاب القبح، ويروج له على أوسع نطاق، فكان من نتائجه أن توسعت رقعة الرفض، فتنشبت الحروب في كل مكان بعد الربيع العربي، غير أن القبح تمكن من الانتصار على الجمال بشكل مستفز؛ فكان من نتائجه.
مساءلة الذات القلقة والمضطربة، وسيادة مثقف السلطة الذي هيمن على مجمل أنشطة الحياة الثقافية، فتم، بذلك، قتل كل أمل في التجدد والحياة.
وفي ظل هذه الأوضاع المتردية للإنسان، انبثق ديوان «ترتيل الجمار الخابية»، ليتغنى بقيم الحب والأمل والسلام، والثورة تارة والانكسار أخرى.
يقول ابن خلدون في مقدمته المهمة في هذا الخصوص: «السيف والقلم..أداة بيد الحاكم يستعين بهما على أمره..والحاجة إلى السيف في نشأة الدولة وهرمها أكثر من الحاجة للقلم». ويضيف متحدثا عن كوارث الاستبداد: «الاستبداد يقلب موازين الأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل» .
التعيين الإجناسي:
الملاحظ أن الشاعر قد أثبت لفظة «شعر» وباللون الأحمر كما تلك الجمرات التي مازالت تحافظ على توهجها وهي تقاوم الخبو، والانطفاء، كمؤشر لغوي وتداولي يحدد نوعية النصوص التي بين دفتي الكتاب. فلفظة شعر ستنقل الإضمامة إلى مجال الخطاب الشعري بما يعنيه من اهتمام باللغة، وعلاقة الذات بالعالم. فالشعر يتطلع إلى بناء العالم بالكلمة؛ لأنه معبر فهمه وإدراكه، ولا تقوم بديلا عنه.
فمن مهام الشاعر الأساسية في الحياة أن يحرر اللغة بمقاييس نظامها الخارجي والدخول إلى عالمها الذاتي ، ومن هنا يكون الشاعر غواصاً يبحث عن مكنونات اللغة و يثورها من خلال إحساسه و تصوراته و تخيلاته.
على مستوى البناء الفني:
أولا استعمل الشاعر بحور الكامل والرجز والخبب في أغلب القصائد، ولم يلتزم بعدد معين من التفعيلات المتكررة في الشطر الواحد، بل ترك السياق والصورة الشعرية، والدفق في المعنى؛ هي التي تحدد تكرار التفعيلات.. هذا طبعا لاعتقاده بأن الأمر في نهاية المطاف هو بناء إيقاعي في وزن خاص يقوم على التفعيلة وليس على البحر الشعري. الأمر يتعلق إذن بالاشتغال على تفعيلات وليس على بحور. والأكيد أن التفعيلات تنويع في الإيقاع في كل قصيدة من قصائد الديوان.
ويتمثل دورها في الكتابة الشعرية في أن بعضها مثل تفعيلة الخبب مثلا فَعِلُنْ /فَعْلُنْ تنقل الأفكار والتصورات والمواقف القوية والغاضبة إلى إيقاع سريع ومعبر ، فهي أشبه بحركة سير الأحصنة في تدفقها وقرقعتها على الإسفلت. إن الخبب يمنح للبناء الشعري توهجا ودلالة عميقين من خلال تردد إيقاعه السريع.
وأما تفعيلة الكامل متفاعلن فتوظف في حالة يكون الشعر، بصوره وأسلوبه القوي، أداة لإيصال معانٍ وتصورات عميقة، وذات أبعاد ملحمية أحيانا، فيها زخم وجزالة في الصور والدلالات. إنها بحث عن التكامل والكمال في الصورة والتخييل والمعنى من خلال هذه التفعيلة..
وأما المتقارب فهو من الأوزان المتميزة الإيقاع بالرغم من القصر النسبي لوحدة إيقاعه «فعولن» والمتكونة من مقطع صغير وكقطعين متوسطين.
علما بأن الشاعر قد استعمل أربع تفعيلات في الديوان بكامله.. هي تفعيلة الكامل : متفاعلن، وتفعيلة الرجز: مستفعلن، وتفعيلة الخبب: فعلن، وتفعيلة المتقارب: فعولن وذلك في قصيدة واحدة.
وقد اختار الشاعر تفعيلات هذه البحور للتعبير عن أحاسيسه، ومشاعره، ورؤاه الخاصة.
مثلا تفعيلة الكامل في قصيدة أدراج الليل والهباء.
تفعيلة الخبب في قصيدة ما حكيت للريح عن زمن الإبحار.
تفعيلة الكامل في قصيدة أخطو على دربي وحيدا.
الخبب في لاشيء تغير يا سيزيف.
تفعيلة المتقارب في قصيدة عشق في الأعين الواجفة.
عن التكرار:
يخدم التكرار التجربة الانفعالية للشاعر عبدالله فراجي، وله تجليات عدة في شعره، نجد أن أغلبها يرتبط بالتكرار الافتتاحي أو الاستهلالي؛ وهو تكرار كلمة أو جملة في أسطر متتالية، والغاية من هذا التكرار هو الكشف عن فاعلية قادرة على منح النص الشعري بنية متسقة؛ إذ إن كل تكرار من هذا النوع قادر على تجسيد الإحساس بالتسلسل، والتتابع؛ وهذا التتابع الشكلي يساعد في إثارة التوقع لدى المتلقي؛ وهذا التوقع من شأنه أن يجعله أكثر تحفزا لمتابعة الشاعر والانتباه له. ***
ومن مظاهر هذا التكرار الاستهلالي، تكرار «ها إني..» كما في قصيدة: «اختلال الظل المنضود» ص15، و»إني أرى..» في قصيدة «عتبات السؤال» ص23، و»وقع السنابك…» في قصيدة «أخطو على دربي وحيدا» ص56، و»الليل من حولي..» من قصيدة «أدراج الليل والهباء» ص85، وتكرار النداء، كما في قصيدة «روحك يا نصفي» ص102.
القاموس اللغوي:
حاول الشاعر أن تكون لغته الشعرية في هذا الديوان استمرارا لكتاباته السابقة، واختلافا عنها، فهي تنهل من التاريخ والفكر والثقافة بوجه عام، إسلامية كانت أو كونية، كما أنه ظل داخل مفردات المعجم الشعري الوارد خاصة في ديوانه الأول « المرآة والبحر».
أما على مستوى الاختلاف مع كتاباته السابقة، فقد اشتغل كثيرا على الصورة الشعرية بالخصوص، وعلى اللغة في بنائها الجمالي والفني، مما اضطره إلى إعادة النظر في القصائد وتنقيحها باستمرار، حتى يصل إلى لحظة فارقة، يداخله شعور خلالها لا يمكن وصفه ولا التعبير عنه، بأنها كاملة ومستوفية للرؤيا الشعرية التي يصدر عنها.
*على مستوى الرمز:
يستعين الشعراء بالرمز لكونه أسلوبا جديدا، وفنية رفيعة تجعل النصوص تتسم بالغموض وخفاء الدلالة ، وهو ما يتفق مع رغبات الطلائع المثقفة ، التي اتخذت من الرمزية منفذا للتعبير عن الواقع المهزوم بأسلوب الإيحاء والإشارة ، وإخمادا للبراكين المتأججة في النفوس، وإيصالا للرسالة الشعرية عبر وسائل أسلوبية غير مباشرة، وتجنبا للرقيب، وتعسف السلطان، فضالًا عن كونه منهجاً حديثاً معبرا عن الأحاسيس والمشاعر والعواطف بطريقة الرمز والإيحاء.
والرمز إذ يضفي غموضا وإبهاما؛ فإنه يمنح للمضامين آفاقا رحبة ومساحات واسعة، ويوسع من أطرها، ويسمح للتلقي بالتعدد، مما يغني النصوص، ويساهم في تعدد دلالاتها، بفعل إيحاءاتها.
– والرمز في الإضمامة غالبا ما يتم بمفردات ومفاهيم تحضر بدلالات خاصة، ضمن سياق للاستعمال، وضمن بناء شعري خاص. وهي تتكرر أحيانا بالمعنى الذي صاغها به، وأحيانا بمعاني تخرج عن المألوف في القواميس اللغوية.
مثل: الليل، والأشباح، والعشق، والحلم/الأحلام، المدائن/المدن، الريح… وغيرها.
وهي رموز تدخل في علاقة تضاد؛ إذ يمكن تقسيمها إلى رموز ترتبط بالانكسار أو مولدة له، من مثل الريح الغبية، والليل الذي يرتبط بالظلم والاستبداد، والذئاب التي ترمز للافتراس، والكوابيس الخانقة للأحلام، في مقابل رموز ترتبط بالأمل، من مثل الحلم، والفردوس، و القرية والمدينة الدالتين على الوطن، والعشق، والحرف كعنصر يتمدد على صفحات العمل معبرا عن الجدل القائم بين الانكسار والانتصار…
– ولكنه استعمل أيضا الرمز الأسطوري والتاريخي والحكائي من مثل: مسرور، والحجاج، والحلاج والسندباد، والمسيح وسيزيف حيث التداخل بين هذين الرمزين اللذين يعتبران امتدادا للشاعر نفسه، البعض من هذه الرموز ظل حاضرا بحمولته الدلالية الأولى، كمسرور والحجاج؛ لكون السياق العام لم يتغير، وأن المستبد مازال يقيم معنا، وبيننا، يسافر بسيفه البتار معنا منذ سحيق الأزمان. لذا، وجب القطع معه، وبعضها الآخر، حل بحمولته السابقة، مع حمولة جديدة ألبسها الشاعر لها لتناسب السياق الحاضر، ولكي تحمل رؤيته للواقع وتصوراته له. كما أن الشاعر قد عاد للنهل من ثقافته الفكرية والفلسفية، وحاول أن يصوغ أفكاره من خلال الرموز الأدبية المعبرة، بعيدا عن كل إشارة، أو تعبير مباشر وصريح.. بل قام أحيانا بتغيير مساراتها وصورها ودلالاتها المعروفة والمتداولة.
مثل: أوليس، سندباد، الناصر صلاح الدين، بابل، ميدوزا، سيزيف، دونكيشوط… وغيرها.
فأوليس الشخصية الأسطورية والمتميزة بروح المغامرة والاكتشاف، اتخذ رمز المسافر الباحث عن الجديد، لكنه في رحلته الشاقة والمتعبة يعود إلى وطنه لا ليتغلب على الأعداء، بل ليصاب بالخيبة والمرارة من واقع جاثم على الصدور كاتم للأنفاس لا يرغب في التزحزح والتغيير؛ وهو أشبه في انتكاسته بالمسيح الذي لم يتمكن من إحداث أي تغيير رغم سموه، ونبل مقصده.
الزمان الناظم للقصائد: هو زمان ما بعد الربيع العربي، والدليل على ذلك أن النصوص كتبت بين سنتي 2011 و2016، وهي سنوات الربيع العربي الذي انقلب خريفا داميا لحد الساعة، وهو أيضا زمان المدائن الميتة، والوطن المنفي/ المقصي..
عن بُعد الحكي في العمل:
النصوص مضمخة بروح السرد، معطرة بأنفاس الحكي، مشحونة بأفعال الحركة، مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بالموضوعات المعالجة؛ فأوليس، كما السندباد، من الشخصيات المسكونة بالترحال، وبناء عليه لا يمكن ملاحقتهما إلا باستحضار فعل الحكي، قصد متابعتهما وهما يفعلان، ويتحركان، ويغامران. من هنا تلك المزاوجة البناءة بين الشعري والسردي، وحيث الحدود القائمة بينهما مجرد حدود وهمية، فالشعر يستمد طاقته من السرد، كما أن السرد يستمد جمالياته من الشعر، فكل منهما يغذي الآخر، ويستفيد منه، في حدود، بمعنى، عدم تغليب عنصر السرد على الشعر حتى لا يخرج من مجال القصيد، وعدم طغيان الشعر على السرد حتى لا يصير شعرا مسردنا. فكل جنس يستفيد من الآخر، ويبقى محافظا على كينونته يتقوى بتلك الاستفادة، ولا يفقد هويته الأصلية؛ تظل هناك مهيمنة دالة على تلك الخاصية وتلك الروح.ونجد احتفاء بفعل الحكي في قصيدة «ما حكيت للريح عن زمن الإبحار…» ص72.
عن المكان في العمل:
المكان: هو فضاءات الحزن العميق إذ لا شيء تغير يا سيزيف، إنها مدينته التي من خلالها تحضر كقلعة منسية، تعيش التمزق العميق، وتغوص في حزن الانتكاس والخيبة والموت البطيء..
ولكن القصائد تدور، وتتحرك حروفها لتعلن حضور النور والبهاء، وترسم الأمل على صفحات واقع مرير، جامد كالصخر في يوم بارد من أيام الشتاء. غالبا ما تكون القصيدة بناء متعرجا، ينتقل ما بين بدايات قاتمة حزينة ونهايات تروم الأمل والنور. إنها أحلام شاعر؛ هذا الشعر المهووس بالحرف، والساهر يتجرع المرارة والقلق بغاية كتابة نص يعبر عن واقعه الغارق في أوحاله، كما في قصيدة «مكاشفة»، هذا العنوان الكاشف لما يعانيه الشاعر من أجل مراودة الحرف وتطويعه للتعبير عن ما يحس به من آلام، وما يكابده من حزن، يقول:
في القلب جرح غائر قد لأثخنك،
وعلى حبيبتك وشم عاشقة كوتك بحمقها،
والحزن ذلك المقرف..
استعدى عليك الحرف والأشعار،
واستعدى عليك الصبح والأسحار،
في سهد،
وفي عرق،
وفي العتمات حين أتى..
رماك ودجنك !
فهذا المقطع القصير مشحون بكلمات الخيبة والحزن والألم أثناء مراودة الحرف ليل نهار.
وهي تراتيل جمار خابية، لكنها ليست خامدة؛ لأن لهيب الرعشة لم يتشكل منها بل من الجمار المشتتعلة وإن بدت خابية. ص12.
عن بُعد الحب في العمل:
وحتى في قصائده «الغرامية» نجد في عشقه مواقف من الحياة والوجود وأحيانا يتعلق بغلاف الفكر الذي يسائل الحياة وتحولاتها.
إنه ليس شعرا للحب وحده كما عند غيره، فالصحيح أن المعشوقة يتوسع إطارها لتحمل معنى الوطن، وتحمل مواقف الشاعر من الحياة والوجود.
تلك بعض الثيمات التي عالجتها المجموعة وفق إيقاعات محددة وبلغة احتفلت بالرمز والأسطورة، ونضدت سطورها بالصور المعبرة ذات الحمولة الثقافية، موظفة معجما معبرا عن الصراع بين الألم والأمل، بين الانكسار والانتصار، معتمدة الحكي في رسم حركات شخوصها وترحالهم بحثا عن واقع مغاير
هامش:
** (تراتيل الجمار الخابية، ديوان شعري للشاعر عبدالله فراجي، منشورات مطبعة ووراقة بلال. الطبعة الأولى، سنة 2018).
*** بنية المنجز الشعري المغربي الحداثي، دراسة لشعر عبدالناصر لقاح، محمد داني، الطبعة الأولى سنة 2015