مجموعة «طقوس سرية وجحيم» لحياة الرايس : الكتابة والمغايرة

قاصة قادمة للسرد من الفلسفة، وكاتبة نسوية ترافعت ولازالت عن قضية المرأة بغاية المساهمة في تشخيص وضعيتها المختلة في مجتمع ذكوري معطوب.كرست وفرة من إصدارتها لتعرية الأسباب الحقيقية خلف تهميشها واستغلالها وهو أمر أعاد للواجهة هشاشة المجتمعات العربية(1) وبما أنها إحدى وريثات شهرزاد فقد راهنت مبكرا على السرد وإن كتبت لاحقا في الشعر والمسرح والرواية..وجدير بالذكر أن مجرد تأمل عناوين إصداراتها يعطي فكرة عن جوهرية قضية المرأة في مشروعها الإبداعي والفكري لنتوقف عند العناوين التالية:»ليت هندا/مجموعة قصصية»، «أنثى الريح/ ديوان شعر»، «جسد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطة الجن/دراسة»، «سيدة الأسرار: عشتار/ مسرحية» وسلسلة أطفال تحت عنوان»حكايات فاطمة»إصدارات أفادت من خلفيتها الفلسفية ومن التحول الذي لحق الفكر والمجتمع.فطرحها لقضية الحرية مثلا اكتسى طابع الشمولية،بحيث تجاوزت وقوفها عند علاقة المرأة بذاتها أو علاقتها بالرجل لتمتد إلى بنية المجتمع كله.فتجاوزت الصراع المبتسر بين الرجل والمرأة،و من ثم تجاوزت عملية النفي والنفي المضاد التي عملت على إعادة إنتاج نسق مجتمعي متخلف..
بنيت أضمومة «طقوس سرية وجحيم» على رافعة ميلودرامية:أقصد اشتمال قصصها الثمانية على الحواجز الكابحة لنمو المرأة في ذات الآن التي رصدت المتغيرات المساعدة على تطورها.حصيلة جاءت على خلفية تجدر وعيها بقيمة تجربة الحياة نفسها قبل فعل الكتابة.فهي القائلة في أحد حواراتها:» أكتب لأكون كما أريد أن أكون لا كما أرادت لي الحياة.أي:أكتب لأكون حاضرة الآن، ولأبقى حين أغيب.فكتابة الذات إن لم تكن ذات بعد إنساني ينطلق من التجربة الفردية ليمس الإنسان أينما كان وفي أعماقه ووجدانه،فهي غير ذات جدوى سواء كانت بالنسبة للمرأة أو الرجل.»(2) تصريح يشدد على تجربة الحياة بما في ذلك تجربة دراستها للفلسفة الإغريقية ببغداد والمستثمرة في رواية»بغداد وقد انتصف الليل فيها»وهو عمل به لمسة وفاء لجامعة علمتها أصول البحث والمعرفة..كما أن تجاوز مجموعة»طقوس سرية وجحيم» للكتابة المتدمرة واليائسة تأسس على مباشرة فعل الحياة واستخلاص القاصة العبرة أن المرأة الجديدة تبدعها التجربة..أما رصدها للمحبط كما المساعد على التطور فكان بغاية الإمساك بطرف الخيط المؤدي لتحرر الذات والمجتمع.

1 – محاولة لإثبات الذات:

في قصة «طقوس سرية وجحيم» وهو عنوان حملته الأضمومة كلها لأنه يعبر عن القضية الجوهرية للقاصة ..عاشت البطلة حالة محبطة بسبب عدم الإعتراف لها بفرادتها وتميزها وإن شكلت لها الكتابة طوق نجاة.كاتبة قتلتها أنانية الزوج الشبقي أو كادت، ومبدعة دمرها الروتين ورعاية الأبناء وواجبات البيت لولا حلمها بترك أثر كتابي ..شاعرة حاولت التعايش مع الضجر لكن لقاءها بصديق قديم سائل عن امتدادات شعر الجامعة فيها فتح جرح الكتابة وجعلها تراهن على الليل كزمن خاص بالكتابة.. لكن هيهات فزوجها الجامعي لا ينظر لها إلا كمزرعة لدفن نزواته. إذ في كل ليلة يأكل الثمرة ويهددها بصفة النشوز إذ امتنعت ..وفي الصباح الباكر يغادر البيت في اتجاه الجامعة ليبدأ محاضراته عن الحريات وحقوق الإنسان.
قصة تصور درجة الإحتباس العاطفي الفادح للمرأة في مقابل تطور وعيها في المجتمع العربي المعاصر.امرأة تشقى بوعيها وإرادتها المعطلة راصدة أعطاب الذهنية الذكورية المختلة.وبسبب وعيها تشكك في وفرة من المسلمات وتنتقدها. والبطلة نموذج فقط من النساء اللواتي بتنا حاضرات بوفرة في مجتمعنا المتحولة.تحول خلق حالة نزوع للاحتكام لسلطة العقل والنقد والمراجعة.إن الوضع المأزوم الذي عاشته البطلة جعلها تعتبر الكتابة وطنا بديل عن الوطن.كتابة تمنحها الإنتقال لمستوى التنظير لأشكال الوجود المرغوب فيها ..ولهذا تعتبر الكتابة امتدادا وجوديا لجسدها المتدمر من الهيمنة الذكورية.. إن عدم ثقة المرأة في الزوج ومؤسسة الزواج والمجتمع يفسر تراجع الهم القومي في الكتابة النسوية مقابل اهتمامها بقضايا الذات. وهذا لا يعني أن قضيتها تتموقع خارج القضايا المصيرية بقدر ما هو ردة فعل على المعالجة التجزيئية للأنظمة لتحررها.وإرجاء قضيتها لزمن لاحق.مآل يترك المرأة لآلامها وتشوهها النفسي والجسدي والفكري إلى أجل غير مسمى.إن تشبت البطلة بفعل الكتابة راجع لكونها تعتبره تعويضا عمليا عن الصمت الذي فرض عليها ووسيطا إجرائيا لتمديد حضور الذات بعد تفسخها..فالكتابة تمنح المرأة تجديد التوقيع باسمها حافيا من الألقاب الإجتماعية كما تنعت في واقعنا اليومي بأم فلان أو زوجة فلان. فتغييب الإسم ينفي خلفه الجسد وصاحبته ويترجم وضع المرأة المرتهنة بالآخر..فالإسم عنوان للجسد.والتوقيع به حافيا تنصيص على رغبة مضمرة في الإنتقال من الهامش إلى المركز ومن التبعية إلى الإستقلالية ومن النكرة إلى المعرفة قصد انتزاع الإعتراف.إن إصرار البطلة على الكتابة نابع من كونها تشكل بالنسبة لها أحد الجسور العملية لتحقيق الذات وتأمل امتداداتها.فالمرأة وإن هزمت مرحليا في هذه القصة ظلت متشبثة بشيئين:الكتابة والجسد حيث كان الزوج يخطب وده رغم كونه على خلاف معها.لكن أعود وأقول أن المجتمع هو الذي رب المرأة على أن الجسد هو رأسمالها الأوحد ..تربية خرقاء تعطل باقي الملكات كالإبداع والإنتاج والتفكير وما إليه.غير أن البطلة في هذه القصة تراهن على الكتابة وليس السرد وهو أمر يذكرنا بقولة الدكتور محمد عبدا لله الغدامي:»تعرف المرأة الحكي،وتعودت عليه،وسكنت فيه،ولكن الكتابة عالم جديد ووعي جديد،يخرجها من المألوف إلى المجهول،ويحولها من القناعة والتسليم والغفلة،إلى قلق السؤال،وقلق الوعي بما يحيط بها،وما يجري وراءها،ولها.»(3)
في الواقع إصرار بطلة قصة»طقوس سرية وجحيم»على الكتابة يترجم وعي المرأة ورغبتها في التحول من كونها موضوعا للكتابة إلى ذات منتجة للخطاب.وهو أمر اقترن بوعيها بان الخصم ليس الرجل ولكن الخصم هو الذهنية الذكورية التي تحضر أحيانا في أوساط النساء أكثر.وعي يروم تغيير نظرة المجتمع للمرأة والكف عن اعتبارها قطع غيار ما يصلح منها للإلتذاذ يتم إبرازه (صدر،أرداف،خصر..)وما دون ذلك يتم تركه جانبا.بمعنى الكف عن اختزال المرأة إلى جسد واعتبارها صوتا وذاتا فاعلة في الحياة كما في الكتابة»إن زمن الإبداع زمن تفجير الإشباع،وزعزعة الثقل،وترويض النفس على لغة الإهتزاز حيث يحدث الإغتسال..الإبداع بهدف فعل حر..إنه صرخة تتفجر لتملأ البياض لغة،والصمت بوحا،وتحيل العالم بكامله إلى سؤال يخرج الأشياء من رتابتها.»(4)
إن قصة»طقوس سرية وجحيم»بذات القدر الذي تستدعي المكبوت والمبعد تسائله وتنتقده بنية تجاوزه..ومحكي مماثل يمنح المرأة فرصة أن تصير كاتبة ومكتوبة وذلك بالسفر بعيدا في تشوهات القيم والمسلكيات المختلة.رحلة محفوفة بالمخاطر لكن ما هم المرأة إن خسرت المعركة وربحت التجربة ونالت شرف المحاولة . فبالمحاولة وتوثيقها يمكنها الإنتقال من عالم الصمت إلى عالم الكلام ومن المحو إلى الكتابة.كتابة ذات بعد مزدوج تحرر المرأة كما تحرر الذكورة من عوائقها التي تقيدها وإن بدت القصة قد حولت قلق الخارج إلى حميمية الداخل بتسريد الجسد المغتصب من طرف ذكر ولا أقول رجل.تقول الساردة ص8: «تمضي اليد متوسلة حينا معنفة حينا آخر ..لا يزداد الجسد إلا تخشبا..تتوتر اليد تشد بعنف طيات اللحم..بينما الدماء بنيران جديدة لا تطالها اليد التي تعبث قليلا ..تتسكع على سطح الجسد ثم يغلب عليها النعاس فتسقط هاجعة.»تتوسل الساردة هنا الثوب الشفاف لا لتتعرى بل لتعري الذهنية الذكورية وتضعها على الشاشة واضحة للمحاسبة. تحكي وهي تصفي حسابا مع إرث عاطفي معطوب. وكتابة بخلفية مماثلة تحرض وتدهش وتتمرد على سلطة السائد في الآن نفسه.فتصير الكتابة أحد بوابات الخلاص من الكبت وتحريك الساكن.لكن السؤال المحير هنا هو:لماذا يمثل جسد المرأة العتبة المفضلة عندها للإنفتاح على النقد والمساءلة؟ هل لأنه يحافظ على حيوية سردها وإغرائه أم لأنه يشكل الحيز الأفضل للتصادم مع الذهنية الذكورية؟ وكأني بالقص النسوي يكتب على خلفية القولة التالية» تقتحم المرأة عالمها الكتابي بجسدين: جسد بيولوجي محسوس، وجسد لغوي، فتحمل نصها مجنحا بحسيته وتجريده فقد نلمس مفردات جسدية المرأة وبيولوجيتها، كما نلمس رمزية هذا الجسد ومجازاته التي تتركها الألفاظ المشعة في النص.»(5)

2 – جدل الذات والآخر:

في قصة»أنا وفرانسوا وجسدي المبعثر على العتبة» تواصل معجم الجسد وحديث الرغبة بغاية تحرير الذات المؤنثة بعيدا عن سطوة المجتمع العربي وقيوده خاصة والآخر قادم من الغرب (فرنسوا).لحظة سردية غاب فيها الوصف الإخباري وحضر البوح الذاتي محققا فاعلية اشتباك الأنا بالآخر المختلف.علما أن النظرة للذات محكومة بالبحث عن «الضد»او لنقل عن المختلف حتى لا نقول الخصم.والتعرف على الآخر تعرف ضمني على الذات.غير أن الأزمة التي عاشتها بطلة القصة سببها الدخول في علاقة مع رجل غربي أساسا.وعلى حد تعبير أدوار سعيد: «أزمة الهوية لا تظهر إلا في المجتمعات التي تدخل في دينامية الحداثة.»(6) وأزمة البطلة بدأت باكتشاف عطل مشاعرها التي كانت عاطفيا مع فرنسوا ولم تكن معه في الآن نفسه.تقول الساردة ص16: «لكن فرنسوا سيحاسبني فيما بعد عن ذلك التبعثر، ذلك الإنقطاع عن الصلاة كما يحاسب إله عبدا أشرك به.لقد أدرك بحدس العاشق الصوفي الخالص أنني لم أكن كليا معه وأنني لم أسر صافية في دمائه الحارة..كيف أقنعه أن دمي الملوث بموروث فيروسات القبيلة هو نفسه المحترق شوقا للقائه؟ من الصعب أن يفهم! «يبدو واضحا من خلال القرينة النصية أعلاه تخلف الذات في مرآة الآخر بسبب موروثها القبلي البعيد كل البعد عن الأفق الإنساني النبيل. موروث يلهج بالقولة الشهيرة»أنا ضد أخي، وأنا وأخي ضد ابن عمي،وأنا وأخي وابن عمي على الغريب.» والإحالة أعلاه واضحة على كون الحدث يتجاوز الفرد للجماعة باعتباره هما حضاريا عاما. ويمكن اعتبار كلام البطلة نقدا ذاتيا موجها للمجتمع ككل على اعتبار أن تخلفها ناتج عن تخلف الرجل وبالتالي وجب محاسبة المجتمع قبل محاسبتها.. لكن مع ذلك يبقى سؤال تماهي البطلة مع الرجل الغربي محيرا؟ ألا يمكن اعتبار الإرتماء في أحضانه قمة الإغتراب أم أنه جسر مؤقت للعبور؟ تقول البطلة في ص15: «ضمني فرنسوا حتى ذاب المرمر الصلب تحت أقدامنا..تراجعت الدنيا في قسوتها..تقلصت المسافات وانحنت السماء وانبسط الدهر وغفر الإله.» تصور الساردة في هذه القصة توحدا يصعب تحققه مع آخر من نفس البنية (عربي) ..ففرنسوا رغم أنه آخر الآخر.حقق ذات البطلة التي ترغب أشد ما تكون الرغبة في تحقيق حريتها.حرية بإمكانها التحقق دون اغتراب يكفيها تأمل آخرها الذاتي. وكما يقول الشاعر الفرنسي «أنا آخر»/«je est un autre» قولة بقدر ما تسقط الحدود الفاصلة بين الذات والآخر تجعل التمييز بينهما عسيرا.
نخلص من هذه القصة إلى أن كتابة الذات التي تستحضر الآخر من أشد لحظات السرد تركيبا وتعقيدا لأن الذات تكون – في مستوى أول – مضاعفة: كاتبة ومكتوبة، مفردة ومنتسبة لجماعة في ذات الآن. ذات متفاعلة مع آخر مختلف ومفارق لتاريخ وذاكرة النحن. لكن رغم وضعية الآخر الغالب والمهيمن فهو جوهري في تشكيل هوية الأنا. ولأن الآخر كذلك فهو يدفع بالذات للدخول في صراع معه.
تبقى الإشارة إلى أن المرأة في هذه القصة وهي تستحضر ماضي «النحن» العام لا تسقط فريسة الحنين والشجن.لأنها تدرك أن ما تستدعيه ماضيا معطوبا ولذلك يقتضي نقده وتشريح بطولاته الواهية بما في ذلك فحولة الشاعر المزعومة ونظام القبيلة.لنتأمل المقطع السردي التالي حيث الوضع التبخيسي للمرأة ص14:» فالقبيلة لم تعبق قط برائحة الأمان منذ ساح بها سر ليلى الأخيلية وليلى العامرية وبثينة..ممن لم يمسهن ترف الجنون ولا تمعن برحمة التيه هائمات طليقات في الصحراء.بل اكتفين بابتلاع جمرات عشقهن غصصا..فالشاعرات اللواتي تطاولن وعتبن على رقعة البوح تخضبن بدماء الكلمات فسكتت قلوبهن وأنفاسهن ولم تصلنا أشعارهن أبدا.»
في قصة»اغتيال على ضفة السين»تحلم مريم بزيارة باريس للتخلص من رقابة الشرق.. لكنها تنسى أن هذا الحل فرديا وأنانيا تماما. غير أن سفرها لا يتم بسبب حجز جواز سفرها ومعه حجزت حريتها.لكن لماذا كل هذا الشغف بالغرب؟ وهل الهروب من الشرق ضعف أم أن الهروب من الخسارة مكسب؟وهل حقا سفر مريم بنية اغتيال الوطن: أي التنكر له أم أنه سفر بنية إعادة اكتشاف الذات.فقط تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه القصة تعكس الصورة:صورة رحيل الرجل الشرقي للغرب من خلال لفيف من الروايات العربية يكفي استحضار هجرة إسماعيل في قنديل أم هاشم لأوروبا وهجرة مصطفى سعيد لبريطانيا في موسم الهجرة للشمال وقس على ذلك روايات أخرى..وتذكير الشرق(من الذكورة) –في هذه الروايات-مقابل تأنيث الغرب مفهوم إذا نظرنا له من الشرفة النفسية حيث يحقق الأبطال الذكور نصرا جنسيا-على مستوى المتخيل- مقابل الهزيمة الحضارية أمام أوروبا على مستوى الواقع..لكن ما معنى تأنيث الشرق عند حياة الرايس؟هل باعتباره رحما ولودا فقط اللحظة التاريخية و بطش الأنظمة حال دون إثبات الذات؟أم أنها تعتبر الأنثى هي الأصل وما دون ذلك لواحق؟ ربما حالت الهوية النضالية لمريم دون سفرها. تقول الساردة ص21/22: «رأت نفسها يوم خرجت مع سيل جارف غاضب من الطلبة يزأرون في الشارع كالأسود الجياع:نريد حرية نريد خبزا(…) ومع ذلك استطاعت يد ثقيلة كالرصاص جامدة كالخشب أن تهبط على كتفيها من الوراء لتجمدها في مقعد المطار:تفضلي معنا لتجيبي عن سبب ترددك على المطار.»

3 – مفارقات الكتاب:

تطرح قصة «عزرائيل والكاتب» سؤالا فلسفيا عميقا:ترى هل يموت الكتاب حقا؟رغم أن القصة تقدم انفلات البطل/ الكاتب من قبضة عزرائيل بسبب كون هذا الأخير كان بطل رواية لم تتم فاضطر تمديد حياته الكاتب لإتمام روايته التي ستحقق مجدا وشهرة لعزرائيل وبالتالي منحه حياة أبدية .لكن هل حقا أن الكتابة تشبع الموت حياة؟وبأي معنى أن سواد حبر الميت يعيد الحياة لغيابه في كل جلسة قراءة؟وهل حقا أن الكتابة هي تجسيد خفي يترجم رغبة الكاتب في الخلود؟ لكن أليس الموت هو ما يعطي الحياة معنا ونكهة، وإذا كان الأمر كذلك لماذا نتهيبه؟ ولماذا نصدق كذبة الحياة ونحن نعلم أن الموت هو الحقيقة المطلقة؟هل لهذه الغاية احتفت هذه القصة بالكتابة كنقيض للمنية؟ وهل هو احتفاء يترجم أنه ليس ثمة وسيلة للتجوال في ردهات الموت سوى الكتابة؟ أم لأن الكتابة شكل من أشكال صناعة تلك الذات الراسخة في ذاكرة التاريخ والقادمة من المستقبل؟ وهل سؤال موت الكتاب الفعلي والرمزي جديد تماما على الثقافة العربية؟ ألا يمكن اعتبار الوقوف على الطلل في الشعر العربي مثلا نوعا من صلاة الجنازة الشعرية على الماضي الميت؟ علما أن فعل الوقوف على الطلل في الأصل فعل تذكر. والتذكر فلسفيا يعلمنا كيف نعيش قلق الموت؟ جملة من الأسئلة رافقتنا على هامش هذه القصة. لكن إذا توفق الكاتب في هذه القصة في النجاة من الموت الفيزيقي فإن شاعر قصة «ليت هندا» مات رمزيا بسبب خيبة فقدان موضوع رغبته (هند). شاعر يعيش وهم سلطة الكتابة. ويتمثلها كفعل لانتزاع الاعتراف. لكن لنتساءل في هذا المقام إذا كانت غاية الكتابة هي إثارة الإعجاب وانتزاع الاعتراف من الآخر، ألا تضمر الكتابة ممارسة سلطة ما لأنها لا تتغيى التواصل ولكنها تروم الهيمنة وفرض الذات الكاتبة كنموذج للتقليد.وبأي معنى يمكن اعتبار الكتابة مواجهة خيبة أو دفع هزيمة أو تجلية حقيقة.إن قوة الكاتب تكمن في تحويله للجرح العاطفي أو الوطني إلى أثر جمالي والكتابة عموما هي تعويض للنقص والحاجة التي تدخل في صميم التركيبة الأنطولوجية للإنسان. وفقدان الشاعر لهند في هذه القصة يحيل على أن الحب ليس بعيدا عن الموت على اعتبار أنه فناء الذات في الآخر ولو غاب.وقدر الحب الخيبة،لأنه يولد عادة بأحلام شاهقة أكبر حتى من أصحابه. «يتميز الحب الذي ترك أثرا هاما في تاريخ الإنسان وأدبه وفكره بكونه شقيا تعيسا بائسا. إنه الحب الذي لا يعرف النهايات السعيدة.»(6)
والجدير بالذكر أن هند والشاعر قدما في حالة ترقب حدوث وقائع ظلت معلقة طيلة قصة»ليت هندا»فهند حضرت تارة مقرونة بسؤال (ترى كيف تعيش هند،ترى كيف تنام هند،ترى هل تتزوجني هند؟)و تارة في حاجة إلى موضوع رغبة غائب(هند في حاجة إلى رجل يحبها).وذات الوضع قدم فيه»محمود عيسى الشاعر الظمآن لوضع اعتباري راق وسند مادي مفتقد.ربما لأنهما كان في حالة حب والحب نبتة برية تنمو خارج الفصول.هو فعل من أفعال التجاوز والإنفتاح على الآخر،مشاركة دون السقوط في التطابق..لكن ما فات «هند» و«محمود عيسى» أن الحب ممارسة تمد المجرب بطاقة مليئة بالاستبصار والتنبؤ بدليل أن المحب يفهم أكثر من غيره إشارات الغريم المغرقة في الغموض..
يبقى السؤال هنا عن خيبة الشاعر في نهاية القصة: أقصد زواج هند من الجزار الثري ونكران تاريخها مع الشاعر المعدم.ترى بأي معنى يمكن اعتبار خيبة الشاعر غير خيبة الفرد العادي؟هل لأنها خيبة مكتوبة ومعمم على الجميع وبالتالي هي خبر يمكن الإفادة منها دون أدنى تلميح للتفاضل بين الخيبتين..صحيح أن الكاتب يستثمر خسرانه و خيباته وإخفاقاته محولا إياها لأثر جمالي..بانكتاب الفقدان تتحول الخيبة إلى معلم يلقن الفرد كما الجماعة التعايش مع الخسران.فالخيبة تزيد المفتقد عمقا ..صحيح أنها مكلفة وجارحة لكنها في الآن نفسه ترسم طريق الشفاء والتجاوز.يقول السارد على لسان هند ص38: «صحيح أنك أغرقتني شعرا ولكنه ليس كل شيء..لقد عشت طوال عمري،في عائلة تتوارث الفقر..ظننت أن الشعر والشهرة سينقداني من فقري…لكن جارنا الجزار إسماعيل كان يملك بيتا مؤثثا وسيارة..وعندما طلبني للزواج!.. فكرت.. أعتقد أنك ستقدر الموقف!.»
في قصة «إعلان زواج» -وهي أطول قصص المجموعة-(36صفحة) شيئت فيها العلاقات الإنسانية وتواصلت خيبات الشخوص: بحيث انفصلت «زهرة» عن زوجها الهادي المعلم. مدرس فقد عمله بانشغاله بتربية الدواجن وترك تربية الأطفال.كما انفصلت «وفاء» عن زوجها الثري لأنه يستعبدها بماله. وضاع «البشير»- المهاجر إلى إيطاليا – بين عشيقات كثر ومنهن «زهرة» مهاجر تتوعده زوجته بالقصاص.أما نبيل فيشقى برفض وفاء الإرتباط به شرعيا لأنها تعتبر مؤسسة الزواج قيدا .لكن لنتساءل أولا عن الرغبة الحرونة لزهرة في الثراء السريع عن طريق الزواج من رجل أعمال نشر عرضه على صفحات الجرائد.ترى أليس جمال «زهرة»-جمال مطلوب من طرف رجل الأعمال- وبالا ونقمة عليها لأنه عطل باقي ملكاتها. امرأة لا تملك لا شهادة ولا خبرة تؤهلها لخوض معترك الحياة بسند وخلفية..وهل حقا أن الزواج بالوفاق هو المخرج لمأزق الزواج كما فعلت وفاء؟
إن نغمة الإخفاق هيمنت على أجواء القصة ككل.خسران رافق كل شخصية على حدة،إذ يمكننا طرح السؤال على «زهرة»: لماذا فشلت في رهانها على الزواج بثري: هل لأنها توسلت بالجسد والجسد سريع العطل والعطب،أم لأنها لم تستفيد من درس شهرزاد التي انتهت إلى أن المعرفة هي خلاص المرأة من الإستعباد؟ ولماذا فشلت في علاقتها مع المهاجر»البشير»هل لأنها ألغت البعد الإنساني عن كينونتها وطغى عليها البعد المادي الصرف؟ولماذا فضلت وفاء الزواج بالوفاق /le concubinage – على الزواج المتعارف عليه؟ هل تتحمل وحدها المسؤولية أم تقع على عاتق المجتمع؟ هل لأنها وعت أن الرغبة متحولة» فمنطق الرغبة جدلي، فإنها لا تكون أبدا ثابتة، متكررة أو واحدة، إنما تحظى كرغبة مباشر، تستهلك موضوعها وتدمره، وحينما يتحقق الإشباع تستفيق ثانية،ليجد الإنسان نفسه، ليس أنا راغبة، ولكن عبدا للرغبة محكوما بمنطقها.»(7)
إن الخيبة لم تستثني الرجل في هذه المجموعة..ويمكننا مساءلة رجل الأعمال في قصة «إعلان عن زواج» الذي لجأ للصحف بحثا عن زوجة.. أليست هذه الممارسة علامة على قمة الإغتراب ..فما معنى فشل رجل في تأسيس علاقة مباشرة تنبض بالحياة..ولماذا عجز «نبيل» في ذات القصة عن إقناع وفاء بالارتباط الشرعي؟ في واقع الأمر كل شخوص الأضمومة تنشد الحرية دون جدوى المرأة على وجه الخصوص» فالمرأة الحرة كالعمل الفني العظيم لا يزهر إلا من تراث الثقافة الإنسانية الخصب ومن خضم التجربة المتواصلة في خضم الحياة المخضبة بالصراع»(8)

إحالات:

(*) طقوس سرية وجحيم. حياة الرايس.الهيئة العامة لقصور الثقافة.2015.
1 – جسد المرأة من سلطة الإنس إلى سلطة الجن.حياة الرايس.سينا للنشر.ط1 /1995.
2 – موقع العرب الافتراضي.حنان عقل.27/2/2019.
3 – محمد عبد الله الغدامي،المرأة واللغة.المركز الثقافي العربي،بيروت.1996. ص135.
4 – زهور كرام، في ضيافة الرقابة.منشورات الزمن.2001.ص16/17.
5 – الأخضر بن السايح .سرد الجسد وغواية اللغة.عالم الكتب الحديث.2011. ص122.
6 – د.صادق جلال العظم.في الحب والحب العذري .منشورات عيون المقالات.1987.ص17.
7 – نور الدين الزاهي،الرغبة،مقالة ضمن مجلة جسور.ع1.السنة الأولى ماي1996.ص11.
8 – عفيف فراج.الحرية في أدب المرأة.مؤسسة الأبحاث العربية.الطبعة الثانية.1985.ص347.


الكاتب : محمد رمصيص

  

بتاريخ : 14/08/2020

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *