محاربو المناخ القديم: كيف سجلت حفريات المغرب معارك الحياة البحرية ضد التقلبات الجوية -32-

يعد المغرب واحدا من أغنى دول العالم بالمستحاثات، حيث تُخزّن أرضه تاريخا جيولوجيا يمتد لمئات الملايين من السنين، توثق تطور الحياة على كوكب الأرض.
فمن أعماق بحار العصر القديم إلى سهول العصر الطباشيري، ومن آثار الكائنات الدقيقة إلى حفريات الديناصورات، يقدم المغرب نافذة فريدة لاستكشاف العصور السحيقة.
تتميز التكوينات الجيولوجية المغربية بثرائها في أنواع مختلفة من الأحافير، بدءا من التريلوبيتات والأسماك المتحجرة التي تعود إلى العصر الأردوفيشي، وصولا إلى الزواحف البحرية والديناصورات الضخمة من العصر الطباشيري.
وقد كشف العلماء في مواقع مثل طاطا وأرفود وسفوح الأطلس عن حفريات لديناصورات نادرة، مثل “سبينوصور المغرب”، وهو أحد أكبر الديناصورات المفترسة المعروفة.لكن الاكتشاف الأكثر إثارة كان في جبل إيغود، حيث تم العثور على أقدم بقايا للإنسان العاقل، مما أعاد رسم خارطة تطور البشر. وتعد الصحراء المغربية مصدرا رئيسيا لمستحاثات بحرية فريدة، مثل الأمونيتات والأسماك المتحجرة، التي تحكي قصة المحيطات القديمة التي غمرت المنطقة.
وبينما يسهم المغرب بشكل بارز في الأبحاث الحفرية العالمية، تواجه هذه الثروة الطبيعية تحديات كبرى، مثل تهريب المستحاثات وغياب قوانين صارمة لحمايتها. ورغم ذلك، فإن استمرار الاكتشافات العلمية في البلاد يجعل من المغرب مختبرا طبيعيًا مفتوحا، يروي فصولا جديدة من قصة الحياة على الأرض.

على مدى ملايين السنين، شهدت محيطات الأرض حروبا خفية بين الكائنات البحرية وتقلبات المناخ، كانت حفريات المغرب سجلا حيا لهذه المعارك الضارية.
تحت طبقات الصخور الرسوبية المغربية، تكشف العظام المتحجرة والأصداف المحنطة عن دروسٍ بليغة في فن البقاء، حيث تروي كيف حوّلت التغيرات المناخية مسار التطور، وأجبرت الكائنات على إعادة اختراع نفسها مرارا.
تشكل هذه الحفريات أرشيفا فريدا يظهر أن التحديات المناخية الحالية ليست سوى حلقة في سلسلة ممتدة، وأن الإجابات عن مستقبل المحيطات قد تكون مدفونة في الماضي.
في العصر الكامبري، حين كانت المحيطات المغربية دفيئة تسبح فيها كائنات هشة، سجلت الحفريات أولى تجارب الحياة مع الاحترار العالمي. ارتفاع درجات الحرارة آنذاك لم يكن كارثة، بل محفزا لظهور كائناتٍ بحرية ذات أصداف واقية، كأنها أسلحة تطورت لمواجهة بيئة متقلبة. مع دخول العصر الترياسي، تحولت المعركة إلى مواجهة مع البرودة، حيث كشفت حفريات المغرب عن كائناتٍ عملاقة كالإكثيوصورات، اضطرت لتغيير أنماط هجرتها بحثا عن مناطق أكثر دفئا، بينما اختفت أنواع لم تستطع التكيف.
بلغت المواجهة ذروتها في العصر الجوراسي، حين حول ارتفاع منسوب البحار سواحل المغرب إلى مملكة للتنوع البيولوجي. هنا، تكيفت الديناصورات البحرية مع الفيضانات الساحلية بتحويل زعانفها إلى مجاديف قوية، بينما طورت الرخويات أصدافا سميكة كقلاع مصغرة ضد زيادة حموضة المياه. لكن العصر الطباشيري جاء بمفاجأة قاسية، حيث أدى تبريد المناخ المفاجئ إلى انهيار النظم الغذائية، ما أجبر زواحف عملاقة مثل «الموساسور» على خوض معارك شرسة للسيطرة على الموارد المتناقصة، معركة خسرتها في النهاية بانقراضٍ جماعي مأساوي.
مع فجر العصر الثالث، بدأت صفحة جديدة من التكيف، حيث ظهرت الحيتان الأولى في مياه المغرب الدافئة، مستفيدة من ذوبان الجليد القطبي لاستعمار مساحاتٍ بحرية شاسعة. لكن التغيرات المناخية في العصر الميوسيني، أعادت الكائنات إلى حلبة المنافسة، فظهرت أنواع من الأسماك العظمية ذات خياشيم متطورة لاستخلاص الأكسجين من المياه الفقيرة، بينما طورت الشعاب المرجانية آليات لمواجهة التحمض.
حفريات المغرب هي دروسا مصيرية،فمنذ 56 مليون سنة، شهدت الأرض حدثا مشابها لاحترار العصر الحديث، سجلت آثاره في طبقات الصخور المغربية. تظهر الحفريات أن ارتفاع الحرارة آنذاك أدى إلى تقلص أحجام الأسماك بنسبة 30%، وتغير أنماط هجرة الكائنات، وهو سيناريو يعيد نفسه اليوم بسرعة مقلقة.
الاكتشافات الحديثة، مثل حفريات القشريات التي تكشف عن انهيار سلاسل غذائية قديمة بسبب التغيرات الحمضية، تعمل كإنذارات حمراء لضرورة تغيير المسار.
لا تقتصر الرسالة على التحذير، بل تمنح الأمل،فحفريات «المرجان المتحجر» في مناطق مثل آسفي تثبت أن بعض الكائنات استعادت عافيتها بعد كوارث مناخية، عبر آليات تكيفٍ جينية مذهلة.
الباحثون المغاربة اليوم يستخدمون هذه البيانات القديمة لنمذجة تأثيرات الاحتباس الحراري على الثروة السمكية، مستفيدين من «ذاكرة الأرض» لوضع خطط استباقية.
بهذا، يتحول المغرب من شاهد على الماضي إلى حليف للمستقبل، حيث تشكل كل حفرية مكتشفة قطعة في بانوراما التكيف المناخي.
هذه الصخور،هي خارطة طريق تثبت أن الحياة قادرة على النهوض مجددا، إذا أَعطيناها الفرصة.


الكاتب : جلال كندالي 

  

بتاريخ : 10/04/2025