محكيات الحمق وخطر الكتابة

فكر إدغار موران في المعرفة بكونها بناء وحلا للمشكلات وترجمة أو تحويلا؛ ولا شك أن الكتابة، بمعنى ما، نزوع إلى إنتاج معرفة، وهو ما يعكسه منذ الوهلة الأولى كتاب الدكتور عبدالإله الرابحي الموسوم بعنوان: «العروة الوثقى في أخبار الحمقى». العنوان لا يخلو من دلالة مستفزة. نقرأ في المعجم العربي الأساسي: «عروة ج عرى: مدخل، موعد؛ والعروة الوثقى: رباط وثيق، عرى الصداقة: علاقات الصداقة».
يتيح العنوان، معجميا، بروز دلالة الوثاق، أو الصداقة والإلف؛ وعليه يفترض أن الكتابة اشتغال من الداخل، أو عن كثب، بأخبار الحمقى. وبعبارة أخرى المحكيات تعالق تمتد روابطه إلى حياة الحمقى في ظرف مخصوص. لكن ذلك الرباط لا يخلو من التباس وإثارة. من هنا يتساءل القارئ: هل الرباط (الذي يتيحه معنى العروة…) مظهر للقراءة أو مظهر للمقروء بالشكل الذي يجعل المشترك الحميمي أساس حياة الحمقى؟. وفضلا عن ذلك يتساءل القارئ، منذ البدء، عن «جنس» الكتابة وعما إذا كان المؤلف محسوبا على كتب التراجم والسير ؟.
الكتابة هنا حكي تشييدي بالألوان، ومسارها تكونه شخصيات (الشلحة ببيش، وبوعبيد، وفاطنة لهبيلة، وادريس لوفو، وافريخ، والزاهية…) لها من الحضور والمقومات ما يجعلها تجسد عالما أو واقعا مختلفا، أي واقعا خارقا للمألوف؛ ولا شك في أن هندسة المؤلف من خلال عنونة الفصول تذكرنا، إلى حد ما، بهندسة كتاب «أخبار الحمقى والمغفلين» لابن الجوزي» الذي صنف من خلال أبواب (نحو: …في ذكر أخبار جماعة من العقلاء صدرت عنهم أفعال الحمقى..، في ذكر المغفلين من القراء والمصحفين، في ذكر المغفلين من رواة الحديث والمصحفين، في ذكر المغفلين من الأمراء والولاة…الخ).
أفعال الشخوص وأقوالهم تتقاطع، بهذه الدرجة أو تلك، في مقوم «الخارق» دون أن يحسم السرد في التمييز بين عتبة الحالة الطبية وعتبة الحالة المتمردة، لكن مع ميل واضح إلى رؤية الخروج عن المألوف، وإلى إبعاد الملامح البيولوجية للخلل العقلي أو النفسي. ومعنى ذلك أن موضوع الحمق كما تعكسه الوقائع والأحداث والتعليقات في «العروة» صورة للاختلاف ولحياة المهمشين والمقموعين.
ومهما يكن، فالشخصيات في مرآة الحكي:
ـ تنتمي إلى الواقع: أي ذات حضور تاريخي، وقد لا تخلو من رمزية ثقافية في الذاكرة العامة للأمة أو لفئة اجتماعية مخصوصة في مكان مخصوص.
ـ تتعالى على الواقع: وذلك بالجنوح إلى ممارسة الخرق، وتكسير منطق الاجتماع والعادة. من هنا صفة الحمق بوصفه خللا «منهجيا»، أو خللا في القصد كما قال القدماء. قال ابن الجوزي: «معنى الحمق التغفيل: هو الغلط في الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، بخلاف الجنون، فإنه عبارة عن الخلل في الوسيلة والمقصود جميعا، فالأحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه الطريق فاسد» (أخبار الحمقى والمغفلين، ص13،ط.3. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، 1995). وبذلك يكون الحمق مقابلا للعقل، وهو ما تؤكده الرؤية التراثية وموجهها الأخلاقي: صاحب العاقل، واجتنب الأحمق (يقول ابن الجوزي: «إذا بلغك أن الأحمق استفاد عقلا فلا تصدق» ص14). هل استطاع كاتبنا قلب تلك الرؤية في اتجاه اتباع مبدأ: صاحب الأحمق، واجتنب العاقل؟.
الكاتب يعي ما يفعل، فيرى النظام في اللانظام، وتلك هي مغامرة القراءة عندما تشيد الانسجام بغرض الفهم والإفهام؛ نقرأ في الكتاب: «أن أتحدث عن الحمق، أن أكتب عنه، هو بصيغة أخرى تعقيل له» (العروة الوثقى، ط1. مطبعة بلال، 2022. ص14). وعليه، كان من الضروري تأرجح الكتابة بين ثنائية العقل واللاعقل. وربما يميل التصور إلى الانشغال الأولي بمركب يترجمه السؤال الإشكالي الآتي: أليس في الحمق عقل، وفي العقل حمق؟.
مهما يكن الاشتغال وفق منظور يكرس الانتماء إلى الواقع والتعالي عليه في الآن نفسه، فإنه يقود، على نحو ضروري، إلى ثنائية الطبيعة والثقافة المؤسسة لتاريخ البشر؛ وها هنا البيان.
لا شك في أن حياة الشخوص أقرب إلى حالة الطبيعة، حيث تنتفي صرامة النظام الأخلاقي (ألم يقل البعض إن الإنسان حيوان دجنه المجتمع؟)، وأبعد عن حالة الثقافة حيث سلطة النظام الاجتماعي؛ يقول دوركايم: « الثقافة من شأنها أن تنمي الجانب الغيري من طبيعتنا أكثر مما تنمي الجانب الأناني» ( إميل دوركايم: التربية الأخلاقية، ترجمة السيد محمد بدوي، ط. المركز القومي للترجمة، ص218).كما أن «عالم الأخلاق هو عالم الواجب، وما الواجب إلا القيام بعمل يفرض عليك»: نفسه، ص24).سلوك الأحمق ارتماء في الفردانية بماهي تكريس لعادة نابعة من الداخل مقابل قاعدة/ سلطة موجهة من الخارج، فالعادة داخلية، فيما القاعدة موجه خارجي ثابت ( دوركايم، ص29).
تجليات حركة العادة في حياة الحمق التي يخرجها الكاتب بما يستحضر الذاتية والتكرير اللغوي في الكلام (العروة، ص24..) وموضوعات الإدهاش والسر (ص25) والأنوثة الغامضة (ص23) والانتظار القاتل أو تثبيت الرؤية (ص29) وغرابة الاحتفال (ص104)الخ.
ولأمر ما تنفتح الكتابة بما يغلقها؛ فلا تشيد سيرة للأحمق بل للحمق، أو لصور محددة منه، أي أنها لا تنشغل بالكائن بقدر ما تجعل كينونة الأحمق موضع نظر من خلال مواقف وشذرات تعبر عن لحظة مثيرة مؤطرة فضائيا (نحو فضاء تيفلت والخميسات…) وزمانيا. وإذ تشتغل الكتابة بالحمق لا تستغني، وهل بمقدورها ذلك، عن منطق العقل؛ لحظة الفهم عقل للظاهرة في ما تستحضر المتاح الفكري والعلمي.
ولأمر ما، أيضا، تجسد الكتابة سفرا له نهاية بنحو ما تتجلى نهاية الشخوص بالألوان عبر حتمية الموت أو التلاشي والفناء مع دلالة خاصة في نهاية «افريخ»؛ فالإقبال على الموت عبر «الخط الكهربائي» (ص106) يجسد صورة مثلى للموت، إنه الموت الحر وليس الموت الجبان بتعبير نيتشه، وذلك على النحو الذي يوحي بتدمير «الثقافي/ التقني/الصناعي «للطبيعي/الإنساني/الحيواني. لكن ذلك لا ينفي صورة تقليدية، صورة الموت الغادر المتسلط الذي يخبط خبط عشواء، حيث يغدو الأحمق كالحيوان «يشعر بالموت، ويهرب منه، ولايفكر فيه».


الكاتب : د. عبدالله المعقول

  

بتاريخ : 25/11/2022