محكي الطفولة: الهوية وملء الثغرات في كتاب «طعم المربيات»

 

 

محكيات طفولة يهودية في المغرب لبوب أوري أبيطبول

 

طعم المربيات نص سردي يجنس نفسه على أنه محكيات طفولة، يستعيد من خلالها الراوي تفاصيل حياته بمدينة الدارالبيضاء في مرحلتي الطفولة والمراهقة من أجل إعادة تشكيل هويته، وصياغة مختلف عناصرها عبر عملية سرد تتخذ من ضمير المتكلم وسيلة لعرض الأحداث وتذكرها. ومعلوم أن محكي الطفولة هو أحد الأجناس الأوتوبيوغرافية التي تتميز بالالتباس نظرا للصعوبات التي تعترض عملية استحضار أحداث فردية وجماعية مرت عليها أزمان بعيدة، بالإضافة إلى غموض عوالم الطفولة وعملية الانتقاء التي تمارسها الذاكرة أثناء استرجاع بعض التفاصيل، لذلك يبقى على المؤلف أن يجتهد لبناء ماض جديد وإعادة إنتاج له عبر عملية التخييل وملء البياضات والثغرات التي يحدثها النسيان بفعل الزمن. للإشارة فإن محكي الطفولة يحضر بقوة في المدونة السردية المغربية باعتبارها مكونا سرديا من شأنه أن يلقي الضوء على الكثير من الظواهر السوسيوثقافية والمساهمة في الكشف عن دلالاتها المختلفة داخل جماعة بشرية معينة. ويمكن استعراض عناوين بعض النصوص المؤسسة في هذا المجال:»في الطفولة» لعبد المجيد بنجلون، و»الذاكرة الموشومة» لعبد الكبير الخطيبي و»الماضي البسيط» لإدريس الشرايبي و»رجوع إلى الطفولة» لليلى أبوزيد، «الخبز الحافي» لمحمد شكري، «محاولة عيش» لمحمد زفزاف، «صندوق العجب» لأحمد الصفريوي.. حتى لا أذكر الأصول العربية لهذا الجنس عند طه حسين في «الأيام» وعند جبرا ابراهيم جبرا في «البئر الأولى» وعند حنا مينة في «المستنقع وبقايا صور»…

من الأكيد أن الطفولة هي لبنة أساس في التطور النفسي والجسدي عند الإنسان وهذا ما أوضحته الدراسات السيكولوجية وخاصة منها نظرية التحليل النفسي التي ركزت على الدور الحاسم الذي تلعبه مرحلة الطفولة في تحديد الملامح الكبرى للشخصية الإنسانية، فمنذ لحظة الولادة حتى حدود السنة السابعة يكون الطفل قد مر بالعديد من المراحل النفسية الارتقائية التي تؤدي إلى نموه النفسي والجسدي، كما يكون قد مر من معظم العقد النفسية التي تساهم في بناء شخصيته. بل إن البحث في تضاريس الطفولة يعد أحد المفاتيح الأساس للكشف عن الاضطرابات التي يعاني منها الفرد. كذلك فالتحليل النفسي للأحلام يركز على الصور التي يحتفظ بها الشخص المريض أثناء علاجه تساعد المحلل النفسي على التعرف على اللحظات الحاسمة في بناء نفسيته، والأسباب الكامنة وراء جروحه ومتاعبه النفسية. أشير إلى الإضافات المهمة التي دعم بها جاك لاكان نظرية التحليل النفسي من خلال جهاز مفاهيمي جديد خاصة في ما يتعلق بمسألة الأنا والذات. ومن بين أهم تلك المفاهيم مفهوم «مرحلة المرآة « التي اعتبرها من مراحل النمو النفسي التي يمر بها الطفل بين الشهر السادس والثامن عشر، وتلعب دورا حاسما في تكوين «الأنا» عنده. فبمجرد ما يشاهد الطفل صورته في المرآة حتى يشعر بالانفصال عن عالم الأشياء الذي كان يتصور أنه جزء منه، ويبدأ في إدراك جسده كوحدة متكاملة ومنفصلة الشيء الذي يؤدي به إلى التعامل مع الآخرين المحيطين به عبر آلية التماهي التي تنتهي به إلى تمييز ذاته عنهم. وقد بين «لاكان» أن هذه العلاقة الصراعية التي تنشأ عن هذه الوضعية، تكون هي المسبب الرئيسي لتشكل الأنا عند الطفل.
يتضمن نص «طعم المربيات» استعراضا للحظات من طفولة ومراهقة الكاتب المغربي بول أوري أبيطبول في أحياء مدينة الدار البيضاء في فترة الحماية الفرنسية على المغرب والسنوات التي تلت الاستقلال. وفي نفس الوقت تلقي الضوء على أجزاء من سيرة عائلة يهودية ذات جذور مغربية، حيث تعايش اليهود مع المسلمين في فضاءات اجتماعية واحدة، قبل أن تأتي لحظة الرحيل عن هذه الجذور إلى بلاد العرب، بحثا عن هوية كانت آنذاك قيد الصنع داخل صراع عالمي اتخذ من القضية الفلسطينية مطية لتمرير قرارات ذات طباع لا إنساني تهدف إلى حرمان شعب من مقومات الحياة الكريمة. تجري معظم الأحداث المروية في النص في زنقة لوسيتانيا (ابن رشد حاليا) والأحياء المجاورة لها حي فردان ولاكوت. ويحكي الراوي هذه القصص بضمير المتكلم المشارك في صنع الأحدث وتدبيرها، محاولا استجماع الكثير من الوقائع وإعادة بنائها لتعطي صورة عن تلك الفترة من التاريخ، حيث كان أفراد هذا المكون اليهودي في شتى أنحاء الوطن يعيشون حيواتهم الاعتيادية ويمارسون أنشطتهم ومهنهم في تفاعل تام مع كل مكونات المجتمع الأخرى رغم اختلاف ثقافتهم وتقاليدهم المستمدة من العقيدة اليهودية، بعيدا عن كل تعصب أو تحيز لعقيدة معينة، بل أكثر من ذلك ذكر الكاتب أن شباب تلك المرحلة كانوا يتعاملون بتحفظ كبير مع العادات والتقاليد اليهودية ومع اللغة العبرية التقليدية يقول الراوي»ومهما يكن، فلاعلاقة كانت تربط، في ذهن جيلنا وحسب ماكان يبدو لي شخصيا، بين عبرية الصلوات وعبرية حياتنا اليومية، وكانت قارة كل واحد منها منفصلة عن قارة الثانية» (ص43). مضيفا «كثيرا ما لم نكن نفهم شيئا مما يتم تلاوته أثناء الصلوات، لنقتصر، متعتعين، على ترديد إيقاعات تجلب لنا الرضا في البيعة، موهمين بذلك الآخرين بأننا متدينون، ومن ثمة من أخيار الناس»(43). تنطلق عملية تذكر الوقائع من الحي الذي عاش فيه الكاتب والذي وصفه بأنه حي أسطوري يشمل زنقة لوسيتانيا، زنقة لاسيبيد، ساحة فردان، شارع انفا، شارع غودو، زنقة جون جاك روسو وزنقة فولتير، أسماء تصدح بتمجيد فرنسا. وقريبا جدا تقع زنقة الانجليز، زنقة النقيب ألبير ليفي وزنقة فيرلي هانو ببيعتها الجزائرية الطراز الجميلة. في هذا المربع الذهبي ذي الساكنة من البورجوازية المغربية الجديدة، يلتقي المتسولون من كل الأصناف. في هذا الحي ولد الكاتب في أسرة صغيرة حيث الأب يعمل في ورشة لتجليد الكتب والوثائق الإدراية، وكانت زوجته تساعده في العمل. ويبدو من خلال المحكيات أن الكثير من سكان الحي كانوا يعيشون حياة بورجوازية تظهر من خلال ما يقوله الكاتب حول تفاصيل حياة الشباب بالخصوص.
يتذكر الراوي الفضاءات الترفيهية التي كانت قائمة في تلك الفترة بمدينة الدار البيضاء، حيث جرت العادة أن يلتقي الشباب كل يوم أحد في أحد الشواطئ أو المسابح الكثيرة التي خاصة في حي أنفا الراقي: نادي شاطئ تاهيتي، صن بيتش، ميامي، كون تيكي ولوليدو..أسماء سحرية تمجد جزرا ومدنا نائية وأسطورية.:لاكوت»، وكذلك منطقة الكورنيش الزاخرة بالمقاهي والمطاعم المتخصصة في أكلات السمك الطري وفواكه البحر. دون نسيان العلب الليلية المطابقة للموضة والفنادق الفاخرة والشواطئ العمومية والخاصة المجاورة لبعضها البعض، تستقطب زبائن مختلفي الانتماء الاجتماعي.(52). وفي الليل يحتل عشاق الدجى الساحل، ليتمايلوا راقصين في علبة تانغاج الليلية أو ليرقصوا رقصة «كاليبسو» في ملهى كاليبسو. وفي ذات الوقت، يتجرع المتأنقون من الشبان، والمرارة تشوبهم، كأس سكتش صغير ممزوج بكوكاكولا في حانات المراقص التي يقصدها المولعون بالموضة إلى طلوع الفجر، يبيتون يرقصون ويشربون، إلى حلول موعد الإسفنج والشاي المنعنع اللذين قد يذهبون لتناولهما، إذا تطلب الأمر ذلك، إلى الرباط حتى، المدينة البعيدة بحوالي مائة كيلوميتر عن الدار البيضاء.(61). أما يوما السبت والأحد فقد كانا مقدسين لدى جميع الاطفال الذين كناهم. وكيف لا وهما يوما الشاطىء والمسبح؟69)
من الوقائع التي وقف عندها الكاتب وهو يتذكر تاريخ أسرته وطائفته، واقعة الهجرة التي حدثت بعد الاستقلال حيث اضطرت الكثير من العائلات اليهودية لمغادرة الوطن في اتجاهات متعددة ، فهناك من ذهب إلى فرنسا وهناك من غادر إلى كندا والبعض هاجر مباشرة إلى إسرائيل، ويبقى سؤال الهجرة مؤرقا للكاتب الذي تساءل مرار عن السبب في هذه الحركة غير المبررة لمواطنين يتم اجتثاتهم من أرضهم التي ولدوا فيها ليغادروها قسرا إلى بلاد أخرى يقول «لكنه وجب علينا، كما أسلفت، الرحيل، وإلى حدود اليوم، ما زلت أتساءل عن أسباب هذه الهجرة الجماعية. وهكذا من هروب إلى هروب، ومن صحراء إلى واحة، سعينا إلى العثور على فردوسنا. وكان آباؤنا، ومشاعر حبهم إيانا وحب إسرائيل العمق والأكثر إثارة تتنازعهم، يبعثوننا مثل طرود إلى الأرض المقدسة أو إلى يشيفا(مدرسة دينية يهودية) بعيدة في غابة فوبلين أو مكان آخر من الريف الفرنسي. وبالموازاة، كان آخرون، أيسر حالا، يرسلون أطفالهم المدللين إلى مونبولييه أو باريس ليصبحوا أطباء صيدلانيين أو أطباء أسنان..»(131). ويؤكد الكثير من المؤرخين المغاربة والأجانب حول هذه القضية أن حركة التهجير هذه كانت وراءها منظمات صهيونية بقيادة رجال الموساد الإسرائيلي، الذين استطاعوا بكل الوسائل المادية والإدارية وبتعاون مع السلطات الفرنسية تهريب الكثير من اليهود من المغرب وأقطار عربية أخرى خاصة في شمال إفريقيا في اتجاه إسرائيل سواء مباشرة أو عبر دول أوربية. واضطر العديد منهم للخضوع، إما تحت تأثير دعاية إغرائية نحو أرض الميعاد، أو تخويف هؤلاء العائلات بأنهم سيتعرضون للتصفية بعد حصول هذه الدول على الاستقلال، مستغلين في ذلك هشاشة بعض الفئات الاجتماعية، خاصة الحرفيين وكبار السن.
خلاصة هذا الورقة هو أن محكيات أبيطبول تسعى إلى تأكيد هوية الكاتب المغربية من خلال استعادة مجموعة من الوقائع التي عاشها في طفولته ومراهقته قبل الاستقلال وبعده، والمساهمة في بناء ذاكرة جماعية تنتمي إلى المكون اليهودي المغربي الذي وجد نفسه مشتتا في أنحاء العالم بعد الهجرة التي عرفها اليهود في العالم العربي، وهو نص ينضاف إلى المنجز الإبداعي المغربي الذي صنفه الكاتب والإعلامي المغربي محمد أمسكان في مختتم الكتاب على أنه جزء من المدونة الأدبية لليهود المغاربة.

«طعم المربيات: طفولة يهودية في المغرب»، بول أوري أبيطبول، ترجمة: سعيد عاهد، دار نشر الفاصلة.


الكاتب : محمد مستقيم

  

بتاريخ : 06/05/2022