محكي شعرية التيه : في ديوان «قطاف التيه» للشاعرة سلمى الزياني

فؤاد بنبشينة.

“إن كل نوع أدبي يفتح أفق انتظار خاص به”

من هذا المنظور، فإن القصائد الشعرية التي تُشيّد ديوان «قِطاف التّيه» تفتحُ أفق انتظار القارئ لاستيضاح العلامة “التيه” في علاقة باشتغال الذاكرة الشعرية النسائية وامتداداتها الثقافية، استيضاح تشاكلات التيه بالقطف والجني والجمع والقول والتمثيل والتخييل والترميز. يبدو أن أفق الانتظار هو صناعة واقع يتشاكل وخطاب المدينة، فالشعر المعاصِر هو ابن المدينة بامتياز، أنتجته طفولة انفتحت على خارج، إنه انفتاح على عوالم التيه الذي صنعته المدينة الأوروبية في دول العالم العربي الذي عاش الاستعمار وحالات الحصار فكانت المقاومة، وعليه هذه الطفولة تحضر وفق تقابلات المدينة المغربية والمدينة الأوروبية، هذه المدينة هي حقل التفاعل الثقافي والسياسي والاقتصادي. فلننظر بعين المتلقي للمحكي الشعري وكأنه محكي سياسي ولا علاقة له برومانسية طبيعة الخلاء والصحراء والتمثلات الذهنية التي تقارب ربّات الشعر في أثينا وتستحضر شياطين الشعر العربي قديما، إن الشيطان هنا هو المدينة الحديثة في تناقضاتها ووحشيتها، فضاء التمزقات وأشكال حياة اجتماعية تعيش حالات الصراع والجوع والموت وتفاهة المهرجانات باسم الشعر المُعاصِر والجوائز في فنادق غير مصنفة، والمدينة الحديثة تنظر وتنتظر حلولا منذ أن تكلّمت الشاعرة نازك الملائكة، باعتبارها امرأة بلورت مفهوم القصيدة الشعرية الحرّة ونسجتها داخل المدينة “الميّتة”، وكأن الشاعرة تقول ها أنا المرأة الحرّة تصنع الدهشة الإنسانية في علاقة بمجتمع المدينة. “فالنص الشعري لا يُحيل عن واقع خارج عنه يثبت صدقه أو كذبه على ضوئه، وإنما له واقعه الداخلي، فصدقه مستمد من ذاته وليس من خارجه، فاللغة تولد اللغة، واللغة تُحيل على اللغة”
ونمثل لبعض هذه التشاكلات الدلالية للمقولة «التيه»، تقول الشاعرة:
قصيدة “عمى التيه”:”وفي الوطن جسر مهترئ/ من يجتزه يحظى بالتيه” (ص، 9)
قصيدة “ما تبقى لديك”:«لكن على أي طريق ستخطو؟/… حتى يستقيم الجسر/… ماذا بعد التيه؟” (ص، 11-12)
قصيدة “لغة الظل”:”على الظل أن يلتحم بشكله/ أن يعيد صياغة الكلام» (ص، 21)
قصيدة “قصيدة غريق”:«هدفي ليس سوى معنى” (ص، 22)
قصيدة “إغفاءة”:”هذا الخوف الذي أنتجه العالم/ طوق للعثرات/ لنتفادى التيه” (ص، 31)
يتشاكل التيه ودلالة ثنائية (الأعلى والأسفل) وهذه الثنائية نمثل لها بالخطاطة الآتية:
أعلى تدرج في البوح العقلي، ذاكرة عقلية/ ظلال عقلية/ عبور جنوب/ شمال.
أسفل تدرج نحو العمق/ الأعماق/ أعماق الذاكرة/ غوص وصمت وخوف من البوح والكشف عن معنى الظل في علاقة الأنا والتيه واللا-أخلاقيات المدينة الحديثة.
تُحيلُ الخطاطة إلى العلاقة الهندسية بين التيه واختلاف الفضاءات، فالشاعر المعاصِر هو ابن مدينته. وهذه المدينة أضحت مدنا عديدة ومتغيرة جغرافيا بفعل حالات التنقل والسفر والهجرة التي تفرضها الحياة الاجتماعية-الاقتصادية الحديثة. وبين منطقة الأسفل والأعلى يكون البوح من الدرجة الصفر محكيا شعريا يبدو أنه بسيط، وكلما تدرج التيه في اتجاه الأعلى أو الأسفل، تتغير طبيعة هذا التيه وهو تغير في الشدة والتوتر والسمو والتماهي مع درجات الأسفل والأعلى، ونلاحظ أن البوح الذي يتدرج في اتجاه الأسفل هو عمق البوح، لأن العمق مظلم ويستدعي الخوف الفردي في علاقة بالآخر الذي يتقاسم الفضاء، يا للمفارقة، صراع منذ أن أسست له الشاعرة نازك الملائكة، ماذا تغيّر؟ ويستمر بوحا وصمتا وكتابة، لنمثل لهذا التقابل كالآتي:
المدينة الحديثة/ خارج الأسوار، يحيل على اثنانية فضاء المحكي الشعري: أسفل المدينة / عمق البوح، أحزان ذوات، اللا-سرور، احتراق، مقاومة بالصمت.
أعلى المدينة / سطحية المعنى، مظاهر تافهة، علاقات تواصلية باردة.
وبين الأعلى والأسفل يحضر خطاب المدينة سياسيا في بساطته.
هذا الأعلى/ الأسفل اتخذ مفهوم الشتات كشكل آخر من التيه، وكذلك الوجع وهو وجع الوطن فيتخذ التيه تشاكلا دلاليا مع العدو اللا-أخلاقي، حيث تُسنِدُ الذات الشاعرة للعلامة التيه صفات الإنسان العدو الذي يتربص في الممرات والطرقات، وعليه يكون هذا العدو عاملا في صناعة التيه، في قصيدة، “لا شمس في بريفسان” يؤشر المحكي الشعري على المدينة الأوروبية وينتج سيرورة لا متناهية من الدلالات؛ ثقافية، اقتصادية، حضارية، سياسية، ومن ثمّة فالمحكي الشعري يرتكز على مبدأ الحوارية.تناول الباحث محمد مفتاح مفهوم “الحوارية في النص الشعري”، وحدد الحوارية في تمفصلين: الحوار الخارجي والحوار الداخلي. إن الحوارية التي تشيد عليها سلمى الزياني مقصيدتها رامت تعزيز الحوارات الداخلية أكثر من الحوارات الخارجية، حيث هذه الحوارات الخارجية تحيل عليها فقط من خلال حوار مع أسماء أعلام شاعرات لهن وزن في الثقافة الشعرية العالمية وهذا حوار يفضي إلى حوارية معرفية، إذن الحوار الداخلي الذي استندت عليه الشاعرة في بناء محكي قصائدها الشعرية هي حوارية بين الذات والآخر ضمن فضاء المدينة.ونحن نتدرج في علامات التيه نقف على أن عنوان الديوان يتعالق وعنوان القصيدة الموسومة بعنوان “سليل التيه”:
“معرفتك ستموت جائعا بها
وأنت التائه ابن التيه
المحب للريح
مُقترف القصيدة
(…)
أنت التائه ابن التيه
مقيدة خطاك
ولا تغريك العودة” (ص. 83-84)
تتشعب دلالة التيه كأنه جزء من ذات الشاعرة ومحيطها، إرث رمزي لها، سليل التيه، ابن التيه، منحدر من التيه، ينتمي إلى التيه، هذا المعنى للتيه هو شكل استمرارية للذات الشاعرة، لكنه بحث عن أماكن اللا-تيه من غير عودة إلى نقطة المنطلق، بمعنى اللا-تيه في أماكن اللا-وطن، في اللا-مدينة. وعليه، إنه فضاء دامج للذات، أيضا هو فضاء مدمج في فضاء فرنسا، هذه «فرنسا» تتقابل وفضاء المغرب، والفضاءان معا هما مدمجان في فضاء دامج وأوسع هو “الفضاء الكوني”.

شعرية الصمت: تمجيد محكي التيه.

تناول الفيلسوف السويسري ماكس بيكارد (Max Picard) مفهوم الصمت باعتبار أن: «الصمت هو ظاهرة مستقلة. ولهذا فإنه لا يتطابق مع تعطيل اللغة”.
استثمرت الشاعرة مقولة الصمت باعتباره لغة، كيف ذلك؟ لأن الصمت هو التمفصل بين الناطق/ الصامت، الظاهر/ الخفي، فالتناظر الإثناني بين التلفظ الظاهر الحسي والتلفظ الخفي الصامت يحيل على اللعب اللغوي الشعري ومن ثمّة يتخذ شكل فسحة لاشتغال تأويلية التيه من خلال التأمل وإعادة ترتيب مسارات ذاكرة المحكي الشعري حيث إن”الذكريات هي الملاذ الوحيد الذي يحتمي به الناس عادة من أجل تأمّل ما مضى واستشراف ما هو آتٍ”. وأسهمت وظيفة الصمت في إنتاجية سلسلة من التأويلات اللا-متناهية وهي تأويلات ترتبط وسياق المحكي الشعري المنفتح على فن التأويل كما أن الشعر فن، إذن، الصمت مؤول دينامي يشتغل حين تتعب اللغة الطبيعية وسط القصيدة لتستريح وتفسح له حق الكلام، إنه الرمز الطاهر الذي يُقابَل في الأسطورة بالرضى، وكأن الصمت يصل إلى أسمى درجات اللا-استسلام لتشتغل المقاومة من جديد. وتحدده الباحثة فاتحة الطايب، تقول:”الصمت طاقة إيحائية ترميزية، ووسيلة من وسائل دينامية النص يوسع من القدرات اللامتناهية للكلمات ويفجر إمكانية التخييل والتأويل في آن واحد”.
هذا الصمت يركن في أسئلة الوجود وقلق الكتابة الشعرية، تقول في قصيدة «حفاة» (ص،77):
«تيه هو هذا الوقت/ لا خيال فيه ولا واقع/ تعثرنا.. نهضنا/ سمعنا همس الحجر للماء/ صمتنا .. كتبنا»
على سبيل أن نختم؛ إن الكتابة الشعرية عند الشاعرة سلمى الزياني هي ميتا-صمت، ميتا-رمز، إنها لعبة لغوية شعرية تُحيل على التمزقات داخل المدينة الحديثة، مدينة لا-أخلاقية تشكو المدينة سياسيا وثقافيا، فالصمت دموع المدينة، حزن المدينة، الصمت لهاث في عوالم الموت، فهذا المحكي الشعري “قطاف التيه” صرخة المرأة الشاعرة المغربية، صمت الأمهات/ الأمّ الحرّة وسط لا-أخلاقيات خارج الأسوار، حين تفتقد المدينة أخلاق الحياة الجيّدة، تحضر صرخاتهن الصامتة، لنقف، إذن، مع اللحظة البدئية واللحظة الختامية للمحكي الشعري:
«تصغر الغيمة وتكبر
دون جهات تحدُّها
زمن الماء يذبح بنكهة الحياة» (ص. 2)
«…كنتُ هناك
لا إنسان مبادئ وقيّم
… أن أسئلة الصمت تكبر في الكمون
أن الأجوبة تصبح ضجيجا
أن العدم بلا ريح جحيم
أن الصعود إلى الأبد هو الصواب
أن الريح جسري إلى نافذة اليقين
أن قلمي خربش هذا الكلام» (ص. 88)
إننا أمام: «شعرية تيه المجتمع»، تيه بمعنى لا-إنسانية ولا-عدالة اجتماعية، والشاعرة نازك الملائكة تناولت هذه التصويرية وشيّدت إبدالا شعريا يفضي إلى شكل الالتزام الشعري، تقول في قصيدتها: «النائمة في الشارع»:
وتظلّ الطفلة راعشة حتى الفجر
(…)
والرحمة تبقى لفظا يقرأ في القاموس
ونيام في الشارع يبقون بلا مأوى
هذا الظلم المتوحش باسم المدنيّه
باسم الإحساس، فوا خجلا لإنسانيه».
تعمدنا هذا الاقتباس فقط لأن الشعر الحر ارتبط في تبلوره الأول مع المرأة الشاعرة نازك الملائكة، وتيمة الموت والصراع وكيف أنها صوّرت معاناة جرحى حياة المدينة العربية، إنها تؤشر على الأقنعة التي تُخفي وحوشا لا تعرف للعدالة سبيلا، إنها تصويرية المدينة، حيث في الشعر الحر تحضر المدينة بشكل مكثف، عكس الشعر القديم الذي ارتبط بالبادية وبيئة المجتمع العربي قديما، فشاعرات المدينة قاربن موضوعات اجتماعية، سياسية، اقتصادية، ثقافية ترتبط بالذوات التي تتفاعل والمدينة، وإن بالصمت كصرخات شعرية مُضمرة وكأن الأسوار تحضر في المدينة الحديثة وتحاصرها بشكل رمزي وتسهم هذه الأسوار الرمزية الخفيّة في تمزيق البنيات الاجتماعية. تقول نازك الملائكة في كتابها، «قضايا الشعر المعاصر”: “والواقع أن قيام القصيدة على موضوع اجتماعي شيء لا غبار عليه إطلاقا”. ومن ثمّة وجب النظر في القصيدة النسائية المغربية، والإنصات إليها وهي تحاورنا بالصمت بعيدا عن النقد السطحي الجندري، إنه المحكي الشعري النسائي باعتباره نشيدا وطنيا يتطلّع إلى تشييد قيّم إنسانية كونية.
*”قطاف التيه” للشاعرة المغربية سلمى الزياني. الصادر عن مؤسسة مقاربات، فاس، 2023 .
1- عبد الفتاح كيليطو. الأدب والغرابة: دراسة بنيوية في الأدب العربي، دار توبقال للنشر، الداراللبيضاء، ط.2، ص.25.
2- محمد مفتاح. تحليل الخطاب الشعري: استراتجيةالتناص، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، ط.3، 1992، ص.11
3- ماكس بيكارد. عالم الصمت، ترجمة، قحطان جاسم، دار التنوير، بغداد، ط.1، 2018، ص.23
4- سعيد بنكراد. الهوية السردية: المحكي بين التخييل والتاريخ،ص. 266
5- فاتحة الطايب. بلاغة الصمت، متاهات القول في سرود عربية معاصرة، مركز الأبحاث السيميائية والدراسات الثقافية-المغرب، ط. 1، 2024، ص، 86