محمد إبراهيم بوعلو كاتب الظل

 

بعيدا عن الأضواء الإعلامية التي صارت تجذب كتّاب اليوم في مَساق العولمة وحُميّا التواصل جذْبَ الضوء للفراشات الولْهى الباحثة عن لمْعة ودفء الضياء ، كان محمد ابراهيم بوعلو يتوارى في المقاعد الخلفية والخلوات الهادئة الراقية مُنتبذا مكانا قصيّا، يراقب المشهد وهو مُنخرط فيه وغائص في لجّته ، مثله مثل حنظلة الرسام الكاريكاتوري الفلسطيني ناجي العلي الذي يُولي ظهره للمشهد عاقدا يديه خلفه، وهو يراقب ويفضح أسرار وأوزار المشهد .
والمُفارقة، أن بوعلو طلع مشتعلا من زمن الستينيات الصعب المتأهّب والمفصلي بين مغرب يخرج من نير وإسار الاستعمار، ليقع بالتدريج في نير وإسار قنّاصي ونهّازي مغانم ومقاليد الاستقلال، بما فتح الباب واسعا أمام مناورات الاستقلال التي حولته بين عشية وضحاها إلى ساحة (استغلال)، وبما فتح الباب تبعا، أمام مخاضات وصراعات سياسية حامية الوطيس امتدت لعقود، وكانت شغلا شاغلا للمغرب الجديد الذي كان بوعلو أحد شهوده وجنوده الأوائل . حيث اصطفّ منذ يفاعته في الصفوف الثقافية الأولى لأول يسار مغربي، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، جنب رفاقه الرواد: محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي وعبد الله العروي ومحمد الحبابي ومحمد الحبيب الفرقاني ومحمد الوديع الأسفي وعبد الرحمان بنعمر وعبد اللطيف جبرو ومحمد زنيبر ومحمد برادة ولا أحصي الرموز ..
وكانت القصة القصيرة هواه ومبتغاه ، أخلص لها الود والوفاء فلم يجنح لسواها مع إطلالات مسرحية موازية لمشروعه القصصي .
وقد كان أحد القاصّين الرواد الأوائل الذين ساهموا في تجنيس القصة القصيرة المغربية واستوائها على نهج الحداثة . وكانت لي وقفة تحليلية لتجربته القصصية الواقعية الرائدة في رسالتي الجامعية المطولة ( مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية / من التأسيس إلى التجنيس ) .
وفي أيامنا الخوالي التي قاربتُ فيها تجربته كان النقد حرّيف المذاق لا يُحابي ولا يداهن . كان النقد « نقدا « يستحضر النصوص وينحّي الشخوص . لذلك وضعته كنظرائه في المدونة القصصية التجنيسية المقاربة « في الميزان « .
وأسوق هنا الفقرة التالية من قراءتي كمثال :
(يُعتبر محمد ابراهيم بوعلو من أكثر القصاصين المغاربة اهتماما وانشغالا بهموم الطبقة الكادحة ، وأكثرهم «واقعية» إذا استخدمنا هذا المصطلح بمفهومه الدّاني المباشر .
ويُعتبر عالمه من أكثر العوالم القصصية اكتظاظا بالشخصيات والرموز القصصية الكادحة والمهمّشة .
إن العامل الذات في مجموعة (السقف) وهي المجموعة التي ضمّت أهم نصوصه في هذه المرحلة ، ليس إلا الطبقة الكادحة بوجوهها المكدودة العفراء، وبهمومه وصراعاتها ومكابداتها اليومية المريرة. فكأنه «الناطق الرسمي» بلسان هذه الطبقة والقاص «العضوي» الذي آلى على نفسه، كما يقول أحمد السطاتي في تقديمه للمجموعة، أن (يغمس قلمه في واقع حيّ نعيشه ولكننا لا نلتفت إليه . واقع نتعرّف عليه ولكننا لا نعرفه ) *
ولعل هذه هي نقطة قوة ونقطة ضعف بوعلو في آن واحد. هي نقطة قوة للاعتبار السابق، أي لـ»الموقف الإيديولوجي» الذي يصدر عنه ، لتفاعله مع الطبقة الكادحة، قطب الرحى الاجتماعية، وتحيّزه المطلق لها. وهي نقطة ضعف نظرا لخفّة وكسل «الموقف الفني « عنده، وتغليبه المرجع الإيديولوجي على النص – الكتابة .
فالقصة القصيرة لديه، وكما أشار إلى ذلك السطاتي في التقديم، ( تغلب عليها مسحة البساطة سواء في العرض أو الحوار أو نوعية الشخصيات ، أو الطريقة التي يتخلص بها القصاص ) *
وهذه البساطة تصير بالنص أحيانا، إلى ما يشبه الصورة القصصية. ) 1
ويبدو أن هذه الواقعية العارية كانت منهجا قصصيا مختارا لدى بوعلو . كانت من صميم أسلوبه القصصي .
وعلى نهج القصة القصيرة الذي لم يحِدْ عنه، كان بوعلو سبّاقا إلى تقطير هذا الجنس الأدبي وتكثيف حجمه وبنيته في كبسولة ( قصة في دقيقة) التي كتبها في فترة مبكرة ( 50 قصة في دقيقة)، قبل أن تطل ظاهرة (القصة القصيرة جدا) على المشهد السردي ليعقد لها الكتاب الطلائعيون تظاهرة أدبية واسعة دون أن ينبسوا في بياناتهم النظرية باسم محمد ابراهيم بوعلو .
وهنا أحيي الصديق الكاتب صدوق نور الدين على مقالته المنصفة (محمد ابراهيم بوعلو / احتفى بالجميع ولم يحتف به أحد)، المنشورة في (العلم الثقافي) ليوم الخميس 29 فبراير 2014 .
والأصلاء المتواضعون دائما ، يمرّ بهم الناس مُرور كرام .
ملْأى السنابل ينحنين تواضعا / والفارغات رؤوسهن شوامخ
ولا يُذكر اسم محمد ابراهيم بوعلو إلا مقرونا بالمجلة الثقافية المغربية الرائدة (أقلام) التي كانت حاضنة لأشواق الحداثة المغربية وأبلى فيها أجزل بلاء ، صُحبة رفيقه أحمد السطاتي.
هذا إلى أن بوعلو كان من الرواد الأوائل أيضا لأدب الطفل من خلال تأسيسه لمجلة (أزهار/ مجلة الصغار) التي كان يساهم فيها بسُروده وأقاصيصه الموجهة للأطفال .
كل هذا المسار الطويل والجميل لمحمد ابراهيم بوعلو الذي ألمحتُ إلماحا إلى بعض عناوينه، ذرَعه وقطعه بلا جلبة ولا زفّة ولامبالاة بالظهور.
ذرَعه وقطعه بعيدا تماما عن الأضواء .
وأذكر أني حين التحاقي بالتدريس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في طلائع الثمانينيات من القرن الفارط، كان بوعلو أستاذا في شعبة الفلسفة / علم النفس .
لكني أعترف أني لم ألتق به إلا لماما وخُلَسا في رحاب الكلية.
كان الرجل (ظلّيا)، وكنتُ قرينه في هذه (الظلّية) .
والطيور على أشكالها تقع .
أحييه بكل محبة، وهو في ظلال استراحته الأخيرة .

إحالة :

1 – نجيب العوفي: مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية – من التأسيس إلى التجنيس .ط 1
– المركز الثقافي العربي – بيروت ، لبنان / الدار البيضاء ، المغرب1987 –


الكاتب : نجيب العوفي

  

بتاريخ : 23/03/2024