محمد باهي حرمة: الإنسان، الصحافي والسياسي : الصحافي الذي استقبله بومدين واقترح عليه قيادة البوليساريو

احتفت فقرة «أحياء في الذاكرة»، وفي أول ندوة من ندوات المعرض الدولي للنشر والكتاب يوم الجمعة 8 فبراير 2020، بإحدى قامات الإعلام والصحافة المغربية، وإحدى أيقونات النضال السياسي المغربي الراحل محمد باهي حرمة، الذي راكم تجربة صحافية وسياسية ممتدة امتداد شخصيته التي خطت لنفسها مسارا متفردا، يعكس عمق شخصية الرجل وسعة تكوينه وسمو أخلاقه.
إن كان الشاعر والروائي حسن نجمي قد اعترف بكونه يجد نفسه قاصرا عن تقديم محمد باهي في بضع كلمات وفي وجيز من الوقت، فإنه شدد في نفس الآن على أن الرجل كان أحد «أكبر الصحافيين العرب بامتياز وصاحب كتابات فذة»، حيث عرف عربيا ومغاربيا بكتاباته الصحفية الفذة وبعمق وصلابة مراجعه الصحافية والإخبارية، هو الذي لم يشغله قط هوس السبق بقدر ما كان صحافي التحليل والرؤية التي لا يكتب إلا وقد اكتملت لديه. وفي هذا السياق أكد نجمي على أن باهي كان مطلعا على المجتمع السياسي والمدني المغاربي بشكل دقيق، بل كان مرجعا للكثير من الصحافيين الذين كانوا يطلبون استشارته حتى من دول الجوار المغاربي والعربي بل حتى الفرنسي، خاصة في ما يتعلق بالعلاقات المغاربية والمغربية – الجزائرية وهو الاطلاع الذي يعكس خبرة القارئ المتمكن والذي يملك في نفس الآن حسا سرديا رفيعا، ما جعله أحد المثقفين الذين يجسدون نموذج الإنسان العربي الصحراوي المثالي المغاربي، فكرا وممارسة.. فكر عزز وعي جيل من المغاربة بالقضايا العربية الأساسية وأولها القضية الفلسطينية الذتي شغلت حيزا كبيرا من اهتمامه بجانب الوحدة الوطنية، من خلال إنتاجاته الصحفية العميقة وتحليلاته التي تنم عن وعي وإدراك عميق بقضايا وطنه المغرب والمغاربي والعربي، هو الذي رغم انتسابه إلى شنقيط بالولادة والنشأة إلا أنه اختار المغرب أفقا وهوية وأصبح قائدا حزبيا من قادة اليسار المغربي، قائد شكل المغرب العمق الآخر في شخصيته وتكوينه وذاكرته وعلاقاته، واستوطنت قضاياه وعيه ومتخيله ووجدانه.
وختم نجمي حديثه عن «آخر الرجال» بتعبير الصحفي برادة بعد رحيل باهي بأنه أهم من جسد العلاقات المغربية – الموريتانية ، هو الذي بعد عودته من منفاه الباريسي اختار العودة الى المغرب لأن حرصه على الانتماء المغربي لم يكن حرص جنسية عابرة، بقدر ما كان انتماء لتربة وحلم وتاريخ، ظل أمل استعادته روائيا واردا في وجدانه ومخياله في انتظار أفق ووقت لكتابته لكن الرحيل المفاجئ باغت هذا الأمل فلم يتركسوى رواية غير مكتملة هي «ذاكرة الرمال».
المناضل عباس بودرقة، رفيق درب محمد باهي الذي اقتسم معه المنفى الجزائري والباريسي كما اقتسم معه واليومي والنضالي، اعتبر أن محمد باهي «واحد من كبار الصحفيين العرب» بل مدرسة إعلامية جديرة بالدراسة والمتابعة والاحتفاء،وفي هذا السياق يأتي احتفاؤه بهذه الصداقة الطويلة من خلال إصداره لعمل جمع فيه شتات الكتابات الصحفية لباهي وبالضبط رسالته الشهير ة الاسبوعية «رسالة باريس» التي واظب على نشرها بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» ما بين 1986 و1996، عمل تطلب إصدار 5 أجزاء يستشف قارئها «نصوصا مكتوبة بلغة سردية عذبة وأسلوب رصين هادف» هو الذي لم تطأ قدماه مدرسة ولا جامعة بل كون خبرته العلمية من عصامية قل نظيرها، أنتجت هذه الشخصية الغزيرة العلم والانتاج .
ومن نوستالجيا الرفاق، ساق بودرقة أمثلة عن التزام باهي السياسي حين رافق جيش التحرير في 1962 الى وجدة ثم مغنية فوهران والجزائر العاصمة، ولم يعد إلا في ‍1982 حيث قضى عشرين سنة في الجزائر، والتي عبر فيها عن رؤاه الوحدوية التي تنزع الى لم الصف المغاربي بدل نزوع التفرقة والتفتيت، إذ استقبله الرئيس الجزائري بومدين واقترح عليه قيادة البوليساريو فأجاب جوابا بليغا: «لا تجعلوا لينين موظفا عند فرانكو»، وهي رسالة مبطنة من باهي الى اليسار المغربي مفادها أن تحرير الصحراء يجب أن يتم بمعزل عن فرنسا وأمريكا . وفي هذه النقطة بالذات كان خطابه حادا مع الانفصاليين، هو الذي اعتبر دوما الحرب بين المغرب والجزائر لا رابح فيها بل الكل منهزم لأنها حرب تهدم وتقوض المستقبل، ولذلك فضل مغادرة الجزائر.
وبرؤيته الاستشرافية لمآل الوضع العربي والمحلي، تنبأ منذ ذلك التاريخ بإقامة دولة شمال العراق ، كما كتب في 1994 رسالة موجهة الى عبد الرحمان اليوسفي، ضمنها انطباعاته عن المغرب أن هناك ثلاث قضايا يجب أن تستأثر باهتمام المغرب في السنوات القادمة هي الوحدة والأمازيغية والجهوية، وهي النقاط التي لم تجد لها حلا الى اليوم.
من جهته، أقر الطيب بياض، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب عين الشق بالدار البيضاء، أن كتابات محمد باهي ساهمت في تشكيل وعيه خصوصا قراءاته الدؤوبة لرسالة باريس وهو لم يزل طالبا بعد بكلية ظهر المهراز بفاس، قبل أن يلتقي المناضل بودرقة ويتسلم أجزاءها الخمسة كاملة في كتاب، ما دفعه إلى الانكباب على قراءة هذه الشخصية في تعددها، ليكتشف أن باهي كان استثناء صحافيا مغربيا وشكل مادة مرجعية في غاية الدقة والرصانة، مضيفا أنه عاش بعفويته وفوضويته التي انتصر لها في اشتغاله على الصحافة والتاريخ الذي عشقه وقدم له الكثير كصحافي يؤرخ لليومي ويهتم بعناصره متفاعلا وفاعلا فيه.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 10/02/2020