محمد برادة لا يتوانى في غسيل الذهن، بل يجعل اللامرئي مرئيا، والمسكوت عنه مشاعا و متداولا . محمد برادة من المثقفين الذين تشربوا خيبة السقوط و الانتظار . تشرب مرارة تاريخ على صفيح ساخن يتراوح ما بين النكسة و النكبة والانتحار . منذ 1959 ، تاريخ الانشقاقات الكبرى في تاريخ الحركة الوطنية، بزغت بورجوازيات قسَّمت بلاد المغرب إلى ثلاثة محافلَ قادرة على رسم الفاجعة والأنين والبوح . بورجوازية تعيش فردوس الأحلام، وبورجوازية متوسطة تقاوم الحياة بالمعرفة والثقافة، وبورجوازية صغيرة تئنُّ تحت القلم و الكتابة . معاهدة إكس ليبان ، وما جنى المغاربة من مزيد من الاستعمار ، من المباشر إلى الصامت القتول الذي أتى على الأخضر و اليابس . إنها اللعبة السياسية التي قسمت أصدقاء الكلاوي ، والجناح المعتدل من الحركة الوطنية، وبعض النقابيين إلى رفات تلوكها العصور .
كتب نجيب العوفي عن محمد برادة قائلا : «إنه المثقف العضوي . المبحر في سجوف أليال مدلهمة، ماخرا أعباب الأسئلة الاجتماعية الكبرى والصغرى . لطالما ربط محمد برادة بينه و بين الواقع الاجتماعي، من خلال نصوصه التي اخترقت واحترقت في الزمن المستقبلي ؛ لعبة النسيان ، وما فعله الموت و ما محا من خطوات جليلة في طرقات البيع « السويقة « ، و ما انشد إليه من تعلم الموسيقى والكورال، وهو لازال في ميْعة صباه . « موت مختلف « موقف فلسفي يتمرغ في الحضارة الغربية، التي خبرها عن قرب، وهو يعيش أطياف باريس الحالمة، بألوان الحضارات المتعاقبة على هذه البقعة المشعة من الدنيا بأهداب من مروا ، وبصموا .
عندما ينفرط عقد الذات، تأتينا قصة «مذكرات سفر «، لعل في هذا الارتباط ذكريات بالحارة المصرية ، وما كان عشقا و حبا، و ألما وبوحا «، مثل صيف لن يتكرر « و أم فتحية ، و ما تختزن أناملها من طيب المأكل والمشرب ، وجان جنيه دفين العرائش، و استعادة المحكي. كنت أقرؤها – أي مثل صيف لن يتكرر – في بداياتي الأولى بالجامعة، وأنا طالب أعشق السرد من محكيات توسدت أعتاب الشرق و الغرب ؛ من جامعة محمد الخامس إلى ظهر المهراز ، مرورا بجامعة القاهرة بمصر ، كلها نوازل الأمل و الألم . كأنما يردد سمفونية بالكناية لمخائيل نعيمة :
سقف بيتي حديد / ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح / واهطلي بالمطر
في جنوب المغرب، كانت مدرستنا الصغيرة تطل على المحيط الأطلسي، في امتداد أزرق مليء بالحكايات و أساطير من سبقوا ورحلوا ، وبجنون أمواج تهد أعفار الجبال كالأسود المطوادة . كانت ريحٌ تقتلع سقف حجراتنا القصديرية المهترئة ؛ لنصبح تحت رحمة سماء زرقاء تحكي لنا مغامرات باربا بابا وسكوبيدو ، وتوم سايور ودجيمي القوية .
فعلتها ريح سموم؛ فخاب ظني بمخائيل نعيمة البسكنتي ، وأنا أنظر إلى المعلم، وهو يشرح و ينظم القصيدة ، ذهابا و جيئة ونحن ننعم في سكينة ، كأن حط فوق رؤوسنا هدهد سليمان . هذه العودة إلى الماضي كنت أنظر إليها في بساطة وسذاجة ، وبراءة أطفال صغار تشبعوا بالحب والبوح الدافقين . ولما قرأت جاك لاكان، وجان بيرمان نويل ، وخورخي لويس بورخيس عندما أعاد كتابة فرويد، استطعنا، بفعل ذك، أن نطرح سؤالا كبيرا : هل حان الوقت أن نعود إلى فرويد ؟ جاك لاكان كانت له يد سابغة في التحليل النفسي و التاريخي اللذين لهما ارتباط كبير بالأدب ، فضلا عن رولان بارت ، وما فعله في كتابه «عن راسين « .
« هل أنا ابنك يا أبي ؟ « مجموعة قصصية جديدة لمحمد برادة ، الصادرة عن دار الفنك في أبريل 2024 ، تتألف من ثمان قصص، وتقديم للكاتب نفسه .
منفتحا يأتي العنوان ومتواصلا. يربط السابق باللاحق، ويشي ذلك الشرخ التاريخي في بناء الهوية المغربية. صراع الأجيال باختلاف قناعاتهم ومعتقداتهم.
إن البحث عن الهوية الضائعة، هو بحث في أركيولوجية الذات المنسية، بفعل الظروف التاريخية التي لازمت الكتاب المغاربة طيلة عقود مضت. ولعل لهذه العودة سبيلا في نبش الذاكرة ، في بحث دؤوب عن حرية طمسها الأب في الأسرة .
هذا الحوار التواصلي مع الأب، يجعلنا نطل على الغابر من الزمن . ذلك المكرس لسلطة الخنوع والركوع . وفي هذا النكوص الزمني سر العودة بدون ضفاف إلى الماضي، على سليقة « الماضي البسيط « لإدريس الشرايبي . نبش في الذاكرة الماضوية من أجل الحرية من أصفاد تكبل أجيالا . فوجودية جون بول سارتر تغري الكتاب المغاربة ؛ لأنها الحل الوحيد أمامهم لنفض غبار الزمن ، واستشراف مستقبل حر و أبي .