محمد بلال أشمل، وأسئلة المشروع الثقافي لمدينة تطوان

كانت للأستاذ محمد بلال أشمل كل عناصر الجرأة لوضع الأصبع على مكامن الداء في بحثه عن أسباب العلل المزمنة التي أصابت جسد تطوان الثقافي، وأثرت في تناسق مكونات هويتها الحضارية الفريدة والمتميزة

 

يتابع الأستاذ محمد بلال أشمل سلسلة تأملاته وتنظيراته بخصوص إبدالات المشهد الثقافي بمدينة تطوان، بإصدار عمل جديد رأى النور سنة 2022، تحت عنوان «سؤال المشروع الثقافي في تطاون العامرة- الوجود والملكية»، وذلك في ما مجموعه 186 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل يشكل امتدادا لجهد تشريحي فاحص طبع مسيرة المؤلف في مواكبته الراشدة لحصيلة العطاء الثقافي لمدينة تطوان خلال زماننا الراهن، حسب ما بلوره إصدار الأول لسنة 1999 الحامل لعنوان «تطاون العامرة: منبر المسؤولية الحضارية»، ثم إصداره الثاني لسنة 2002 الحامل لعنوان «تطاون العامرة أفقا للتفكير». وسواء تعلق الأمر بالعمل الأول أم بالعمل الثاني، استطاع الأستاذ محمد بلال أشمل التأصيل لمنطلقات أصيلة في التعاطي مع الشأن الثقافي المحلي، استنادا إلى زاد نظري ثري ومتنوع، وإلى تجميع بيبليوغرافي موازٍ، وإلى مواكبة يومية لجديد «الحدث الثقافي» بمختلف تعبيراته التواصلية، ثم إلى نزاهة فكرية صقلتها تجربته الأكاديمية من موقعه العلمي الرفيع. لم يركن المؤلف إلى نزوعات التماهي مع التجارب المؤسسة، ولا مع أوهام تطوان المشتهاة، ولا مع حنين النوسطالجيات الحالمة، بقدر ما حرص على تفكيك ميكانزمات التحول داخل بنية المشهد الثقافي لمدينة تطوان، بإرثه التاريخي الذي خلفه رواد العمل الوطني التأصيلي، ثم بامتداداته الراهنة التي تتداخل فيها الأهواء، وتتنازع داخلها المصالح، وتنبثق من رحمها اليوطوبيات الموجهة للمخيال الجماعي للمدينة. وعلى أساس ذلك، كانت للأستاذ محمد بلال أشمل كل عناصر الجرأة لوضع الأصبع على مكامن الداء في بحثه عن أسباب العلل المزمنة التي أصابت جسد تطوان الثقافي، وأثرت في تناسق مكونات هويتها الحضارية الفريدة والمتميزة داخل وسطها الإقليمي بشمال المغرب، ثم داخل وسطها الوطني الواسع والممتد.
استطاع المؤلف في هذا العمل الدفاع عن تخريجاته بخصوص ما سماه ب»النظرية العامة في تطاون العامرة» (ص.9)، مدافعا عن «المشروع الثقافي» للمدينة كشكل من أشكال مواجهة مهاوي «الاستلاب الوطني» الضاغط (ص.11)، كتعبير عن ارتباط عضوي بفضاء تطوان التاريخي وبتراثه المادي والرمزي القائم والمندثر الذي صنع/ويصنع «محبة المكان» (ص.12) ويضفي عليها قيمها الإنسانية النبيلة والراقية حسب ما تلاقحت عبر العصور والأزمنة. ولعل هذا ما سعت إلى توضيحه الكلمة التقديمية للكتاب، عندما قالت: «أثرنا سؤال الثقافة في تطاون، ونحن نعلم أنه سؤال مُحرج لأنه يضع مشروعية بعض المداولين للشأن الثقافي في مدينتنا موضع مساءلة، مع أنه سؤال جوهري، وأخطرها أنهم لا يدينون بالولاء لمدينتهم في ممارستهم الثقافية كما ينبغي لهم، على تمسكهم بدعوة الحداثة في جميع أمورهم، واشتياقهم إلى تحقيق الديمقراطية في عموم حياتهم، ودأبهم على اصطناع شعار المواطنة في كل شؤونهم. ولكن إثارتنا لهذا السؤال، لم يكن بغرض إحراج أي من المداولين للشأن الثقافي في مدينتنا، بقدر ما كان دعوتهم إلى التفكير في حال الثقافة ومآلها في علاقتها بتطاون عمرانا وقيما، حتى نؤكد بها مرة أخرى، أن الانخراط في التمدن له أبواب كثيرة، وأن الانتماء إلى تطاون له  مسالك متعددة، وأن المواطنة ملل ونحل» (ص ص.10-11). ويضيف المؤلف موضحا سياقات التداخل بين حدود «الوطني» وسقف «المحلي» في أداء نخب مدينة تطوان قائلا: «أسقطنا المدينة من وعينا، وأهملناها في وجداننا، وصرفنا النظر عنها في ممارستنا، وحسبنا أنا ربحنا الوطن، فإذا هي تجارة خاسرة، أضعنا فيها انتماءً حقيقيا إلى كليهما، وأضعنا مع جميعه انتماءً صادقا إلى أنفسنا حتى صار الواحد منا غريبا كلما سمع حديثا عن وطن، واستشعر غربة قاسية، كلما سمع قولا عن مواطنة…» (ص.11).
ولتفكيك مضامين هذا البعد في الرؤية وفي الموقف، حرص المؤلف على تقسيم عمله بين عشرة أسئلة موجهة لتأملاته ومؤطرة لخلاصات تنقيبه وتتبعه ورصده للظاهرة الثقافية لتطوان، مع طرح مداخل نظرية لاستشكال آليات التداول الثقافي بتطوان، ولضبط سياقات تبلور حدود المشروع الثقافي لتطوان بين منزع الوجود وضغط المِلكِية. ولتوسيع دوائر التأمل والتفكيك، اهتم المؤلف في «سؤاله» الأول بالبحث في مصداقية الحديث عن وجود ممارسة ثقافية في تطوان، واهتم السؤال الثاني بالبحث في حقيقة «القضية» المؤطرة للممارسة الثقافية بالمدينة، وتناول السؤال الثالث آفات هذه الممارسة، وانفتح السؤال الرابع على تقييم حدود الوعي بالممارسة الثقافية بتطوان، وسعى السؤال الخامس إلى تحديد المقصود ب»المشروع الثقافي»، وتجاوز السؤال السادس ذلك إلى تخصيص الحديث عن المقصود بالمشروع الثقافي في تطوان تحديدا، ثم طرح السؤال السابع حيثيات المعنى العام لصيغة «المشروع الثقافي لتطاون»، وطرح السؤال الثامن مقتضيات المشروع الثقافي في تطوان، وأثار السؤال التاسع حدود وإمكانية الحديث -أصلا- عن وجود مشروع ثقافي لمدينة تطوان، واهتم السؤال الأخير بتقديم رؤى استشرافية واقتراحات بديلة في شكل «صياغة مدائنية» للممارسة الثقافية بمدينة تطوان الراهنة.
ولتعزيز قوة أدواته الإجرائية في التحليل وفي التركيب، استند المؤلف إلى عدة منهجية صارمة، أساسها الانفتاح على أمهات الكتابات التأصيلية للسياقات التاريخية مثلما هو الحال مع أعمال محمد داود وأحمد الرهوني ومحمد المرير ومحمد ابن عزوز حكيم ورضوان احدادو وامحمد بن عبود، إلى جانب الانفتاح على حقل الإصدارات الصحفية لمدينة تطوان الحالية. ولربط الموضوع بأصوله التأملية العميقة، بادر المؤلف بنحت مفاهيم مهيكلة شكلت مفاتيح لفهم أطروحة المتن وآفاقها المعرفية الرحبة، مثلما هو الحال مع مفاهيم «التطاون» و»التمادن» والتواطن»…
لقد كان محمد بلال أشمال صارما في نقده الجريء، وصريحا في مقاربته التي لا تتمايل مع الأهواء مثلما لا تُدغدغ العواطف. يقول بهذا الخصوص: «تكثر الأعمال الموسمية استجابة لطارئ سياسي مثل الانتخابات، أو تجاوبا مع مناسبة دينية مثل رمضان، أو تطرد حركة الأعمال الثقافية والأنشطة الأدبية تلبية لرغبة جهة من الجهات، كما هو الأمر في الأنشطة حول التسامح، أو تقليدا لأخرى مثل الحوار بين الأديان، وغير ذلك كثير. أغلب الممارسات الثقافية لدينا لا تستجيب لشروط موضوعية نابعة من المدينة ومن خصوصيتها الاقتصادية والثقافية والتاريخية والسياسية. تتكرر التجارب، وتتناسخ الحالات، وتتعدد الوقائع، ولكن لا أثر لاختيار واضح، معلن عن أهدافه، مجدد في وسائله، متميز في اشتغاله، ومتفرد برجاله. هناك ارتجال في العمل، وتسرع في التنفيذ، وارتباك في الأداء، وإقدام على العمل دون تفكير…ليست هناك قراءة متأنية للوضع العام للمدينة، ومن ثم وضع تصور ثقافي يناسبها: ما هي حاجيات المدينة؟ وما هي إمكانياتها؟ وما هي تطلعاتها؟ وما هي وسائلها؟ وما دور المثقف في معمعة الصراع السياسي محليا ووطنيا وقوميا؟… لقد قلنا مرارا إن التدبير الرشيد ينبغي أن يستند إلى التفكير السديد، فالتفكير السديد هو شرط التدبير الرشيد. ومن يتولى شؤون الثقافة في مدينتنا ينبغي أن يكون من أهل الصنعة، لا من الطارئين عليها، أو على الأقل، ينبغي أن يكون واسع الصدر، فيستعين بأهل المعرفة في تدبير جوانب العمل الثقافي التنظيمية والفنية والمالية والجمالية والإدارية، بغض النظر عن عصبياتهم الحزبية…» (ص ص. 156-157).
لا شك أن جرأة المؤلف في إثارة الأسئلة المغيبة في مقاربة منغلقات الحقل الثقافي المحلي بمدينة تطوان، يشكل مدخلا لتجاوز حقل الطابوهات والأصنام المتوارثة عن تكلس الأداء وعن تهافت النزوعات وعن تضارب المصالح. وفي ذلك خدمة أصيلة لبهاء مدينة تطوان التاريخي، واستلهام قيمي لتراثها الحضاري الذي صنع لها هويتها الفريدة داخل وسطه المتناغم في أدواته، والمنسجم في بنياته، والمنتج في خصوبته.

الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 20/01/2025