محمد بهجاجي في أحدث إصداراته: «المسرح في المغرب، أفق السؤال»

النقد المسرحي في المغرب ممارسة أدبية وفنية حديثة العهد. لن أغامر بتقديم جرد لتاريخ ظهوره وتطوره فباستثناء بعض الكتابات الصحفية حول النشاط المسرحي خلال سنوات العشرينيات، في طنجة وفاس…، فإننا لا نتوفر على رصيد وافر.
بخلاف ذلك نجد النقد المسرحي حاضرا بقوة في بلدان أخرى، في مرحلة موليير في فرنسا القرن السابع عشر مثلا، كان الناقد والشاعر نيكولا بوالو، أحد أهم نقاد تلك المرحلة، حاضرا إلى جانب صاحب «طرطوف»، في كل وقت يوجه له النقد والنصائح والتوجيهات. في هذا الإطار كان قد خاطبه مرة بالقول «في سنك، عوض أن تمثل اُكتب للشباب». ولكي يقنع موليير ناقدَه بقدرته دائما على الاستمرار في التمثيل، قدم أمامه مسرحية «مقالب سكابان» حيث يؤدي موليير دور هذا الأخير، فما كان من الناقد الشهير سوى أن يجيبه:
«داخل هذا الجراب الذي يختفي فيه سكابان
لم أتعرف على مؤلف «كاره البشر»
أسوق فقط هذا المثال من القرن السابع عشر لأبرز قوة حضور النقد وتفاعله مع الإبداع، ولأؤكد تواصل العلاقة بين النقد والإبداع، في تلك المرحلة وقبلها بكثير.
أما بالنسبة للمغرب، فلقد كان علينا أن ننتظر ولوج المسرح أوليا إلى الجامعة المغربية بفضل دروس حسن المنيعي بكلية آداب فاس ومحمد برادة بكلية آداب الرباط، وكذلك بفضل مساهماتهما القيمة في حقل الدراسات الأدبية والنقد المسرحي. وهذا ما سمح لاحقا بظهور جيل من النقاد، وضمنهم محمد بهجاجي الذي تابع إسهامات هذين الأستاذين، سواء من خلال دراسته بكلية آداب الرباط، أو عبر اطلاعه مباشرة على إنتاجات المنيعي، وحضوره في المشهد الثقافي. لكن هناك خاصية تميز محمد بهجاجي، وهي ارتباطه المبكر بدار الشباب بوشنتوف بالدار البيضاء التي وفرت له الاطلاع على كيمياء العرض المسرحي، ووفرت له صداقات ومعارف مع عدد من رموز العمل المسرحي. وهو كذلك ما أهله إلى أن يصبح في ما بعد كاتبا مسرحيا مكرسا ومعروفا من لدن الممارسين، كما من لدن كل النخب، خاصة بعد مشاركته الوازنة في إطار «مسرح اليوم» بإدارة ثريا جبران، وبعد تقديم نصوصه على مسرح محمد الخامس بحضور عبد الرحمان اليوسفي الوزير الأول في «حكومة التناوب».
وفي سياق ذلك، قدمت تلك النصوص في جل مدن المملكة، كما في مدن الجزائر العاصمة ووهران وعنابة، ثم على خشبة معهد العالم العربي بباريس.
أما بخصوص إسهامه النقدي، فلابد أن نشير إلى أنه، بخلاف عدد من النقاد، فإن محمد بهجاجي لا يمارس وظيفة ناقد يفتح «دكانا» ليكتب عن كل العروض. على عكس ذلك فإنه انتقائي في اختياراته بحيث يختار الأعمال التي يكتب عنها بعد أن تتهيأ له المادة الأولى التي تشكل عنصر الانطلاق، ومن هناك يحصل التفاعل.
محمد بهجاجي، كان قد تمتع، من جهة ثانية، بحظ الكتابة والنشر في إحدى كبريات الجرائد المغربية «المحرر» قبل توقيفها التعسفي، ثم بعد ذلك في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، وهو ما جعل كتاباته تحظى بدرجة عالية من المتابعة والاهتمام. ولقد كان من ثمار حضوره الإبداعي والنقدي الإصدارات التالية:
– «ظلال النص، قراءات في المسرح المغربي»، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1991.
– «الحفل التنكري»، نص مسرحي، دار قرطبة، الدار البيضاء، 1996.
– «المهدي المنجرة، مسار فكر» (بالاشتراك مع حسن نجمي)، دار وليلي، مراكش، 1997.
– «بلاغة الالتباس، قراءات في المسرح المغربي»، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 2012.
– «ثريا جبران: دينامية المصادفة والاختيار» (مصنف جماعي، إشراف)، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، 2013.
– «كاتارسيس»، نص مسرحي ، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، 2014.
– «محمد مفتاح – مدارج التتويج»، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، 2015.
– «كتاب السفر»، منشورات أسبوعية «الوطن الآن»، الدار البيضاء، 2021.
ثم ها هو أحدث إصداراته «المسرح في المغرب، أفق السؤال» عن المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي أسعد اليوم بتقديم فكرة أولى عنه للقراء. فهذا الكتاب يمدنا بعرض لبعض مظاهر النشاط المسرحي من خلال سبعة فصول تتواصل كالتالي:
* عبد الله العروي كاتبا ومنظرا مسرحيا: «رجل الذكرى» أو تراجيديا الوصل والقطيعة.
* معالم من المشروع النقدي لحسن المنيعي: من «ما قبل المسرح» إلى «ما بعد الدراما».
* خالد أمين – «المسرح والهويات الهاربة»: مرافعات من أجل الحوار والحق في التنوع.
* مرايا برشت في المسرح المغربي: «مسرح المرحلة» لحوري الحسين نموذجا.
* محمد قاوتي: طبقات النص، أو التباسات الكائن وظله.
*عبد الواحد عوزري: منعطفات البحث عن أسلوب.
*»سماء أخرى» لمحمد الحر و»النمس» لأمين ناسور: دينامية التجديد في المنجز المسرحي الراهن في المغرب.
وفي سياق تعريف القراء بهذا الإصدار السابع ضمن سلسلة منشورات محمد بهجاجي، نقدم إضاءة حول المضامين:

يحاول المؤلف أن يكشف لنا، في هذا الكتاب، بعدا غير معروف عند مؤلف «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» لدى الجمهور الواسع. يتعلق الأمر بعد الله العروي الشاب الذي ألف نصا مسرحيا بعنوان «رجل الذكرى»، ونشره سنة 1964 بمجلة «أقلام». بعده ترجم أحد أهم النصوص المسرحية لهنري دو منترلان «السيد سانتياغو»، ونشره بنفس المجلة سنة 1966، ثم أعاد نشره سنة 2013 في كتاب بعنوان «شيخ الطريقة».
في تلك المرحلة كان العروي يسعى إلى تعميق معرفته بالمسرح العربي من خلال الاطلاع، بشكل خاص، على مسرحيات توفيق الحكيم وأحمد شوقي وعلي أحمد باكثير، لكن حكمه حول تلك المسرحيات لم يكن إيجابيا تماما.
أحمد شوقي مثلا لم يتمكن، بالنسبة إلى العروي، من تحرير التاريخ من مظهره المطلق، وبنفس المعنى لم يتوفق توفيق الحكيم في استثمار التراث العربي الإسلامي. وبذلك يخلص إلى أن المجتمع العربي قد فشل في رصد الوضع العربي المأساوي. نلاحظ هنا أن محمد بهجاجي قد حاول تسجيل تلك الأفكار دون التعليق عليها مع أنها كانت مثيرة للنقاش.

2
لتقديم فكرة شاملة ووافية عن المشروع النقدي لحسن المنيعي، اعتمد محمد بهجاجي، في دراسته الثانية، مصطلحين كانا أساسيين في تطورات هذا المشروع: «ما قبل المسرح» الذي وظفه المنيعي في كتابه الأول «أبحاث في المسرح المغربي» (1974) و»ما بعد الدراما» الذي طبع آخر إنتاجاته قبل أن يرحل إلى دار الفناء سنة 2020. ولقد تتبع المؤلف دلالات هذا التوظيف انطلاقا من تأمل عدد من إصدارات المنيعي، الباحث والناقد والأكاديمي الذي درس لسنوات في الجامعة المغربية حيث تخرجت على يديه أفواج من الباحثين الذين يؤطر جلهم اليوم الدرس الجامعي المغربي.

3
في الفصل الثالث يتأمل محمد بهجاجي المشروع النقدي لخالد أمين، الخاص بدراسات الفرجة، والمندرج ضمن أعمال الباحثين على المستوى الدولي من اجل إنتاج فكر مسرحي نقدي جديد. هذا المشروع يتمثل في نظره عنصرين أساسيين: توظيف المشروع لمصطلحات ومفاهيم لم تكن حاضرة بقوة، من قبل، في الدراسات المنجزة حول المسرح العربي والمغربي خصوصا على نحو خاص مثل الهجنة، البينية، المثاقفة، التابع، التفاوض، التبادل والترجمة… وذلك بمنهجية تقوم على التفاعل أساسا مع تراث الفكر ما بعد الاستعماري. أما الخاصية الثانية فتظهر من خلال اعتماد سلوك النقد الذاتي عند أصحاب مشروع دراسات الفرجات، والتجديد المتواصل، والمراجعة المستمرة لبعض التصورات المركزية التي يطورها المشروع باستمرار.


وفي فصل «مرايا برشت في المسرح المغربي»، يستحضر المؤلف جانبا من تجربة حوري الحسين (1946 – 1986)، المبدع المتعدد المواهب والاهتمامات. فهو شاعر وقاص وفنان تشكيلي وممثل ومخرج. ولقد انخرط مباشرة في ظاهرة (حتى لا نقول موضة) إصدار البيانات المسرحية التي دشنها أولا عبد الكريم برشيد من خلال مشروعه « الاحتفالي». في هذا الإطار أصدر حوري الورقتين الأولى والثانية لمسرح المرحلة. ولا يحتاج القارئ المختص إلى كبير جهد لتتضح له مرجعيات بريشت وسعد الله ونوس حيث عمل بهجاجي على إبراز حدود وآفاق تفاعل حوري مع هذه المرجعيات وغيرها.

5
بخصوص تجربة محمد قاوتي، يبرز الكتاب تميز هذا المؤلف، انطلاقا من نماذج من نصوصه، بتعدد مرجعياته وكثافة كتاباته. وبالنسبة له فلا تناقض بين أصوله البدوية، وقراءاته الصوفية، وثقافته الفرنسية. فلقد كان ممثلا ومؤلفا لعدد من النصوص التي أدتها فرقته «السلام البرنوصي» وفرق احترافية أخرى. وهذا ما جعل مشروعه يتطور باستمرار عبر الزمن، وبأنفاس متعددة.

6
يتتبع المؤلف، في الفصل السادس، تطور الإخراج داخل مسرح اليوم، منذ تأسيس هذا الأخير سنة 1987 إلى حين انتهاء التجربة سنة 2006، كاشفا عن المنعطفات التي عرفها هذا التطور الذي جعل هذه الفرقة، بقيادة ثريا جبران، تمثل دينامية متميزة عبر عمل ساهم فيه كتاب مغاربة وعرب وأجانب.

7
يختتم الكتاب بقراءة مسرحيتين تمثل، حسب المؤلف، بعض مظاهر دينامية التجديد الحالية في المسرح المغربي التي تلج بالمسرح المغربي آفاقا جديدة:
– «سماء أخرى» عن مسرحية «يرما» لغارسيا لوركا، تأليف وإخراج محمد الحر.
– «النمس» عن رواية «هوت ماروك» لياسين عدنان، تأليف عبد الإله بنهدار، إخراج أمين ناسور.
أود أن أشير في الختام إلى أن كل كتاب يبتدئ وينتهي. وبخصوص كتاب محمد بهجاجي، فلقد اقترح علينا اختيارا حاولنا هنا تلخيصه، علما بأن بإمكان القارئ المهتم العودة إلى المصدر لتكوين فكرة ناضجة حول ذلك الاختيار. وأود كذلك أن أشير، ونحن نسعى لرصد نشاطنا المسرحي الحالي، إلى معطى جديد صارت له مكانة هامة داخل هذا النشاط، ويتمثل في هذا الحضور الوازن للنساء في مجال الإخراج المسرحي.

«المسرح في المغرب، أفق السؤال»، محمد بهجاجي، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة، 2022.


الكاتب : عبد الواحد عوزري

  

بتاريخ : 28/04/2023