تَوْطِئَةٌ:
يُعدّ محمد شُكْري من الأسماء الإبداعية التي تركت بصمتها على مستوى الكتابة السردية، بسُرودٍ استثنائية من حيث الموضوعات المطروقة، والتي تندرج ضمن المحرّم في الثقافة العربية، حيث الجنس والعنف بمسمياته المتنوعة والمختلفة، والطفولة المغتصبة والسلطة البطريريكية للأب. إنها من الدواعي التي بوّأت الكاتب المكانة في سُلّم الإبداع العالمي، لا جرأته وإنما لما طرحه من أفق مغاير في الكتابة السردية. فقد كشفت أعماله السردية عن أنساق اجتماعية وثقافية تمثّل عصَب بنية المجتمع العربي. وبالتالي فإن هذا الكشف ما هو إلا دفاع عن أدب ” لا يقتصر على أن يكون وثيقة اجتماعية. إنه أيضا، وثيقة إبداعية في اللغة، والتقنية والأسلوب”.
إن المقصدية المتوخاة من هذه الوقفة في الذكرى الثانية والعشرين لرحيل محمد شكري لا تكمن في إعادة ما قيل حول تجربته، بقدر ما نروم الاقتراب إلى المنجز برؤية مخالفة للسائد في المقاربات النقدية.
(1) كتابة مناوئة لسلطة الأنساق :
نحتاج لقراءة الكاتب المغربيّ والعالمي محمد شكري إلى وعيّ نقديٍّ جديد وعميقٍ، نظرا لما تمثله كتاباته السردية من أنساق ثقافية وفكرية، ولما يشكّله من مكانة متميّزة في الإبداع العربي والعالمي. ليس لأنه كسّر المحرمات وتجاوز المحظور، وانبرى يعرّي سوأة المجتمع العليل بالأسقام الاجتماعية والوجودية، بل لأن شكري صنيع الحياة وسليل التجربة التي تشرعُ “عتبة الأدب وهي في تلك الحالة الدهليزية حيث كثافة الحياة معطاة، ومنبسطة”. على أفق كتابة إبداعية تستلهم الذاكرة والتخييل كآليتين لبناء خطاب سردي مختلف عن المتداول في السرد العربي. أي على تجربة استثنائية في الحياة والكتابة. فالتجربة في الحياة أغنى وأثرى من تجربة القراءة والعيش في الخيال. إن جدارة شكري في عالم الكتابة لم تأت يسيرة، ولكن بعد مشاقّ في الحياة ومكابدة ومواجهة سؤال الكينونة بدربة في القراءة والكتابة.فالرجل أسس وجوده الإبداعي من الوعي بقيمة الفرد داخل نسق معطوب، والرغبة في الانفلات منه، للبحث عمّا يجعله أكثر تميّزاً وفرادة. ففرادة هذا الكاتب الاستثنائي لا تقف عند حدود الكتابة المرآوية، وإنما في الاقتدار على تحويل حياة الذات وانعطافاتها إلى كائن استعاري يقول الواقع بكتابة بلّورية، بعيداً عن الانعكاسية التي تشوّه صورة الذات والعالَم الأشياء والموجودات.
ولعلّ محمد شكري قد أفلح في صهر تجربة الحياة وحياة التجربة في قالب سرديّ يبدو للقارئ البسيط أنه يعرّي ذاته سيريّا. بيد أن الأمر أكبر من هذا، فهو استطاع تقويل الواقع بصيغٍ سردية لا تحصر وجودها في الحياة الشخصية. بل تنفتح على متاهات السؤال الوجودي حول الكينونة المغلولة بالمواضعات الجائرة في مجتمع يمارس القهر الاجتماعي والاقتصادي والفكري على هويته الوجودية.
هذه الكينونة التي عبّر عنها الكاتب الطنجاوي -كما يلقّب نفسه- تنخرط في قلب الحياة الاجتماعية، لا بغرض تشويهها ووسمها بأبشع النعوت، ولكن من أجل دقّ نواقيس الانتباه إلى ما يَعْتَورُ المجتمع من هيمنة الأنساق التقليدية اجتماعيّا وفكريّا وممارسةً بعِلّة سلطة المواضعات.
فتاريخ الذات التي نسجها شكري، في كتاباته السردية، في الحقيقة تاريخ جمعي يراوح بين القذارة والنقاوة أي المدنس والمقدّس. هذان الأخيران ما هما إلا حيلة اجتماعية متواضع عليها من قِبَلِ المجتمعات، لإخضاع إرادة الكائن لرحمة الأنا الأعلى، بما يحمله من أنساق أخلاقية وعُرفية، وعنف الْهُو مُحفّز الكائن لخوض معركة الكينونة المفتقدة.
وعندما يصرّح محمد شكري على لسان السارد أن: ” الفقر مسخ ملامحنا. لم يترك لنا سوى ما هو إنساني فينا”، فهو لا يعبّر عن سيرته الذاتية، وإنما يسلّط الضوء على منظومة اجتماعية، عمادها نظام طبقي، تمارس التمييز بين مكونات المجتمع المغربي. فكانت صرخته إدانة لها ودعوة إلى التجاوز. ليبقى الاحتماء بالقيم الإنسانية الملاذ الأول والأخير للحفاظ على الكينونة المهدّدة في وجودها.
إن سحر الكتابة عند شكري القائمة على ضمير المتكلّم يوهِّم القارئ ” أن الذي يتكلّم هو المؤلّف. إن الأمر ليس كذلك، إن هذه الأنا هي أنا السارد، أو الصوت الذي يقوم بسرد الأحداث”. والقارئ للمتن الشكْري يلمس هيمنة هذا الضمير في بنية النص السردي، الذي اتخذه فَخّاً للإيقاع بالقارئ على اعتبار أن هذا المتن السردي ينخرط في الكتابات السيرذاتية.
والحقيقة أنها آلية أسلوبية تمويهية/ تضليلية ترصد الواقع يعين ثالثة. إنها العين الفاحصة والمتدبّرة في أحوال الكائن والكون. وهذا ما يحيل إليه السارد بقوله ” ليست الأشياء هي مقرفتي إنما هو الإنسان المشوّه”. فخطاب الملفوظ السردي يزيل الحجب والاحتمالات القرائية التي أُلْصِقَتْ بإبداع شكري. بل إنه تقويض وحلحلة للفهم المبتسر المحصور في ثيمات متهالكة ومستهلكة نقديّاً كالجنس والخمر وتعرية سوأة المجتمع، وهو أمر يدعو إلى نظرة جديدة لقراءة الأعمال الإبداعية للكاتب. وعليه فالذات الكاتبة، في هذا المقول السردي، مؤتلفة مع العالَم ومتصارعة مع الآخر الفاقد للحس الإنساني وللقيم النبيلة. فنص شكري “يكشف عن روابطه المتعدّدة الممكنة” وعن ارتباطه بصوت الواقع لا انعكاسا، بل كملح للتجربة.
إن المحكي الذاتي لا يرتبط بشكل مباشر بالكاتب، وإنما هو وسيلة لمواجهة سلطتين. الأولى تتمثّل في رغبة الذات الساردة في تقويل العالَم كذباً، أي متخيّلاً. والثانية تمارس القهر الاجتماعي على الذات والمجتمع. لتبقى الكتابة، من خلال، السرد تحويلُ السلطتين إلى عوالم يتشابك فيها الذاتي بالموضوعي دون السقوط في شِراك السيرة الذاتية المغلقة. إنّها كتابة تجنح صوب العوالم الممكنة التي تشكّل نسقا ثقافيّا . وهذا ما سعى إليه شكري طيلة وجوده الإبداعي وهو القائل: ” إننا لا نكتب كيما نلتقط صورة واضحة كاملة طبق الأصل لهذا العالم حتى حين نكون مطالبين بالكتابة عن سيرتنا الذاتية. الأصوات والمعاني، الحركات والأوضاع، التي نتلقاها في لحظة ما، معاشة أم متخيّلة، ليست هي نفسها حين نستعيدها فنّيّا” .
يعتبر هذا الملفوظ بياناً ينتصر لكتابة إبداعية تتجاوز الآراء القائلة بأن سرود محمد شكري سيرذاتية، وهي في جوهرها تتأسس على الوجوه الجمالية والفنية، وتبتعد عن المحاكاة. وأنّ كتابة السيرة الذاتية لا تخضع لقواعد فيليب لوجون، بل تتجاوزها مادامت تقوم على الحذف والصمت، ومتغيّرة لأن ” هدف الفنّ هو حافز ما لخلْق تجربة إنسانية تسمو على مستوى التسجيل المحض”
هكذا فالأعمال السردية التي خلّفها الكاتب، لم تُقْرأ بالشّكل الجيّد لكونها مجرّات مجهولة في إبداعيتها. فالنص بأبعاده الإشارية والجمالية، وليس بِحَشْرِهِ في الزوايا الضيّقة المتعلّقة بالكتابة المرآوية. لهذا نحتاج إلى منظور نقديّ لإعادة قراءة الأعمال السردية لشكري تحليلا وتشريحاً بمشارط نقدية تلاءم طبيعة الجنس الأدبي.
(2) كتابة بدون صدريات إيديولوجية :
أعتقد أنّ محمد شكري يمثّل حلقة مهمة في صيرورة الإبداع السردي المغربي خاصّة والعربي عامة. فهو على الأقل ولج الكتابة الإبداعية بصدر بدون دروع إيديولوجية، بقدر ما حمل حياته وتجربته الوجودية بخلفية أنطولوجية للتعبير عمّا تحتاجه الذات الفردية من طاقة خلّاقة تسترفد الماضي لمناوشة الحاضر واقتناص المستقبل. ولعلّ هذا ما تحقّق بالنسبة لشكري، إذ كانت رؤيته للكتابة تنبثق من هذا التصور المستقبلي، فخلود الإبداع وديمومته ينبع من صوت الكينونة الداخلي وارتجاجاتها الباطنية، والتوظيف الأمثل للمرجع من أجل كتابة خارج السرْب.
وقد كان شكري فطناً لهذا، وهو القادم إلى الكتابة الإبداعية من أبوابها غير المطروقة والمغلقة، مقتحما جغرافيات مجهولة شبيهة بالآبار العميقة، ومتاهاتها المعتمة والغامضة، مشيّداً تجربة مفارِقة في الكتابة السردية، تغترف من المحرّمات لتتحوّل إلى عالَم متخيّل يبدع وجوده الإبداعي، ويملأ فجوات الحقيقة والخيال التي تتركها كتابته على مستوى النص. فالإرث السردي الذي خلّفه يتيح للقارئ إمكانات هائلة لاحتمالات تأويلية لخطاب سردي طافح بالقلق الوجودي، ومكابدة الموجود في الوجود، وبالأسئلة الموجعة والحارقة حول واقع التردّي والتخلّف، التمزّق والتشظّي. واقع الانفصام والانفصال عن حقيقته، ومتواريّا في العتمات والغياب.
إن حقيقة كتابة شكري لا يمكن التعامل معها على أنها سيرة ذاتية قوّضت متاريس الحياء والخجل، ولكن يجب النظر إليها كونها متوناً تفيض بحيوات مفعمة بالالتباسات على أساس أن ” الكتابة حقيقة ملتبسة” رغم ما يبدو عليها من الجرأة والاندفاع وأحيانا الانفعال، ولكنه اندفاع وانفعال معقلن لأن صاحبه على وعيّ تام بجوهر العملية الإبداعية وأبعادها واحتمالاتها.
بعبارة أوضح إن الكتابة السردية عند شكري انزياح عن الكتابة التي تقتات من الحادثة، وانتصارٌ للكتابة النهرية المتجدّدة والمتحوّلة، والسابحة في الآن ذاته نكاية في التيارات الإبداعية المكرَّسَة والمتداولَة. وهذا يعني أن الواقع موجود في النص لا خارجه، مقيم في التخوم الفاصلة بين السرد والسيرة، بين السّرّ والجهر، بين الحقيقة والخيال. ويمكن أن نطلق على كتابات شكري “كتابة الكارثة”، على اعتبار أن الكارثة محو ورَسْمٌ، تجديدٌ وامتدادٌ في الامتلاء اللانهائي.
(3) لا زمنية الكتابة الشُّكْرية :
إن المحكي السردي عند شكري ينتمي إلى لازمنيته، أي أنّه خارج عن القواعد والقوالب. بل طافح بجرح الوجود المفتوح. وخالقٍ عوالم متخيلة بإحالة مرجعية. ومع ذلك فإن جُّلّ الشخوص السردية المؤثثة لفضاءات المتون السردية ذات هوية سردية لا تؤرّخ، وإنما تؤسس للدلالة في احتمالاتها، بعيداً عن “القراءة المستبردة” العاجزة عن الوعي بقيمة الخطاب السردي، وعن إعادة صياغة العالَم بجماليات في القول، والحبكة البسيطة ذات المبنى القائم على المحاورة والمجاورة، وتعبيراً فنّيّا عن الواقع المفارق.
إنّ ألم الذات في كتابة شكري لا يتعلّق به، وإنما يرتبط بذاك النسق الاجتماعي المشوّه، حيث الهاوية تبتلع كيانه ووجوده، بل يجمّد الفكر وممارسة الحياة. نسق يعيق تحقيق الكينونة، لكن شكري تحايل على هذا النسق بألم كتابة لا تفكّر إلا في جوهر الكائن والكون، ولا تنحت صوتها إلا من صوت تلك الدهاليز العميقة في الذات والممتدة في الغموض والالتباس.
هو ألم الكتابة الشاجب للظلم والمنقذ للكرامة الإنسانية ، والباحث عن الكينونة في فضاءات صاخبة بالتناقض والبشاعة. صارخة بالمفارقات الضّاجّة بالفقدان، والضياع في ملكوت عالَم فاقد بوصلة القيم والحياة.
(4) العبور الأبديّ:
ويظل النصّ يتيماً إذا لم ينل حظّه من القراءة، ويتحوّل إلى جثة لا تسترجع وجودها إلا بالنفخ فيها تأمّلا وتقليباً لرمادها الهامد، لكنه متّقد باطنيّا. ونص شكري دائم الحياة والاستمرارية في الذاكرة الإنسانية. لأنه حيّ بسلطته الثقافية ومرجعياته الفكرية، حيّ بالاقتدار على التأويل والاحتمال. حيّ لما يحمله من تصورات وأفكار تولّدت من التجربة في الحياة والإبداع. وما هذه الحفاوة التي تستقبل بها سروده إلا دليل على أن ألم الإبداع وألم الإبداع سيان في تجربة الكتابة عنده.
فهذا العبور الأبدي المميّز لكتاباته يخلخل هيكلية النص السردي بتفجير البعدين الحقيقي والخيالي، والتمكّن من ابتكار سردية الكينونة وكينونة السرد، بوسائل أسلوبية مغايرة. عبورٌ قائمٌ على تحطيم الواقع، وتشييد واقع جديد في لبوسات أكثر جرأة، ولها الإمكانات لإبداع سردية غير منتهية، بل متماهية مع الأسئلة المنبثقة من صميم التجربة وعنفوان الحياة.
والنص الشكريّ لا أنساغ له ولا هوية له، نسغه الحياة والواقع، امتداده في هذه القدرة الخارقة على احتواء الفراغ، وتحويله إلى امتلاء هو البسط والحبور الناتج عن إثارة الأهواء المتروكة غُفْلاً ونسياناً، وإيقاظ الرغبات المحجوبة في الكوامن والأعماق قريباً من جرح اللغة بعيداً عن صمت الكتابة، وهويته في الاقتدار على مخاطبة الإنساني والكوني.
على سبيل الختم:
إنّ محمد شكري أسس لكتابة سردية خارقة للقارات الإبداعية، وقادرة على تحويل الذات إلى مرجلٍ يغلي بمكابدة الأسئلة والبحث السرمدي عن الكينونة حليفة النقصان. لكنها تكتمل باللغة والعلامات المعبّرة عن الأنساق والحاملة لاحتمالات القراءة. وتلك سمة من السّمات الجمالية والفنية التي تنماز بها تجربة الكتابة عند شكري.