في زمنٍ باتت فيه الصورة تسابق الصوت، وتغرق المنصات الإلكترونية يوميات الناس بضجيج عابر، يطل علينا عبر أثير إذاعة MFM صوت قادم من عمق الدوار المغربي، محمل برائحة التراب، ودفء الحكايات، وصدق اللهجة، إنه صوت محمد عاطر، الذي جعل من برنامجه الشهير «ريحة الدوار» نافذة تطل على البادية المغربية، لا بوصفها فضاء للحنين أو لوجه مجالي فقط، بل باعتبارها ذاكرة حية وهويةً ممتدة في الجغرافيا والوجدان.
منذ أكثر من عقد ونصف، استطاع برنامج «ريحة الدوار» أن يخلق لنفسه مكانة خاصة في المشهد الإذاعي المغربي، محتفظا بسحر الأصالة، ففكرته البسيطة – أن تحاور البادية بلسانها، وتستمع إلى ناسها كما هم – تحولت إلى تجربة فنية وإنسانية فريدة، الكوميديا هنا ليست هزلا أو سخرية، بل مرآة صافية لحياة القروي المغربي بكل تناقضاته، حيث تختزل الفلسفة الشعبية في نكتة، وتختزن الحكمة في مثل دارج.
من كاريان لاحونا
إلى صوت البادية
ولد محمد عاطر يوم 5 نونبر 1967 في حي «كاريان لاحونا» بالحي المحمدي، هامش الدارالبيضاء، وسط بيئة بسيطة أنجبت العديد من رموز الفن والثقافة الشعبية، من هناك بدأ صوته يتشكل على إيقاع الحياة اليومية، بين ملاعب «الطاس» وحلقات «الشابو» وصفوف المدرسة، في تلك المرحلة المبكرة، كانت الموهبة تتلمس طريقها نحو الضوء، بين الضحك والدرس، بين الحلم والانكسار.
بدأ عاطر مسيرته من دار الشباب ببورنازيل، حيث اكتشف الخشبة في زمن ازدهار الثنائيات الكوميدية، شق طريقه بثنائي «لهبال» رفقة صديقه ماجوك، قبل أن يختار الإبحار منفردا في عالم الفكاهة التلفزيونية والإذاعية، فمن إذاعة عين الشق دخل عالم الميكروفون خطاطا، قبل أن يستبدل القلم بالصوت، ويظهر على شاشة التلفزيون في أعمال مثل «زايد ناقص» و»الزوجة والمفتاح»، حيث راكم تجربة غنية جعلته فنانا متنوعا.
لكن التجربة التي شكلت منعطفا في مساره هي دون شك «ريحة الدوار»، فمن خلال هذا البرنامج، استطاع أن يمنح للبادية المغربية صوتا لم يكن مسموعا، وأن يجعل من الميكروفون أداة لحفظ الذاكرة الشعبية لا لمجرد الترفيه أتسلية عابرة، بل مساحة للحوار الإنساني بين المدينة والبادية، بين المثقف والعامي، بين الإعلامي والمستمع البسيط، وسبق لعاطر أن قال: «يشرفني أن تلتصق بي شخصية البدوي، لأنني إنسان متصالح مع نفسي».
وتتجلى فلسفة «ريحة الدوار» في كونه ليس سخرية من الآخر، بل تماه معه، واحتفاء بعفويته وصدقه، وفي كل حلقة من البرنامج تنبعث أصوات القرى والجبال والسهول، من فلاحين وحرفيين ونساء يروين تفاصيل الحياة اليومية بعفوية، وقد يتحول البرنامج إلى وثيقة صوتية أنثروبولوجية تحفظ تنوع اللهجات والعادات والممارسات الاجتماعية، وتمنح الباحثين في علم الاجتماع مادة خصبة لدراسة الحياة القروية في المغرب.
الإذاعة حين تصبح
برائحة الأرض
لم يكن غريبا أن يحتفي «مختبر السرديات بكلية الآداب بنمسيك» بهذه التجربة الفريدة، في لقاء علمي نظم يوم 13 فبراير المنصرم ببرشيد تحت عنوان «برنامج ريحة الدوار: صوت البادية وبوح الهامش»، بمشاركة حسن رشيق، عبد الكريم جويطي، حسن البصري، خالد الكيراوي، ياسين مروسي، وزينة إيبورك، الذين أجمعوا على أن البرنامج يمثل تجربة تتجاوز حدود الإذاعة التقليدية، لأنه أعاد ربط الإعلام بالناس، وحول الهامش إلى مركز للتعبير.
من خلال «ريحة الدوار»، لم يكتف محمد عاطر بإضحاك المستمعين، بل أعاد الاعتبار للبادية كفضاء للمعنى وللإبداع، فكل نكتة أو حكاية تروى في البرنامج تحمل في طياتها شحنة من الذاكرة الجماعية، وتختزن تجربة مجتمع يعيش تحولات عميقة دون أن يفقد أصالته، مع اعتبار قدرة محمد عاطر على مخاطبة القرويين بلغتهم الخاصة بكونها ليست مهارة صوتية فقط، بل وعي ثقافي متجذر، فهو يتحدث من داخل الثقافة لا من خارجها.
ليس من السهولة أن يكون نجاح محمد عاطر في التقاط لحظات الفرح والدهشة والحكمة بعيدا عن السقوط في فخ التنميط أو الإضحاك المبتذل، ما جعل «ريحة الدوار» تجربة متميزة تقف على الحد الفاصل بين الفرجة والبحث، بين الحكاية والملاحظة الأنثروبولوجية، لتشكل بذلك بطائق صوتية للهوية المغربية في تعددها وتنوعها، ولحظات احتفاء بالإنسان المغربي في عمقه القروي، وانتصار لثقافة الهامش، وتذكير برائحة الأرض التي لا تزول.
اليوم، بعد أن اقترب البرنامج من عقدين من البث، ما زال يحتفظ بجمهور وفي من داخل المغرب وخارجه، ويعتبر من أعلى البرامج استماعا على الصعيد الوطني، حتى أن الباحث المغربي المقيم بالنمسا حميد لشهب كان قد أنجز دراسة تحليلية نقدية حوله، معتبرا إياه مرجعا في فهم الديناميات الاجتماعية للقرى المغربية، وربما لهذا السبب زاد محمد عاطر ففكر في تعزيز قناته على منصة «يوتيوب» ببرنامج «قبل الڤار».

