محمد عنيبة الحمري لا يميل
إلى الحياة في الشعر إلا لأن الشعر يميل إليه في الحياة.. عشقه للحياة في الأرض عشق أفقي، تماما مثل عشق المشائين في الأرض
«أتَوَدُّ أنْ تكُونَ هَادِئا،
تَنَفَّسْ بِبُطْءٍ أمَامَ لَهَبٍ خَفِيفٍ
يُنْجِزُ عَلى مَهَلٍ الضَّوْءَ»
(غ. باشلار)
الكثافة والإيجاز.. الإيقاع والموسيقى.. أشياء الطبيعة وطبيعة الأشياء.. سفر في المكان وتيه في الزمان.. اللحظة والصورة… عناصرٌ جلية أحيانا وكامنة أحيانا أخرى في المنجز الشعري لصاحب «الحب مهزلة القرون» الصادر عام 1968.
صغيرا بحجم الكف جاء الديوان الشعري الثامن للشاعر محمد عنيبة الحمري «تَكْتُبُكَ المِحَن» (سُحِبَ بمطابع أباجيدْ، نونبر 2013)… لكن ما أن تُمسك به بين يديك حتى تشعر وكأنك تمسك بجمرة الحياة.. يأتي هذا الإحساس من العنوان أولا، ويأتي من المقطع الشعري الذي وضعه الشاعر على ظهر الغلاف ثانيا:
«لا تكادُ تراهْ/أو يراكْ/هو خلفك لا يستقيمُ/بغير خطاكْ/تنحني ينحني/أو تميلُ يميلْ/تستديرُ لترقبهْ/ينسحبْ/للمرايا اتجهتَ لتنظرهُ/فاحتمى بالشعاعْ/أدِر الجسم للشمس كي يختفي/إنك الآن لا ظلَّ لكْ».
كمْ هو حار هذا المقطع الذي يُشَعْرِنُ الظل.. وكمْ هو محيِّر للقارئ الذي سوف يتساءل: «هل أنا أقرأ لشاعر، أم أقرأ لعَالِم؟» (ومن قال إن الشعر ليس علما بالحياة، بكيمياء عناصرها وحروف لغتها والمياه التي تسري في شرايين أراضيها؟ الشعر تأسيس للوجود في العالم)… وكمْ ستُفَاجأُ أيها القارئ حينَ ستجد أن هذا الديوان يضم ثلاث محنٍ: مِحنَتُك (ترك الشاعر حرف الكاف بدون ترقيم حتى يكون قابلا للتذكير والتأنيث)، محنُ الآخر ومحنُ الأشياء… يضعنا الشاعر أمام هذه المحن المتعددة ليقول لنا بلسان الفلسفة (التي هي بالطبيعة شعر): «أنا جسمٌ حتما، ولَا شيء آخر.. وما روحي إلا كلمة لتعيين حالة الجسد…». الشعر مِحنة يمتزج فيها الفرح والألم.. ولأنه محنة فهو «يظل على الكلمات عتابا، وعلى البياض أكذوبة التسويد، وهو معركة بكل الشك يخوض هزائمها بتعب، ينتصر على خدعة الأفراح المتاحة…» كما يقول صديقه الشاعر والإعلامي إدريس أبو زيد. الشعر أكبر وأعمق من الروح، ذلك لأن الروح، بتعبير نيتشوي للمترجم محمد بن صالح، إفرازٌ بسيط للجسد، بل لعلها مجرد تضخم وهمي للذات، على الإنسان المتيقظ أن يعرف كيف يفضحه…
«مع الحرف» و»مع السفر» تبتدئ المحنة الأولى: «ويسيلُ عذابُ المدادِ/ تدوِّنهُ/ كبدُ الأرضِ عشقا يتيهْ»، «إنها الريحُ/ ترحلُ عبرَ الرمالِ/ وتوهمُ صاحبها بالمُقامْ».. لتليها المحنة الثانية مع «ابن تاشفين» و»ابن زيدون» ومع «شخص» (أحب أن أقرأه كاسم علم مجهول): «باتَ منفضة للشموعِ/ تباركُهُ نسوةٌ قد جلبنَ الفسوخْ»، «وقالوا تمرَّدَ حين انتشَى بالهوَى/ وتملَّكه حبُّ ولادةٍ/ فسَمَا»، «أنتَ لا تملكُ الآن/ غيرَ الخرابْ».. لِتُختمَ المحن بالماء الذي يلتوي ألما، والموجِ الذي يستحيل كفنا، واليمام الذي تخفقُ أوجاعهُ، والنهرِ الذي يعيد المطرُ إليه الحياة، والمقهى الذي يشربُ الثوبُ منا سجائرهُ، والقناعِ الذي نستعيدُ به ما اختفى من غُصصْ، وهكذا هكذا وأكثر، مع الفضاءِ والبابِ الذي وراءهُ ذاكرةٌ من أرقْ، والحلمِ والطائرِ والظلِ والإناءِ الذي ملَّ من رعشَتي فانفلتْ…
محمد عنيبة الحمري لا يميل إلى الحياة في الشعر إلا لأن الشعر يميل إليه في الحياة.. عشقه للحياة في الأرض عشق أفقي، تماما مثل عشق المشائين في الأرض فرحا ورقصا بالأزرق الذي يسمونه أحيانا بالبحر ويسمونه أحيانا أخرى بالسماء… هنا في «تكتبُكَ المِحن»، كما في دواوينه السابقة، بل أكثر، يسيحُ في مفازات الحياة شاعرا فيها بجسدِه، وليس كالمسيح الذي كان يسيحُ فيها طائرا بروحه.
في الشعر كل شيء يسقط في الأرض، ولا شيء يطير في السماء.. و»كل شيء يسقط في الماء، ولا شيء يغوص في الأعماق»…
وأنا أقرأ «تكتبك المحن» شعرت بانجذاب قوي إلى كتابٍ عُمْرُ قراءته لحظة، وهو «لَهَبُ شَمْعَة» للمتأمل علما في كل ما هو شعر غاستون باشلار الذي كانت لديه رغبة كاسحة في شعرنة الوجود. هذا الانجذاب جعلني أنتبه إلى أن الشاعر محمد عنيبة الحمري يكتب في «تكتبك المحن» ملامح سيرة شعرية باللهب، العنصر المادي الذي يلعب دورا أساسيا في عملية الخلق الإبداعي، والقوة النابضة التي تمنح الكائنات الحياة والموت في الأرض. العنصر الذي قال عنه غاستون باشلار إن فعله (يُلهبُ) يجب أن يدخل معجم عَالِمِ النفس، لأنه يتحكم في عالم التعبير.
الانجذاب الذي ذكرته قبل قليل جعلني أيضا أشعر بأنني أمام صور متخيلة هي أحلام يقظة شعرية.. والصور في الإبداع لا تكون متخيلة إلا إذا كانت حياتها لهبا في جسد الشاعر.. ألهذا يقول عنها عاشقها: «كل حالم باللهب هو شاعر متقد». ضوء صغير خافت يحيط بقصيدة داخل الديوان.. يحيط بها ويبدأ الحلم:
«… والحالمُ مُصفرُّ الشفتين
كيفَ النخلةُ
تسكبُ دمْعاً أحمر
وأنا قربَ الماءِ الآسنِ
أعصرُ عمْراً…»
تنطق هذه الصورة الكامنة في الحلم باتحاد الحياة والموت في شفتي الحالم المصفرتين: «دمعٌ أحمر يُسْكبُ وعُمرٌ يُعْصرُ». وحتى لو نظرنا إلى هذه الصورة من زاوية إسْتِطِيقية (جمالية) سنجد تتضمن ثلاثة ألوان: الأصفرُ والأحمرُ والأزرقُ (يعكسه الماء الآسن) بالإضافة إلى الأبيضِ (كامنٌ في العُمْر) والأسْودِ (كامنٌ في عيني الحالم)، وهي ألوانٌ إذا تأملنا جيدا ضوءَ اللهبِ سنجدُها كلَّها كامنةً فيه. كأن لَهَبَ النَّخلةِ هنا هو الذي يحلمُ (أقول النخلة لأنها بدت في الحلم مثل شمعة). يَحلمُ بقلبه الذي في جذع النخلة.. بصيصُ حياةٍ خافتٍ يُرعشُ جَفْنَيْ الحَالمِ فيصحو ليجدَ أنه كان يعصر عُمْراً. ألمٌ صغيرٌ نشعر به في قصيدة «حُلم» (ص. 81).. وكلُّ ألمٍ صغيرٍ، كما يقول غاستونباشلار، هو علامةٌ على عالمٍ يتعذب. هذه العلامة ترن صوتيا في نهاية القصيدة: «لكني/ لم أغمدْ قلباً/ لم أفصم نخلاً/ لم أحلمْ أصلاً».
لنتأمل أيضا صورة اللهب في قصيدة «ماء»: «يلتوِي ألماً/ كالجريحْ»، ومع ذلك يكتفي بالصبيب، ليتساءل الشاعر: «حُرْقةٌ تلكْ/ أمْ رغبةٌ في النحيبْ».
ليس غريبا أن تكون المحن هي أحد العناصر الأساسية، إن لم أقل إنها المادة، التي يرسم بها الشاعر بُورْتْرِيهَهُ طيلة مساره في الحياة والكتابة… ليس غريبا أيضا أن يلتقي الشاعر محمد عنيبة الحمري، وإن على وجه وظهر الغلاف، بالفنان فْرَنْسِيسْ بِيكُون الذي قضى عُمْرَهُ في رسم بورتريهات تحمل بعضا من ملامحه.