ما لا يشبه المرثية..
كي لا ننسى شاعرا قال كلمته ومضى
رغم هذا المسمى فراقا أو الجرح الذي يعتصر الوجود قبل القلب، يظل كل راحل في ذاكرة كل منا رغم مرور الزمن وتحولاته ومهازله، يكفي أن نلملم شتات الرفوف الخلفية في أذهاننا المشوشة باندفاع العابر والزائل والروتيني، الذي يقتل النظر فينا، حتى تستيقظ لحظة استدعاء أبدية. أما الموت، هذا الكائن الخفي الذي يسكن في الظلال ويترصدنا في كل خطوة، تكاد تكون هي الحقيقة الوحيدة التي نعرفها يقيناً في عالم يتغير دون تؤدة. قلّما نلتقي بها وجهًا لوجه، ولكننا نشعر بها في كل لحظة تتسرب من بين أصابعنا، في كل رفة عين، في كل لحظة هروب من الحياة، وفي إرغام على اللجوء إلى جغرافيا بعيدة، قد تكون هنا أو هناك. أيا لنا أن نحتمي من هذه الحتمية إلا باللجوء إلى الذكرى؟ فالذكرى وحدها هي المعقل الذي يحمينا من غزو النسيان، هي الحصن الأخير الذي نستظل فيه ونحن نواجه إعصار الدهر.
الذكرى، يا لها من آلية غريبة ومخاتلة، قد تكون ملاذًا للقلوب العميقة، لكنها في ذات الوقت قد تكون فخًا للفكر الذي يأبى أن يتقدم. نحن نعيش في زمن قلما نجد فيه شيئًا ثابتًا. زمن الحيرة التي تقتات على أفراحنا وعلى آلامنا، تستهلك كل شيء في عجلة لا تنتهي. معه باتت الحياة أكثر هشاشة من أن نتمسك بأحد خيوطها، بينما كل شيء يتساقط بسرعة، مثل أوراق الخريف التي تتداعى مع الرياح الخفيفة، وهكذا يفارقنا الأحبة في زمن ملبد بغيوم التافه والمكرر حد الغثيان. ومع ذلك، لا شيء يغني عن الشعر، ولا شيء يمكنه مقاومة طغيان الزوال سوى قصيدٍ يضع أقدامه في الأرض ويدعو للثبات في أوقات التيه.
لقد كان محمد عنيبة الحمري، واحداً من أولئك الذين عرفوا كيف يتحدون الزمن ويسبحون ضد تيار النسيان. لم يكن الشعر بالنسبة له مجرد مجموعة من الكلمات أو أوزان منمقة، التي كم كسرها تلبية لنداء الشعر لا النظم أو الغنائية. إذ كان الشعر فعل مقاومة ضد كل ما هو زائل، ضد كل ما يحاول محو آثار الوجود، سواء في الحياة أو في الذاكرة. كان الشاعر يرى في اللغة معركة، وفي القصيدة ساحة حرب، وفي الكلمات أسلحة. كان يتحدى النظام، ويأبى أن يُحصر في إطار أو يقبع داخل قوالب تقليدية.
في قلب المدينة البيضاء، حيث يلتقي الليل مع النهار في معركة مستمرة، حيث تلتقي الأرواح الضالة في الأزقة المظلمة، وحيث يهبط بهدوء كل من روح بروميثيوس المشتعلة وروح ديونيزوس المتعطشة لنشوة البقاء قيد الانتشاء السرمدي، كان محمد عنيبة الحمري يكتب قصائده ويرمم أثاث نصوصه ويوظب حقائب سفره البعيد إلى عوالم ما بعد النص، همه الوحيد قول الجميل بلغة أجمل، وتهريب الحب من مهازل قرونه. وهناك في تلك المدينة، حيث تضيء الأنوار في لحظات خاطفة ثم تختفي، كان يزرع بذور الشعر على أرواح العابرين. يكتب عن الحب والموت، عن العزلة والوحدة، عن الأفراح التي تأتي كنسائم عابرة، والأحزان التي تأخذ شكل الجبال الشاهقة. لكن في كل كلمة كان هناك دعوة للمقاومة، كانت قصائده تتحدى الزمان والمكان، وتبقى شاهدة على شجاعة الشاعر في مواجهة ما لا مفر منه.
وفي زحمة المدينة التي لا تهدأ، كان عنيبة الحمري يظل يكتب، حاملا على عاتقه لواء الشعر الذي لن يخضع للأفول. كان يعرف أن الكلمات لا تكتسب قيمتها من طول الزمان الذي تمر فيه، بل من قدرتها على أن تظل حية، قادرة على إحداث التغيير، قادرة على إضاءة ظلمات العالم الذي نعيش فيه. وها هنا يتجسد دور الشعراء؛ لا ليكتبوا فقط عن عالمهم، بل ليخلقوا عوالم جديدة، ليمنحوا للحياة طعماً ومعنى في زمن بات المعنى فيه شيئًا شاحبًا بعيدًا عن العين واليد واللسان، لا آلة خياطة تخيط المعاني ولا جرافة تجمعها من على الأرصفة.
لم يكن عنيبة الحمري في يوم من الأيام يرضى بالاعتراف بالقواعد التي يضعها الدهر، كان من أصدقاء أنبياء الحمر، يقوده دائما ضوء وامض في آخر النفق، الطريق عنده هي الطريقة والمنهج، مؤمن كان بأن السير أبلغ من الوصول، والحب أعمق من القول، والشعر وحده ما يبقى بعد انطفاء شعلة كل منا. كان يصر على أن الشعر ينبغي أن يظل حرا، كما هو حري في الوجود أن يظل غير قابل للترويض. كانت كلماته تتحدى السياقات التقليدية، وتحطم القيود التي يفرضها هذا الذي نسميه المطلق. لم يكن يُملي عليه أحد كيف يكتب أو ما يكتب. كان الشعر بالنسبة له هو الحقيقة الوحيدة التي يبقى أثرها، هو العبارة التي تبقى تتردد في الأذهان بعد أن يتلاشى كل شيء آخر.
ومثلما كان محاربًا للزوال، كان أيضًا محاربًا للزيف. تلك «الموضة» الجديدة، التي تتسلل إلى كل شيء، كانت موضع انتقاد لدى الحمري. كان يعرف أن العالم يستهلك بسرعة كل شيء، حتى أفكارنا، ثم يستهلكها ثانية تحت ضغط السرعة والروتين الممل. كان يدرك أن هناك خطرًا حقيقيًا على الذاكرة، وعلى المعنى، وعلى الشعر نفسه في هذا الزمن الذي يسعى فيه الجميع إلى اختصار الحياة في لحظات فلاشية، في تجارب سريعة، في صور زائفة.
لقد كان الشاعر يواجه هذا الواقع الحزين بمعركة مستمرة، وكل قصيدة كانت بمثابة سيفٍ يقطّع هذا الزمن الذي يسير عكس التيار. كان عنيبة يؤمن بأن الشعر هو الوسيلة الوحيدة للبقاء على قيد الوجود، وأنه لو كان هنالك أمل للبقاء، فهو في النصوص التي لا تهزمها أية وحوش آكلة للبشر والكلمات. كانت قصائده بمثابة فعل مقاومة، لأنها دعوة للتمرد على النسيان، على الفناء، على الزوال.
لذلك كان يعد الليل، الذي يلبس ثوب السكون، هو الملاذ الأجمل. ففي الليل، مثلما في قصائده، تسكن الأحلام، وتكتمل الرؤى، ويُسمح للأفكار أن تلتقي في سلام بعيد عن ضجيج النهار. في ذلك الظلام العميق كان يكتب بحرية، يترك الكلمات تتناثر مثل النجوم في السماء، وتنسج ليلته بالمعاني.
وإذ يحاول هذا الشاعر أن يمضي في درب مجهول، فذلك ليس بحثًا عن الشهرة أو التقدير، بل هو سعي لتحويل الزمان نفسه إلى تجربة شعرية. كانت قصائده تزرع في القلوب بقايا من الأحلام التي لم تُحقق بعد، لكنها مع ذلك تبقى حية في الشعر. أسس محمد عنيبة الحمري رفقة أقرانه أولى خطوات التحديث، فما كان إلا أن اتبعهم كل من اتفق معهم ومن خالف على حد واحد. الشعراء يتبعهم الكل، لا الغاوون فقط.. عنيبة واحد من أوائل المحدثين، الذين شقوا الطريق بمعاول اليد، وعبّدوا المسارات بأرجل مثقلة بمسامير الصراع مع اللغة والتجديد.
لم يبحث شاعر الدار البيضاء الأخير عن أي معنى منسي، ولم يرم قط جهة النسيان، اتبع مسالك العشق، صوب الارتواء بنجيع قصيد أفقه مفتوح على كل الاحتمالات، همه الوحيد أن يرسم معالم نص مشبع بالعنوان، يبقى رغم الخراب، ويظل قائم الأسوار مهما هددت زلازل الزوال. مؤمن هو بأن الشعر لوحده يكفي لدرء سوءة العالم.. لهذا أحب الليل. الليل ستار العشاق ودفتر نكتب عليه حكايات مغامراتنا السرية والشعرية، بحبر أحمر، مثلما تفعل العشيقات وهن يدون ملاحظاتهن بأحمر الشفاه على مرآة حظهن العاثر.. وحظ الشعراء عاثر دائم، غير أن السعادة لا تقع سوى في اتباع السبيل رغم هذا التعثر الأليم.
كان عنيبة (لقب استقاه لربما من عنبه الخاص) محاربًا ضد النسيان، وكذلك كان، محاربًا ضد السرعة المفرطة التي غزت العصر. كان يرفض أن يستهلك العالم في سعيه المحموم وراء المنفلت، سواء في التفكير أو في الحياة اليومية. كانت قصائده بمثابة الهدوء الذي يعيد التوازن إلى هذا الاندفاع المحموم، وكأن الشاعر يصر على أن الطريق وحده هو الهدف، وأن الوصول لا يعني شيئًا إذا لم يمر الإنسان بتجربة حقيقية في المسير.
قد أرسى محمد عنيبة الحمري دعائم الشعر الحديث بالمغرب، رفقة رفقاء الشعر والنشوة الديونيزوسية، كفعل مقاومة ضد الزوال، ضد النسيان، ضد التيه، بلغة خفيفة معتقة بثمالة نصف ليل لا ينتهي. كانت كلماته، مثل سيوفٍ تقاتل ضد الموت، تأبى أن تخضع للزمن. وفي كل قصيدة كانت هناك شهادة على أن الشعر قادر على مواجهة كل شيء، وأنه سيظل حيًا ما دام هناك من يكتبه ويؤمن به.