محنة أستاذ الفلسفة

تلميذات وتلاميذ ثانوية وادي الذهب في الثمانينيات والتسعينيات، في سنوات الجمر والرصاص…كانوا جادين ومجتهدين، ناجحين ومتفوقين…ولكنهم، في نفس الوقت، كانوا غاضبين ومتمردين….ظروف اجتماعية قاهرة جعلتهم يحتجون وينتفضون، يصرخون ويتظاهرون…يعلنون وجودهم ويسجلون مواقفهم…كانت ثانوية وادي الذهب بؤرة الإضرابات وقاطرة الاحتجاجات التلاميذية…هي البداية والمنطلق لكل انتفاضة تلاميذية بوجدة….من هنا كان الاشتغال في هذه الثانوية صعبا جدا….عيون الرقابة لا تنام ..إلصاق التهم بالأساتذة جاهزة…البحث عن الأساتذة المحرضين على الشغب مستمر ودائم . وكان الأمر يقتضي الكثير من الحذر والترقب إبعادا لكل شبهة، وعلى كل أستاذ خصوصا ذلك الذي يحمل صفة سياسي أن يبدي حسن السيرة .
كنا نشتغل في ظروف ملغومة…فتوقيف الأساتذة وقطع أرزاقهم، ومختلف أشكال الترهيب والتخويف… كلها عناصر تدل على استثناء المرحلة بإخفاقاتها ونيرانها.
في الثمانينيات، كنا نحن أساتذة الفلسفة، نعاني من تهمة أخرى، تهمة خطيرة من حيث أبعادها المجتمعية، وامتداداتها الهوياتية، وهي تهمة ألصقت بالفلسفة والفلاسفة العرب المسلمين، منذ لحظة التأسيس إلى القمة ابن رشد، تهمة الكفر والزندقة….الزمن زمن محاصرة العقل والفلسفة ، والهدف هو الإطاحة باليسار، رمز النضال والتغيير…وانضافت إلى أساليب القمع الجسدي أساليب القمع الفكري ، تضييق الخناق على الفلسفة وأساتذتها، وتشجيع المد الأصولي وحركات الإسلام السياسي، تقليص حصص تدريس مادة الفلسفة، إقصاؤها من الجامعة وتعويضها بشعبة الدراسات الإسلامية. وفي الثمانينيات تم تغيير مقرر الفلسفة وإلغاء الكتاب المدرسي الذي أشرف على تأليفه أساتذة أكفاء ومقتدرون: العمري، اسطاتي والمفكر الكبير محمد عابد الجابري، وتم تعويضه بمقرر الفكر الإسلامي والفلسفة بخلفيات وأهداف مغايرة، تدمير اليسار واجتثاث الفكرالعقلاني النقدي…وكنا كأساتذة للفلسفة ومدرسين للفكر الإسلامي حريصين كل الحرص على تجنب كل قراءة تجلب لنا متاعب تهمة الخروج عن الدين… كنا نعلم تلاميذتنا ( فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال ) ونؤكد توافق الدين والفلسفة (فالحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له ) كنا نحمل هم العقل والدفاع عن الفلسفة ، إعادة الاعتبار للفلسفة من خلال رفع التهم التي ألصقت بها لأسباب سياسية وايديولوجية وبغطاءات دينية : الإسلام يحرم الفلسفة بدعوى أنها كفر وإلحاد ، وهذا منتهى الجهل والبعد عن الله تعالى….كنا ندافع عن الفلسفة، ندافع عن أنفسنا، نؤسس للمشروع الديموقراطي الحداثي ونقاوم الأخطار التي تتهدد الإنسان، العقل والحرية….كنا نشعر بقدوم قوى العنف والتدمير…وتلك مسؤولية يتحملها كل من دعم وشجع هيمنة الفكر اللاعقلاني ..أولئك الذين كان يزعجهم خطاب العقل والحرية ، خطاب المنطق والنقد..أولئك الذين كانوا يعتقدون أنه باقتلاع الفلسفة سيتم اقتلاع اليسار والقضاء على قوى التغيير…والآتي من الأيام سيكشف عن أوهامهم ، عن أخطائهم، سيتبين لهم أنهم كانوا يزرعون بذور العنف والإرهاب…وكان الحل هو التصالح مع الفلسفة والاعتراف بشرعية وجودها…وحدها الفلسفة قادرة على زرع قيم الحب والانفتاح، التضامن والتسامح…وحدها قادرة على معانقة الإنسان والجمال.
يناير 1981 ، بعد مرور ثلاثة أشهر في بداية مساري المهني كان الحدث، كان الموعد مع أول اختبار وأول تفتيش…ذات يوم ثلاثاء في الساعة 8 صباحا طرق المدير باب القسم مصحوبا بوافد غريب عن المؤسسة…إنه السيد المفتش، هكذا قدمه وعرفني به رئيس المؤسسة…لا أنكر أنني عشت لحظتها كثيرا من القلق والتوتر… أستاذ في بداية مشواره ، موظف في إطار الخدمة المدنية، حديث العهد بالقسم، تجربة في بداية التأسيس…للمفتش في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المغرب سلطة خاصة، سلطة ترعب وتخيف…لقد كانت المدرسة في هذه المرحلة، مثلها مثل سائر المؤسسات، جهازا من أجهزة الدولة، جهازا للقمع والردع ، للإخضاع والامتثال…وأعترف أن مفتش الفلسفة الأستاذ عبد الرحمان الريح، رحمه الله ، بسلوكاته وممارساته، بتوجيهاته وإرشاداته، حطم كل الأحكام المسبقة والأطروحات الزائفة…معه رسمت صورة جديدة، صورة جميلة للمفتش…هو المعلم والمربي، المرشد والموجه، إنه الأب الروحي…إنه سقراط…عبد الرحمان الريح كان يقطن الرباط ومكلفا كمفتش بكل نيابات الشرق….وكنا ننتظر قدومه وزياراته…فهو المربي والإنسان، الأستاذ والمناضل…لقد كان مفتشا متميزا وممتازا…علمني كثيرا، وشجعني كثيرا ….
اخترت أن أكون مدرسا للفلسفة لأن المدرس هو بوصلة المجتمع…هو من ينير الطريق، يعبدها، يصنع الأمل…لا أحد غيره يستطيع القيام بهده المهمة…المدرس يعقل ويفكر فيبني موقفه الذي انطلاقا منه يمارس ويفعل…موقف المدرس موقف متميز، إنه يختلف كل الاختلاف عن موقف أي موظف آخر . إن موقف المدرس بحكم ممارسته للتربية والتكوين سيصبح موقفا للتلميذ، للتلاميذ، موقفا للآباء، موقفا لجزء كبير من المجتمع. إن المدرس بحكم مهنته حاضر بقوة في المجتمع، حاضر بفكره، بسلوكه، بموقفه وقيمه . إن المدرس، إذن، ليس موظفا عاديا، ولاينبغي له أن يكون كذلك ،فأي موقف يتخذه، أي مبادرة تصدر عنه، كل كلمة ينطق بها، الخطاب الذي يتبناه….كل هذا وأكثر من هذا لا يلزمه هو وحده، بل يلزم المحيط الذي يعيش فيه….تأسيسا على هذا مطروح علينا إشاعة موقف يساهم في البناء والتقدم،موقف المواطنة والحداثة.
إن التواضع من فضائل المدرس، لسبب بسيط هو أن المدرس يعلم تلميذه كون الحقيقة ليست مطلقة …
الحقيقة نطلبها دوما ولا نمسك بها، لا أحد يمتلك الحقيقة انطلاقا من التواضع السقراطي….إن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من طرف المدرس جريمة في حق التلميذ، وما نعيشه اليوم من عنف وإرهاب هو نتيجة لاعتقاد البعض بأن الحقيقة مطلقة . إن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة يولد العنف والتطرف والتسلط، ويصادر قيم الحب والتسامح، ويلغي الحوار والانفتاح ويجذر ثقافة الإلغاء والإقصاء، من هنا وجب على المدرس أن يتعلم ويعلم بأن الحقيقة ننشدها ولانمتلكها، على المدرس أن يتعلم ويعلم بأن زمننا هو زمن انهيار المطلقات. إن التعليم كفعل ضد البؤس الفكري، والجهل والأمية….والممارس لحرفته جندي مسلح بالإيمان بقضيته، بتزهد ونكران الذات، وعشق لمبادئ وقيم إنسانية عليا….


الكاتب : عبد السلام المساوي

  

بتاريخ : 05/05/2022