تعتمد الأعمال الكاملة التي صدرت للشاعر علال الحجام عن منشورات «أنفوبرنت» بفاس، في ثلاثة مجلدات مفهوما مغايرا لما اعتاد عليه القارئ في مثل هذه المؤلفات، التي تهدف من بين ما تهدف إليه إلى تيسير السبيل أمام الدارس والمتتبع للاطلاع على المسار الإبداعي الطويل للشاعر بين دفتي كتاب واحد، مما يشكل توثيقا لتجربة شعرية قد تمتد لمرحلة من المراحل أو لعمر شعري بكامله.
فقد دأب جل الشعراء الذين حرصوا على إخراج أشعارهم وفق هذه الطريقة على نهج التسلسل الزمني في ترتيب دواوينهم، وهو ما يسمح للشاعر بنشر بعض الأعمال التي لم تظهر في وقتها لسبب أو لآخر، ويتيح للقارئ رصد التحولات والمنعطفات التي خضعت لها تلك التجربة الشعرية.
الشاعر علال الحجام ارتأى في هذه الأعمال غير الكاملة أن يتبنى تسلسلا زمنيا عكسيا يقضي بالبدء بآخر إصدار له، وينتهي بأوائل أعماله الشعرية. وهذه ليست سوى سمة واحدة مما يميز هذه الأعمال. أما باقي السمات المميزة لهذا الكتاب الذي يقع في ألف وأربعمائة وسبعين صفحة فيمكن اختصارها في اثنتين رئيستين:
1 ـ إن الأعمال غير الكاملة لعلال الحجام تحمل عنوانا: «ما تبقى من رمق الشفق»، وهو ما يوحي في ظاهره بأن الأمر يتعلق بحصاد العمر الشعري، كما قد يفهم منه أن النصوص التي يحتويها الكتاب هي التي صمدت أمام عملية المحو والكتابة التي من الطبيعي أن تخضع لهما كل قصيدة شعرية. وبما أن الشفق يشير إلى بداية ظهور الشمس أو بداية أفولها، فإن ذلك يعني أن الأشعار التي جمعت بين دفتي الكتاب بأجزائه الثلاثة قد تكون إعلانا لبداية مرحلة شعرية جديدة وهو ما تفصح عنه عبارة «غير الكاملة» في العنوان الفرعي للكتاب.
ومهما يكن من أمر، فإن للعنوان حمولة شعرية تنبني على ثنائية ضدية هي ثنائية الحضور والغياب، وهي من الثنائيات التي تكاد ترافق تجربة الشاعر علال الحجام.
2 ـ كل جزء من الأجزاء الثلاثة التي تضم هذه الأعمال غير الكاملة يحمل عنوانا داخليا يميزه عن غيره، ومن المفترض أنه يسجل انتقالا نوعيا من برزخ شعري إلى آخر.
الجزء الأول: مقام القلق، ويبدأ بآخر ديوان صدر للشاعر هو «رماد سدوم»، وينتهي بديوان «مثل التفاتة ثكلى إلى الوراء» مرورا بـ»وكنات لهديل الغياب».
الجزء الثاني: مقام السؤال، ويتضمن خمسة دواوين مرتبة على الشكل الآتي: «مسودات حلم لا يعرف المهادنة، «ما لم ينقشه الوشم على الشفق»، «اليوم الثامن في الأسبوع»، «صباح إيموري»، «في الساعة العاشقة مساء».
الجزء الثالث: مقام القبول، ويحتوي على الدواوين الأولى للشاعر، مرتبة على الطريقة التالية: «من يعيد لعينيك كحل الندى»، «احتمالات علاء الشعروردي» الذي سبق أن صدر تحت عنوان «احتمالات»، «من توقعات العاشق»، الحلم في نهاية الحداد» وهو أول ديوان نشر للشاعر، وديوان «كحساسين تهرب من قفص مغبرّ» الذي لم يسبق أن نشر منفردا.
المشترك بين هذه العناوين هو «المقام»، وهو مفهوم صوفي يقصد به مرتبة روحية مكتسبة عبر الجهد والالتزام. ولا شك أن الشاعر علال الحجام يستعمل هذا المفهوم بمعنى قريب من معناه الصوفي، إذ إن المقام عنده يشير إلى محطة شعرية تسمح بالانتقال إلى محطة جديدة. وهذا ما يفهم من التدرج العكسي الذي اعتمده والذي يبدأ بمقام القبول وينتهي بمقام القلق، مرورا بمقام السؤال.
ولا شك في أن الشاعر قد استعمل سلطة الناقد وهو يقوم بهذا التصنيف لأشعاره، مما يعني أنه تحول من شاعر إلى قارئ. فقد صنف الدواوين في الأعمال غير الكاملة وفق مقاييس شعرية، أفضت إلى العدول عن ترتيب الدواوين بناء على تواريخ نشرها.
من الطبيعي أن يكون تطور التجربة الشعرية لدى الحجام قد لعب دورا بارزا في بناء سردية شعرية لأعماله غير الكاملة. وعلى الرغم من أن الزمن في بعده التأريخي كانت له يد في ذلك التصنيف، إلا أنه لم يكن لوحده العنصر الحاسم، مما جعل ورود الدواوين غير خاضع لتاريخ صدورها منفردة لأول مرة. وهذا ما يؤكد أن الشاعر احتكم إلى مقاييس فنية وهو يرتب دواوينه انطلاقا من رؤية نقدية، تطمح هذه الدراسة إلى الكشف عن ملامحها الكبرى.
وليس في هذا غرابة لأن لعلال الحجام باعا طويلا في نقد الشعر. فقد ألف في هذا المجال كتابين عن اثنين من كبار الشعراء العرب هما أدونيس الذي خصه بكتاب «خمائل في أرخبيل» ومحمود درويش الذي حظي بكتاب «تحولات تموز في شعر محمود درويش»، بالإضافة إلى إسهامه في كتب مشتركة، ونشره لمقالات يصعب حصرها في مجال نقد الشعر.
إن المتتبع للمسار الشعري للشاعر علال الحجام يدرك أن تجربته الشعرية الطويلة التي عرفت بداياتها في مستهل السبعينيات، لا يمكن بأي حال من الأحوال الإلمام بأبعادها الرؤيوية والجمالية إلا باستحضار التحولات التي عرفتها القصيدة العربية الحديثة بشكل عام والقصيدة المغربية بصفة خاصة، ومن ثم فإن الشاعر الذي يولد من جديد مع كل قصيدة جديدة من الطبيعي أن تزداد تجربته الشعرية عمقا ورسوخا مع صدور كل ديوان شعري.
إن هذا يضفي على الأعمال الشعرية تفاوتا واختلافا يستحيل معه الزج بكل دواوين الحجام الثلاثة عشر في خانة واحدة، وبالتالي فإن التقسيم الذي اعتمده يبدو مبررا، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طول التجربة الذي يفرض تنوعها وغناها الشعريين.
بهذا المعنى يصبح تدخل الشاعر في إعداد أعماله الكاملة للنشر قائما على تقويم ذاتي للتجربة برمتها، وهو ما يشي بالتغيرات التي أدخلت على الدواوين والتي طالت تسلسل صدورها وشملت تعديل بعض عناوينها، وإضافة ديوان لم يقدر له أن يرى النور في زمانه.
ولاختبار الاختيار الذي انحاز إليه الشاعر في صناعة كتاب «ما تبقى من رمق الشفق»، ستعمل هذه القراءة التقديمية على إلقاء نظرة سريعة على ثلاثة دواوين، تم اختيارها بطريقة عشوائية، كل واحد منها ينتمي حسب تصنيف المؤلف إلى مقام من المقامات الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، يحدوها أمل في القبض على الدوافع الشعرية التي كانت وراء ذلك الاختيار.
ولأسباب بيداغوجية صرف ستكون البداية من «مقام القبول» الذي جمع فيه الشاعر الدواوين الخمسة الأولى من شعره، يمثلها ديوان «احتمالات علاء الشعروردي» الذي يحتل موقع الوسط بين الدواوين التي تدخل ضمن هذا المقام.
إن أول ما يثير الانتباه في الديوان هو الإشباع الدلالي الذي يميز كلمة (احتمالات)، التي تضمر معاني مختلفة منها المكابدة والتوجس والترحال والغضب. وعلى الرغم من تفاوت تلك المعاني واختلافها، فإنها تحيل على حقلين مرجعيين، هما الذات في بعدها الوجودي والنص في بعده القرائي التأويلي، وهو ما يعطي للاحتمال بهذا المعنى ميزة الانفتاح على اللانهائي.
إن نظرة على فهرس الديوان تبين أن جميع عناوين القصائد تحيل على واحدة أو أكثر من تلك المعاني. ففي ما يخص الترحال، نقرأ قصيدة تحمل عنوان «أول السفر» وأخرى وسمت بعنوان «باب الرحيل»، وغالبا ما يعبر عن هذا النوع من السفر بقرائن تشير إلى المكان، مثل «إشراقات المدينة الصاخبة»، و»أنا لي ملكوتي». وقد يحال على مكان بعينه عن طريق الإشارة إلى خاصية ملتصقة به وحده كما يعبر عن ذلك عنوان «في ساحة التحرير أمام جدارية فائق حسن». ويمكن رد «سآمركم إذا سمعوا» إلى معنى الغضب.
إن تجليات الحضور المهيمن لكلمة (سفر) في المجموعة تتأكد بمظهرين أساسيين: الأول يتمثل في العناوين الفرعية لبعض القصائد التي اعتمدت تقنية العنوان للتمييز بين مقاطعها، كما نجد في قصيدة «احتمالات الحلم والحصار» التي تتضمن مقطع معنونا بـ»الرحلة». أما الثاني فيكمن في التكرار اللافت للنظر لكلمة (سفر) أو ما يدل عليها في طيات القصائد. بل إن منها ما ترد الكلمة في مطالعها.
ولكن السفر أو ما في معناه، ليس سوى مدخل لبناء شعرية المكان. ويكتسي المكان في الديوان أبعادا مختلفة يجمعها جامع مشترك، يتجلى في أن المكان هو في المحصلة، تجربة ذاتية. بالمعنى الذي يشد المكان إلى الذات إلى الحد الذي يصبح فيه المكان هو الذات نفسها وتنمحي المسافة بين الأنا وموضوعها، وفق علاقة حميمة تكاد تصل إلى درجة الإشراق الصوفي (كلمة إشراق مأخوذة من الديوان). لذلك فإن أغلب القصائد قد كتبت بضمير المتكلم.
وعلى الرغم من أنه يصعب إلى حد ما الحديث عن أمكنة معينة في الديوان، نظرا لما تمت الإشارة إليه من طغيان الذات على المكان مما يعطيه طابعا خاصا، فإنه يمكن أن نجازف فنتحدث عن ثلاثة أنواع من الأمكنة هي: الوطن والمدينة والطبيعة. ونكتفي بوقفة سريعة على المكان/الوطن.
الوطن في «احتمالات علاء الشعروردي» هو مقولة بقدر ما هو حيز جغرافي أو تاريخي، ولذلك فإنه كثيرا ما يختزل في علامات دالة عليه، فهو «خيمة» في «احتمالات الطفولة»، وهو «نخلة» في «احتمالات التراب»، وهو وادي أبي رقراق وسفوح الأطلس في «مكاشفة أولى» مما يجعل من الوطن بصفة خاصة، تكثيفا للتجربة الشعرية. وقد انعكس هذا التنوع للمكان على اللغة الشعرية للديوان، فأدى إلى ثراء المعجم الشعري وتنوع التشكيل اللغوي عبر الصورة الشعرية البعيدة.
لا يتسع المجال لدراسة مفصلة للغة الشعرية في الديوان، لأن ذلك يقتضي متابعة تحليلية دقيقة لقصائد الديوان، ولكن هذا لا يمنع من تسجيل ملاحظات عامة، يمكن إجمالها في ما يلي:
لقد استغل الشاعر الإمكانيات التي يتيحها عروض القصيدة الحديثة، لكي يجعل مكون الوزن ينهض بدوره في البناء اللغوي/الفني للقصيدة من ناحية، ويسير جنبا إلى جنب مع الصورة الشعرية من أجل إحكامه من ناحية ثانية. فإذا تأملنا القصيدة الأولى الأولى من الديوان، فإننا سنلاحظ أن الشاعر قد استغل التقارب الإيقاعي بين المتقارب والمتدارك ليكتب قصيدة من بحرين شعريين. والذي أملى استعمال البحرين معا ليست الرغبة في تكسير قواعد العروض القديم فحسب، بل الطريقة الخاصة في توزيع التفعيلات، وهي طريقة تجعل من الوزن عنصر ربط بين الأبيات، حيث الوقفة العروضية لا تتحقق عند نهاية البيت الواحد، بل إنها قد تمتد إلى أربعة أبيات أو أكثر، ونادرا ما نعثر على وقفة عروضية في بيت واحد.
يضم ديوان «في الساعة العاشقة مساء» الذي أدرج في «مقام السؤال» اثنتين وعشرين قصيدة، أربع عشرة منها كتبت على وزن المتدارك وست على المتقارب وقصيدة واحدة على البسيط وأخرى على الهزج. ويكشف هذا التقسيم عن هيمنة مطلقة لوزني المتدارك والمتقارب، وهما أقرب الأوزان الشعرية إلى النثر لأنهما يعتمدان تفعيلتين قصيرتين.
ولعل هذا الملمح يؤكد من جهة قناعة علال الحجام بأهمية الوزن في القصيدة في هذه المرحلة من تطور تجربته الشعرية، ولكنه في نفس الوقت يجسد إحساسا بالرغبة في اختراق المسافة بين الشعر الموزون وأنماط الكتابة الشعرية الأخرى، في سبيل التخلص من أعباء الأوزان الخليلية، مما يعني أن الشاعر الذي ظل مخلصا للقصيدة الموزونة أصبح يميل إلى استغلال الإمكانات التي تتيحها قصيدة النثر، خاصة وأنه يلجأ إلى تكسير وحدة البيت عن طريق الإكثار من استعمال «التدوير العروضي». ولا شك في أن مثل هذه المظاهر الوزنية المشار إلى بعضها التي نجدها بدرجة أقل في ديوان «احتمالات علاء الشعروردي» تذكي شعرية القصيدة، في صورتها المتكاملة من حيث المكونات والعلاقات التي تنهض بها.
وأول مكونات الشعرية في ديوان «في الساعة العاشقة مساء» في إطار ما سبقت الإشارة إليه، يتمثل في أن علال الحجام قد حاد في هذا الديوان عن القضايا الكبرى التي ظلت تشكل محور اشتغاله في الدواوين السابقة بدرجة متفاوتة، وبات يشكل رؤاه الشعرية من خلال علاقة الذات بالوجود، ولكن عبر التقاط اليومي في تفاصيله وتحولاته.
ولعل هذا كان سببا وراء التركيز على الزمن بمفهومه الشعري، الذي يحيل عليه عنوان الديوان، كما تشهد عليه عناوين الكثير من القصائد، منها «مساء خليل» و»صباح غيلان» و»نار منتصف الليل» و»ظهيرة يوم الأخذ»، وكما توحي بذلك متون القصائد التي لا تخلو أية قصيدة منها من إشارة إلى هاجس «الزمن» باعتباره مؤثثا للوجود.
إن الزمن لا يكتمل كإطار لتشكل الرؤيا الشعرية إلا بالمكان حيث تشكل العلاقة بينهما فضاء تستمد منه الرؤيا وجودها. وبهذا المعنى يتحول الفضاء الشعري بعلاقاته ومكوناته، من مجال محايد إلى بناء يجسد منظومة من القيم، تتحكم في تشكيل الذات في علاقتها بالوجود، ذات الأبعاد الأنطلوجية. ولعل هذا ما يفسر توظيف الشاعر للتراث الصوفي في عدد من قصائد «في الساعة العاشقة مساء»، وهو ما توحي به عناوين من مثل: «تجليات الوجه المقنع» الذي يذكرنا برسالة بن عربي المسومة بكتاب التجليات و»مقامات» التي تحيل على مقامات الصوفية عند شهاب الدين السهروردي و»فاتحة النور»، كما تؤكده كلمات الوجد والشطح والصلوات والبوح وغيرها….
يتميز الجزء الأول من هذه الأعمال غير الكاملة بطول قصائده وانسيابها عبر مقاطع شعرية، تحمل أرقاما متسلسلة أو عناوين أو هما معا، وهي تقنية يلجأ إليها شعراء الحداثة عندما يتعلق الأمر بالانتقال من منعطف إلى آخر في القصيدة، وتدخل ضمن ميثاق القراءة بين الشاعر والقارئ عندما تتحول إلى أداة مساعدة تشعر بتحول ما داخل القصيدة.
إن طول القصائد في «مقام القلق» يتخذ شكلا يسائل العلاقة بين الشعري والسردي، خاصة إذا كان محكوما برؤية مأساوية كما هو الشأن في قصيدة «حولقة» أو عندما يتعلق الآمر بقصيدة ذات نفس أتوبيوغرافي كحال قصيدة «كطفل هناك يشبهني» من ديوان «رماد سدوم».
إن النزعة السردية تكاد تشكل خاصية مهيمنة في دواوين علال الحجام الأخيرة، ولا سيما في «رماد سدوم»، حيث يتخذ السرد شكل تقاطعات تسمح باختراق الأزمنة والأمكنة لتعيد تشكيل الحيوات والأشياء في قالب شعري مؤطر بالصور البلاغية البعيدة، وهو ما أدى إلى تكثيف لغوي نتج عنه غموض دلالي يجعل النص متعدد المعاني، منفتحا على قراءات لا نهائية. هذا على الرغم من أن الشاعر اعتمد في الديوان على الجمل الطويلة التي أملتها الطبيعة السردية للقصيدة.
إن النزعة السردية التي تهيمن على القصائد في «رماد سدوم»، منحت الديوان إمكانية المزاوجة بين شعرية القصيدة الموزونة وشعرية النثر. صحيح أن علال الحجام سبق له أن مارس هذا المزج بين الشعر والنثر في دواوين سابقة، ولكنه في هذا الديوان الأخير حرص بشكل منتظم على أن يجعل من قصيدة النثر، إلى الحد الذي جعله يجهز على مفهوم البيت الشعري الذي فقد كل استقلالية، وأصبح جزءا لا يتجزأ من فقرة لا يكتمل معناها إلا بما سبقها ولحقها.
مدارج الرقي إلى مقامات الشعر.. عن الأعمال غير الكاملة للشاعر علال الحجام
الكاتب : حسن مخافي
بتاريخ : 19/12/2025


