مدينة أزمور تبعث رسائل استغاثة، فهل من منقذ؟

بين اختناق نهرها وتجريف رمالها وانهيار معالمها التاريخية

“نفيسة مثل زينة إسلامية فوق النهر الذي تجري مياهه المتعرجة بسرعة لترتمي في أقرب وقت بين أحضان البحر الأزرق اللون ذي المياه الداكنة والدسمة الفائرة على نحو مكثف، تتمسك أزمور بالصخور وبالأسوار المحمرة هي البيضاء والطاهرة مثل حمامة.” من كتاب (mer sur) للرحالة الفرنسية فيرجيني ايريو المنشور سنة 1933 .

مكون إسلامي وآخر يهودي متجاوران

هنا أزمور، هنا المدينة البيضاء النائمة على ضفاف أم الربيع، أزمور أرض الزيتون البري ولقاء النهر بالبحر، عريقة هي عراقة حضارتها وتاريخها وتراثها وناسها، حين تخطو بين أزقتها الملتوية تشعر وكأنك تسير بين ثنايا التاريخ..هنا توقف الزمن رافضا أن يتقدم، بل قد يعود بنا القهقرى قرونا إلى الوراء، وكأننا في القرن السادس عشر، نكاد نلمح استيفانيكو حاملا متاعه مستعدا لعبور بحر الظلمات، يرفع عينيه نحونا ثم يمضي شاردا كأنه لم يرنا، أهو غاضب من شيء ما، لم يعجبه تمثاله المتهالك الموضوع على ضفاف النهر، ربما ، هو مصطفى الأزموري المغامر الشجاع وأول إفريقي يكتشف الأراضي الجديدة وبالضبط نيو مكسيكو بالقارة الأمريكية، لم يجد أبناء مدينته ما يخلدون به ذكراه إلا عبر منحوتة بئيسة فوق قارب متهالك باهت اللون !
لا عليك يا استيفانيكو فلست وحدك من طالته أيادي الإهمال والنسيان، حتى مدينتك لم تسلم من غدر الزمان، قد تجدا يوما من يعيد إليكما مجدكما وينفض الغبار عن إشعاعكما المنسي.
بين الخطوة والأخرى في حواري هذه المدينة القديمة، تستوقفك بوابات علاها الصدأ لزاوية دينية غاب مرتادوها فأقفلت إلى الأبد، لكنك إن أغمضت عينيك ثانية واحدة قد تتخيل أطيافهم من خلف الجدران، وهم يستعدون لإحياء ليالي السماع والمديح، قد تسمع أصوات المنشدين وهي ترتفع إلى عنان السماء مادحة خير الخلق، أو مرتلة سورا قرآنية بأصوات خاشعة نورانية، بين زاوية وزاوية ينتصب مسجد أو زاوية أخرى، أو ضريح لولي من أولياء الله الذين خطوا فوق كل شبر من هذه الأرض المباركة.. هنا مر أعلام ومثقفون وفنانون تشكيليون ، أولياء صالحون، هاموا في ملكوت الخالق، مسلمون ويهود، سواسية، هنا ضريح لأحد الأولياء الصالحين اليهود تجاوره زاوية دينية للمسلمين، لا فرق بينهم، ولا تمييز، لكنهم يتشابهون في شيء واحد، الإهمال الملاحظ في كل ركن، منازل جدرانها ودعت بياضها منذ أمد بعيد، تعطيك الانطباع أنها على وشك السقوط لكنها لاتزال صامدة صمود أهلها وسكانها الطيبين، أزقة غلبت عليها الحفر والأتربة، عوادي الزمن ظاهرة للعيان وما من منقذ.

النهر والمحيط ..
ولقاء غير مكتمل

نتابع رحلتنا لنصل إلى النهر الخالد القادم من أعالي جبال الأطلس المجيدة، حاملا معه العنفوان والخصب والحياة والأمل والشوق لملاقاة المحيط الأطلسي في عناق أبدي متجدد، لكن يا لخيبة الأمل، لماذا تباطأت خطواته، وقد كان من قبل منسابا هادرا قويا قوة شوقه لمعانقة المحيط، لماذا يسير خجولا متثاقلا وقد علت صفحته ألوان خضراء مقززة، وانبعثت من مياهه روائح نتنة، وأثثت جوانبه الأزبال والأكياس البلاستيكية والقارورات الفارغة؟
أأصبحت مكبا للنفايات والوادي الحار أيها النهر النبيل، أوَصلَ الإهمال واللامبالاة بالإنسان حد تقديمك قربانا لنزواته وإهماله وسوء تدبيره، أهو مستعد لأن يخسرك، وأن يتركك للنسيان وقد تركك بسبب التلوث من قبل سمك “الشابل” الشهير، وأنواع أخرى من الأسماك التي كانت تشكل مورد رزق الصيادين الزموريين، في هذا الزمن الغادر؟
كل شيء ممكن، قد يتحول مصبك يوما ما إلى مجرد بحيرة ذات ماء آسن لا حياة فيها، أو قد تتبخر مياهك وتتحول إلى أثر بعد عين، إن تركت لمصيرك ونفاياتك وتلوثك الذي لا يد لك فيه.
تقول مرافقتي الشاعرة وعضو جمعية “معا أزمور” أمينة الأزهر متحسرة على ما آل إليه النهر من تدهور، متذكرة مجده وما كان عليه من بهاء وصفاء وعنفوان كسرته يد الإنسان المهملة:” الوضع الكارثي الذي يعرفه مصب أم الربيع يرجع سببه إلى سوء تدبيرعملية تجريف الرمال المتراكمة في المصب، حيث كان الغرض من هذه العملية توسعة المصب بسبب ضيقه الناتج عن تراكم رمال الشاطئ القريب منه، هذا التراكم كان نتيجة عدم وصول صبيب المياه العذبة بسبب التهيئات التي عرفتها مختلف السدود الواقعة على حوض نهر أم الربيع، وبدل أن تساهم هذه العملية في معالجة المشاكل المتراكمة من ضيق المصب (تراكم المياه العادمة، تلوث المياه، نفوق الأسماك) فاقمت هذه العملية من الوضعية الكارثية للمصب، على امتداد حوالي 1350000متر مكعب من الرمال، والتي لا تتم إعادتها للبحر بل يتم تسويقها بعين المكان”.
” وقع هذا التجريف كان كارثيا على البيئة، تضيف ابنة أزمور، بالتحديد على رمال الشاطئ القريب من المصب على طول 13 كلم بحيث نتج عن هذا التجريف تخريب كلي لمعظم الشواطئ القريبة من المصب، والتي استبدلت رمالها الناعمة بطبقة من الحصى والصخور”.
وحول سبل حل هذا المشكل والعودة للحالة العادية وضمان التبادلات المائية بين البحر و النهر، تقول أمينة الأزهر: “اقترحت حركة “معا” تنسيقية أزمور القيام بتهيئة مناسبة لمصب نهرأم الربيع على غرار التهيئات المنجزة على مصب نهر سبو بالمهدية ومصب نهر اللوكوس بالعرائش ومصب نهر أبو رقراق بين الرباط وسلا..”.
المتحدثة لم تغفل التطرق إلى ما يعانيه النهر من تلوث وتأثيره المدمر على مكونات الحميلة البيئية للنهر من منبعه إلى مصبه، وهو التلوث الذي يعود سببه للكميات الهائلة من المياه العادمة الآتية من التجمعات السكنية ووحدات صناعية ومناجم وضيعات فلاحية، الممتدة على طول النهر، وهي مخلفات سامة تقذف في النهر دون أية معالجة. وبعامل التراكم يستقبل المصب قسطا كبيرا من هذا التلوث الذي يؤثر سلبا على الوسط البيئي وعلى الوضعية الصحية للسكان وعلى الجانب السوسيو اقتصادي للمنطقة.
لمواجهة هذه المخاطر التي تهدد النهر، بادرت الجهات المسؤولة لإعداد دراسة إنجاز محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي لمدينة أزمور، معتمدة على تقنية البرك المائية lagunage ، وبسبب السلبيات والصعوبات العديدة لهذه التقنية تم إلغاؤها واللجوء إلى خيار تقنية الوحل المنشط ” les boues activées “، التي تتميز بنجاعتها وقدرتها على توفير الكهرباء والسماد العضوي بالإضافة لتوفيرها كذلك للمياه الصالحة للسقي.
الأزمة التي يعيشها مصب أم الربيع دفعت المجتمع المدني للتحرك، مقدما حلولا للخروج من هذا الوضع المزري والمقلق. وفي هذا السياق، تقول أمينة الأزهر: ” قدمت “حركة معا تنسيقية أزمور” مجموعة من التوصيات همت جوانب أربعة تقنية، سوسيو – اقتصادية ومالية.
على المستوى الإداري برزت الحاجة لتوسيع المجال الحضري لمدينة أزمور ليضم مصب أم الربيع إلى حدود السكة الحديدية ومحطة مازاغان السياحية والشاطئ، بالإضافة إلى برمجة دراسة إشكالية مصب أم الربيع ضمن المخططات المديرية التي تقوم بها المؤسسات المعنية، ولكي يتسنى العمل بمخطط تنموي شامل ومتكامل، فهذا الأمر يلزمه عمالة أزمور.
وعلى المستوى التقني قامت التوصية بدراسة تقييم عملية إزالة الوحل بالمصب والتوصية بإطلاق دراسة هيدروديناميكية للمصب لنمذجة سيلان بحر- نهر بغية تحديد كيفية الحفاظ على مستوى الماء ومعرفة التصاميم الهندسية الملائمة لإعادة تأهيل المصب.
وبخصوص معالجة مشكل المياه العادمة فقد تمت التوصية بضرورة التسريع بإطلاق طلب العروض المتعلق بإنجاز محطة معالجة المياه العادمة، بالإضافة إلى إمكانية التخلص من المياه العادمة في البحر كما هو معمول به في الرباط. وفي ما يتعلق بالناحية السوسيو اقتصادية، فخصوصية المنطقة تستوجب وضع وإنجاز مخطط سياحي يعتمد على المؤهلات البيئية والثقافية لجعل المنطقة نقطة جذب للسياح” .

كورنيش النهر الجميل يسبح في المياه العادمة

نواصل تجوالنا الهادئ على كورنيش النهر الجميل لكن يقطع سيرنا تسرب مياه من أحد أنابيب الواد الحار من أعلى السور الأثري المبني بتقنية التابيا المغربية، التي تعتمد على التراب والجير، منسابا من الأعلى إلى الأسفل، على جنبات السور التاريخي، دون خجل، ليشكل بركة نتنة على الممر تقطع الطريق على المارة ( للأمانة ، حين عودتنا مرة أخرى للمكان وجدنا أن الأنبوب تم إصلاحه، لكن المشكل يعود مرارا، بسبب هشاشة وقدم قنوات المياه العادمة التي تصب مباشرة في النهر). نعود أدراجنا متأسفين على منظر يكسر الخاطر قبل العين لنفاجأ بتحطم بعض الحواجز الحديدية التي تطل على النهر مشكلة بذلك خطرا محدقا على المارة خصوصا الصغار إن غاب انتباههم لحظات قد يتعرضون لسقوط مريع لا قدر الله، على أمل أن ينتبه أحد المسؤولين لهذا المشكل ويتم إصلاح الحاجز الحديدي، الذي رغم حداثته وحداثة الكورنيش الذي تمت تهيئته منذ سنوات قليلة إلا أنه لم يرق إلى مستوى التطلعات.

موروث حضاري
لا تخطئه العين

نعود لنرتقي درجات حجرية ستأخذنا بعد عدة متاهات لا يستطيع الخروج منها إلا سكان المدينة الأصليون، إلى وسط المدينة العتيقة لنقف أمام دكاكين صغيرة حولها أصحابها إلى حوانيت للبقالة أو لبيع الأواني البلاستيكية أو الملابس النسائية، بائعون، رجالا أو نساء، يجلسون في صبر وملل باد على الوجوه في انتظار زبون عابر قد يأتي أو قد لا يأتي.
تقول لا فاطمة( اسم مستعار)” الوقت صعيبة وواقفة، وحنا ننتظر فرج الله، قد تمر عدة أيام دون أن نبيع قطعة واحدة، ما بقاوش الكليان، وزادت كورونا سدات كل شي”.
على مقربة منها يجذبنا دكان صغير ذو إضاءة خافتة يعرض بضاعة مختلفة، زاهية الألوان، جميلة المنظر، عبارة عن أثواب وشالات ومناديل حريرية ناعمة الملمس ، نسأل البائع عنها فيجيب أنه يصنعها بنفسه، هو نساج (دراز ) من بين عديدين يؤثثون جنبات المدينة القديمة، يحافظون على حرفتهم ويحاولون انتشالها من براثن النسيان والتلاشي.
عند تجولك بين أزقة هذه المدينة لا يمكن أن تخطئ عينك مظاهر الفن والتراث الزموري الأصيل، على جدران دكاكين علقت لوحات تشكيلية تحكي حياة الزموريين ونمط عيشهم وآمالهم وتوجساتهم.على أرضية ساحة قديمة قرب ولي صالح يهودي”ربي ابراهام مول نيس” رسم على البلاط تنين هو رمز المدينة، على ملابس نسائهم وجلاليبهم وأوانيهم الفخارية.. حكايات من تاريخ لا تزال مستمرة منسابة عبر الزمن تأبى الاندثار والأفول، فوق البوابات القديمة كتابات جميلة بخط مغربي أصيل فوق إحداها كتبت هذه الأبيات الدالة : “ازرع جميلا ولو في غير موضعه..فلن يضيع جميل أينما زرع/ إن الجميل وإن طال الزمان به فليس يحصده إلا الذي زرع “.
كل شيء يوحي أن هذه الأرض أنجبت نساء رجالا عزيمتهم مثل صخر كرانيتي من المستحيل تحطيمه أو النيل منه، طبخهم، تراثهم الموسيقي وأخص بالذكر طرب الملحون، الذي يعتبر من أهم عناصر الثقافة الزمورية، أناملهم المبدعة، التي تلف في الحرير، صناعتهم التقليدية، طريقة تطريزهم، خياطتهم، منتوجاتهم الصوفية، تصارع الزمن في معركة للبقاء لا هوادة فيها في مواجهة غزو المنتجات الصينية الرخيصة لأسواقنا، صناع تقليديون رغم غياب المشتري الذواق لمنتوجاتهم، يأبون إلا الصمود والاستمرار على أمل غد أفضل.

دار الصانع ..نقطة ضوء ومنارة تجذب الزائر التائه

نلج ونحن على مشارف إحدى البوابات التي تطل مباشرة على المدينة الجديدة لأزمور، بناية كانت في ما مضى مدرسة ابتدائية ثم اعدادية ليتم تحويلها مؤخرا(2019) إلى دار للصانع التقليدي الزموري في محاولة للحفاظ على التراث والصناعة التقليدية المحلية، دار جمعت في طابقها الأرضي، عصارة الصناع التقليديين من نجارين وحدادين وخياطي الملابس الجلدية، وقاعة لعرض جميع ما ينتجه هؤلاء الصناع المتميزون، وبالطابق الأول ورشات للصباغة على الزجاج وللطرز الزموري الشهير، وكل ما يتعلق به من خياطة للملابس والقفاطين والجلاليب والتكاشط المغربية الأصيلة، وكل ما يخص تزيين المائدة من مناديل وأغطية مطرزة بكل حب وإتقان، فن توارثته الصانعات المغربيات جيلا عن جيل، ويحاولن تمريره لفتيات في عمر الزهور يرتدن الدار للنهل من بحر معارفهن ويحملن المشعل من بعدهن.تقول أمينة عياش، رئيسة جمعية” الزين والبها”، وهي تعرض علينا ما أنتجته أيدي الصانعات المنتميات إلى الجمعية من تحف فنية رائعة، إنها تعلمت التطريز من والدتها، وبعد مسيرة في دروب الحياة والعمل مغايرة تماما لما تعلمته عادت إلى حرفة والدتها وأسست الجمعية في محاولة للحفاظ على هذا التراث الذي سيتعرض إن لم يتم الاهتمام به للانقراض، خصوصا بعض أنواع الطرز كالطرز الأزموري وطرزة “الزين والبها”، وأنواع أخرى تحافظ عليها الزموريات محافظتهن على أنفسهن وأولادهن.

انتشال المدينة من ركام النسيان..مطلب ملح

المدينة وما تعانيه من إهمال وتشويه لمعالمها وإغفال لدورها كمدينة ذات حضارة ضاربة في القدم، عرفت عدة محطات تاريخية على مر الزمن، بحاجة إلى إرادة قوية وعزيمة أبنائها وبناتها وتظافر جهود الجميع من مسؤولين ومنتخبين ومجتمع مدني لإعادة بعثها من جديد. وفي هذا الصدد قام نهاية الأسبوع الماضي وفد يضم رئيس جهة الدار البيضاء سطات وممثلي “جمعية معا” و”الدار لكبيرة” و”أصدقاء أزمور” وبحضور رئيس المجلس الجماعي لمدينة أزمور بزيارة ميدانية للمدينة القديمة ودار الصانع والقبطانية ومصب النهر في أفق إنصاف أزمور وإعادة الإشعاع إلى معالمها ومحاولة إنقاذ نهرها المكلوم من مصيره البئيس.
زيارة يأمل سكان المدينة ومجتمعها المدني في أن تكون فاتحة خير وأولى الخطوات نحو انتشال مدينتهم من ركام النسيان ووضع قاطرتها على سكة التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي يطمح لها جميع الزموريين .
نغادر المدينة وفي النفس رجاء في أن تعود أزمور إلى سابق عهدها قبل عقود، نفيسة طاهرة بيضاء كحمامة كما وصفتها الرحالة الفرنسية virginie hériot ” في كتابها “في البحر” المنشور سنة1933:
” مآذنها وأضرحتها تشرف على هذه الفوضى البيضاء ما يشكل أحد أجمل المناظر الطبيعية التي سأحتفظ بها عن المغرب. مكثنا وقتا جد قصير هنا ولذا فقد ملأت نظراتي بهذا المشهد الرائع.
لون البحر، لون الصخور، مخابئ القرصان السليمة، لون البيوت، لون السماء ثم مجددا لون البحر.. كلها مناظر وذكريات وتحسر متعدد ستأخذنا معها بغيرة العينين ستأخذنا معها بغيرة القلب”…


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 17/02/2022