مذكرات بيتر موين (*) اقتحام الحياة من شرفة الكتابة

دلتني الصدفة السعيدة على مذكرات بيتر موين، أحد أبطال المقاومة في النرويج. كنت أهم بالخروج من المكتبة البلدية لمدينة بيرغن، فإذا ببضعة كتب جنب البوابة مكتوب عليها: (gratis)، يعني مجانا، لفتت انتباهي، وكان ضمنها كتاب “Petter Moens dagbok“ (مذكرات بيتر موين) الذي كان بالنسبة إلي اكتشافا باهرا، دلني على حياة زاخرة لرجل شهم يفيض الكرم من يديه وقلبه وكل جوارحه. ولأن الكرم لا ينفصل عن الحب، ولأن المحب كريم بالطبيعة، فإن الرجل طعن في الحب حتى بلغ ذروة الكرم، فكان أن قايض حياته بنقيضها في سبيل مجد البلاد. لم يسع إلى الموت، بل الموت هو الذي تعقبه ودبر له ميتة بين سجنين في عمق الماء، حيث قضى غرقا في الثامن من سبتمبر من سنة 1944، على إثر حادث مأساوي تعرضت له في عرض بحر السويد سفينة “فيستفالن”، التي كانت تقله مع آخرين من سجنهم بالمقر المركزي للشرطة بالعاصمة أوسلو (الذي مكثوا فيه سبعة أشهر) إلى أحد سجون الغيستابو بألمانيا.
ما قصة هذا البطل التراجيدي؟ وكيف صنع بطولته المثيرة؟ وما الحكاية الطريفة التي رافقت كتابة مذكراته في السجن؟
أقرأ المذكرات فأقترب من تفاصيل الحكاية. الطريق التي اختارها بيتر موين لم تكن سالكة، ومع ذلك تجب مباركة فعله المقاوم لأنه عنوان آدميته.
تبدأ القصة من حيث كان يجب أن تبدأ: يقتحم الجند الألمان البلد المقدس في التاسع من أبريل من سنة 1940، فيشتعل فتيل المقاومة. كان أمد الكفاح المسلح قصيرا لم يتجاوز الشهرين ليبسط الجند حوافرهم على البلد. لكن وجها آخر للمقاومة سريا ظل مستميتا يؤلب الناس على وجوب دحر الغزاة. بيتر موين نموذج مثال كما يبدو من خلال سيرته الاستثنائية؛ لهذا أقرأ مذكراته وأعيدها مجرورا إليها بفائض الألم فيها، وبالقصة الطريفة وراء كتابتها، ورغبة (ربما لا واعية مني) في أن تترسخ في الذاكرة، كتأريخ لقيمة إنسانية استثنائية تندر بيننا في إقامتنا العابرة في هذه الحياة.
كيف لحلم مشروع أن يقتل صاحبه؟ يقول المثل السائر: “من الحب ما قتل”، وبيتر موين أحب بلدا بكامله من أقصاه إلى أقصاه. أحبه بجباله وسهوله وغاباته الكثيفة وبحره الممتد ومياهه الطالعة من باطن الأرض والهاطلة من ثقوب قديمة في السماء. أحبه بشعبه الواغل في الطيبة والمستبسل عند اللزوم والضرورة، وأحب معه (قبل هذا أو بعده) بيللا Bella، حبيبته الحاضرة بقوة في المذكرات.
بوازع هذا الحب العظيم يندفع بيتر موين طوعا لتمزيق الحجب التي بسطت ظلمتها على أفق البلاد. لم يستجد خدمات مطرقة الإله ثور، بل آمن بمعول الإرادة لديه الذي به كان سيكشط الأثر الغاشم من على الأرض، حيث مضى يذرع الأرض طولا وعرضا معبئا ومحرضا من خلال قنوات سرية تمثلت في عدد من الجرائد والمنشورات، بالإضافة إلى مسؤولية رئاسة التحرير التي أنيطت به بجريدة “ لندن نيوز” كأشهر وأهم الجرائد انتشارا آنذاك. استمات بيتر موين في هذا العمل المقاوم، إلى حين اعتقاله من قبل البوليس السري الألماني (الغيستابو) في الثالث من فبراير سنة 1944.
داخل السجن، وككل معتقلي الحروب، بدأ بيتر موين يهجس بالتوقعات السيئة والاحتمالات المزعجة، فهو في قبضة الغيستابو، وإذن، فهو على مرمى حجر من الموت. لعل هذا الإحساس الذي طغى على بيتر موين هو ما دفعه إلى نشدان الحياة ولو على سبيل رمزيتها. ولتلبية هذه الرغبة اللاشعورية شرع، في الأسبوع الأول من اعتقاله، في كتابة مذكراته. لكن كيف تدبر السجين، وهو صفر اليدين، أمر الكتابة داخل زنزانة باعثة على اليأس وفارغة من أي أمل؟
في تقديم الكتاب الذي أضاء الحكاية، يكتشف القارئ أسرار كتابة هذه المذكرات والطرافة المرتبطة بها. فبيتر موين بضربة حظ نادرة، انتبه إلى وجود دبوس صغير بستارة مسدولة على كوة الزنزانة. من هذا الدبوس الصغير ومن ورق المرحاض البائس صعد الوحي الجميل، إذ شرع بيتر، بصبر كبير وجهد مضن، في الكتابة بتهييء ورق المرحاض وتقطيعه إلى جذاذات صغيرة، ومضى في الكتابة عن طريق ثقب الورق بالدبوس راسما الحروف والكلمات والجمل، (وهذا مثبت بالصور الشمسية التي أخذت كعينات وضمت إلى الكتاب) وكان يستعصي عليه أن يعيد قراءة ما كتب، لأنه كان يكتب كالأعمى في زنزانة معتمة حيث لا شئ يمكن تبينه. وفي كل مرة كان يلف الجذاذات ويضم بعضها إلى بعضها مع ترتيبها وترقيمها، إلى أن صارت بحجم حزن البلاد، فدسها في مكان سري (داخل منفذ للتهوية) حتى لا تراها عين رقيب ناقمة أو تطولها يد عابثة.
كان هذا حدسا لم يخذل صاحبه؛ فقد داهم «زوار الليل» زنزانة بيتر موين واقتادوه إلى حيث لم يكن يعلم. وحدهم أعضاء الغيستابو كانوا يعلمون أنهم باتجاه سجون ألمانيا. أما السر المكنون (المذكرات) فقد ظل سرا حتى انقشاع البلاء عن البلاد.
لم تنته القصة هنا بغرق السفينة وموت من فيها؛ فلئن كان الرجل قد مات جسديا، فقد أضاءت مذكراته درب حياته الرمزية شاهدة على مروره الذي لم يكن مرور الكرام، وعلى حضوره القوي والبليغ في مسرح حياة كانت عصيبة للغاية؛ أما المذكرات فقيض لها أن تنجو من براثن الصليب المعقوف، إذ عثرت عليها الشرطة النرويجية بعد اندحار الألمان، سليمة في مكانها بقناة التهوية بزنزانة بيتر موين، فبدأ السر يتكشف شيئا فشيئا بعد لأي وجهد بالغين، إذ تكبد رجال الشرطة مشقة كبيرة ووقتا مديدا من أجل تمييز الخط وفك شفرات الجذاذات. ولأن الشرطة النرويجية أدركت أنها أمام كنز رمزي ثمين، فقد لجأت إلى تقنيات مختلفة من أجل تبين ملامح المذكرات وحل ما استغلق منها، حتى لا تضيع، وذلك عبر النسخ والقراءة من الخلف والقراءة عبر المرآة وغير ذلك، إلى أن استقامت واستوت كتابا تم نشره في سنة 1949، لينتهي بين أيدي القراء الذين سيقفون أمام محنة حقيقية بدأـت منذ الساعات الأولى من اعتقال رجل كريم رفع العقيرة عاليا بما ملك من أجل إسدال الستار على وجع بلاده.
تستوقف القارئ في هذه المذكرات، اعترافات بيتر موين بما تكبده تحت عنف جلاديه. لقد استمع إليه المحققون منذ أول يوم من اعتقاله وعرضوه للجلد فكان الألم، مثلما يقول موجها خطابه إلى رفيقته بيللا، «فظيعا» لدرجة أنه بات يخاف من «حلقات العقاب المفاجئة» التي يحددها مزاج الجلاد، والتي «تخلف آلاما لا تحتمل»، إلا أنه لم يعد يخاف من الموت، كما يقول في ما خطه في أول تدوينة في الكتاب. وفي حميا هذا الألم، تحضر «بيللا»، الحبيبة، ويطغى عليه إحساس بالذنب إزاءها (كما يقول) كونه «تسبب لها، بدخوله السجن، في الكثير من العذاب»؛ وكان من بين أحلامه «أن يحصل منها على طفل» لو أنه ظل على قيد الحرية والحياة. وعلى أمل أن تصلها صرخته، يخاطبها من خلال عدد من يومياته مخبرا إياها بأنها «تستبد بعقله ووجدانه حتى وهو في عز الوحدة» التي يصفها ب»الثقيلة والصعبة»، وفي غمرة القلق الذي بات مزمنا؛ كما يخبرها وقراءها بأن عدوهما يرغب في أن «تتدنى معنوياته وتموت روحه في السجن»، لكن الروح (يُطمئن بيللا) «تتجدد وتتخصب باستمرار»، كما لم يخف عنها حدسه بأن «كثيرين يفكرون فيه» وهذا يطمئنه ويريح خاطره.
لم ينس بيتر موين وهو يوثق ألم بلاده في هذه المذكرات، أن يحيي ذكرى موت أمه «ذات القلب الرحيم»، ويأتي على ذكر بعض تفاصيل حياتها وكيف كانت تحبه وتفرط، وتدعو له في الصلوات وتكثر، وكيف كانت، بالكرم الذي يفعمها، «تفكر دائما بغيرها» في إيثار لا نظير له.
بهذه المذكرات التي قدر لها، بصدفة عجيبة، أن تنجو من محرقة الغيستابو، شهد بيتر موين على زمنه وأرخ لبطولة لم تكن ادعاء منه، بقدر ما كانت استحقاقا أفشته حياته التي كرسها للكفاح ضد الاستعمار النازي لبلده، ورسخه مآله المأساوي الذي جعله جديرا بهذه البطولة (هو الذي لم يتجاوز الثالثة والأربعين). أما الحياة التي يحياها في ذاكرة أهل بلده، فإنه اقتحمها من شرفة الكتابة.

هامش:

(*) Petter Moens dagbok هذه النسخة مصورة عن النسخة الأصل 1949، وقد تم طبعها وتسفيرها سنة 1988 بالعاصمة أوسلو عن دار النشر Norbok as.


الكاتب : زهير فخري (بيرغن)

  

بتاريخ : 13/06/2025