تقديم
محاولاتي مع بوح سي عبد الرحمان اليوسفي
عندما قررتُ، في سنة 2016، نشر مجموع حلقات «رسالة باريس» للمرحوم مـحمد باهي حرمة، وشرعت مع صديقي أحمد شوقي بنيوب في تجميع موادها من أرشيف صحافتنا ووثائقنا، برزت لنا مواد أخرى ذات أهمية، كانت بدورها تتطلع للنشر، وتتمثل في مداخلات في الثقافة السياسية والذاكرة النضالية للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.
أحيت فيَّ هذه العملية الأمل في تحقيق حلم راودني لفترة طويلة مع السي عبد الرحمان، تقريبا طيلة ما يقارب عقدين من الزمن. حلم موصول باقتناع، كون الرجل قال و كتب ما يكفي، بل كان يسهر شخصيا على تحرير مداخلاته وخطبه ويحرص على انتقاء دقيق للكلمات، وصياغة الرسائل التي كان متفوقا في إعدادها وبعثها إلى أطراف الدولة والمجتمع، فضلا عن أن العديد من الناس والرفاق والأصدقاء الخُلَّص ظلوا يطالبونه بنشر ما تراكم لديه من كتابات.
بادرت إذن إلى تجميع ما في المتناول وأخذت على عاتقي مهمة إصدار هذه المتون، من التاريخ السياسي والفكري لهذا الوطن، وذلك حتى يتمكن المؤرخ والباحث من الرجوع إليها، باعتبارها نتاج أحد الشهود الكبار حول مرحلة طويلة بَصَمَتِ التاريخ المغربي الراهن.
ويرجع اقتناعي بهذا القرار إلى سنوات خلت، حيث إنني كلما التقيت السي عبد الرحمان، كان يثير قضايا وأحداثاً عاشها في الماضي، ويسردها بدقة إلى حد أنني كنت أتلقاها وكلي خوف على ضياعها. كانت ذاكرته خزانا متدفقا لتفاصيل ما جرى.
وكثيرا ما حاولت إقناعه بتدوين سيرته، خصوصا أدواره ومواقفه في الحركة الوطنية، وفي المقاومة وجيش التحرير وفي ما شهدته بلادنا من أحداث جسام بعد استقلالها. وكان يقابل إلحاحي بصمت أو بابتسامته العريضة التي لا تفارقه، والحاملة لكل المعاني والتأويلات التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن.
عندما كثر إلحاحي على ضرورة الكتابة والتدوين على الأقل ولو دون نشر في الوقت الراهن، أَسَرَّ إلي بأن العديد من أصدقائه ومن الصحافيين عرضوا عليه هذا المشروع، لكنه بقي مصرا على تقديره للأمور، هكذا.
خاطبته ذات مرة : «لقد قررت أن أذكرك،كلما ألقيت عليك تحية السلام، بضرورة التدوين»، فأجابني: « وأنا على استعداد لأن أقول لك، وعليكم السلام»!
بقيتُ طيلة مشوار محاولاتي مع بوح السي عبد الرحمان، أتتبع منسوب الوفاء والإخلاص في شخصية الرجل، فهو صاحب نية خالصة، متأن في القول والكتابة، كما قال عنه صديقه الأستاذ الاخضر الإبراهيمي:» إنه الشخص الذي يلوي لسانه سبع مرات قبل أن يتكلم». فهو من صنف السياسيين الذين اعتبرهم الزعيم البريطاني تشرشل، «السياسي الحقيقي يفكر أكثر من مرة قبل أن يصمت».
بقي السي عبد الرحمان بخصاله الأصيلة تلك، إنسانا صبورا متحملا لشدائد الزمن، لا يبوح كتابة إلا بعد تفكير وتأمل، ولا ينطق شفهيا إلا بما يبدو له من إشارات ورموز. ويُخيَّلُ إليك، وهو على هذه الحال، كأنه يملك الدهر كله لتحقيق مراميه!
واصلت مشوار حلمي مع الرجل، وأنا على يقين أن «عناد» السي عبد الرحمان، توأم خصال أخرى فيه، فهو مهذب، أنيق، سلس المعاشرة، نبيل ووفي لنفسه ولأفقه، وكذا لرفاقه ومُحبِّيه.
وفي تفاعلي مع شخصية الرجل بغنى كيميائها، كان أملي يزداد في إمكانية بَوْحِه، وكان علي التزود بمزيد من الصبر، وهو من خصاله، لتحقيق الحلم الذي سعيتُ لأجله على مراحل…
هكذا، شرعت في تجميع واستكمال وتوثيق ما يتصل بإنتاجات السي عبد الرحمان اليوسفي، وهي غزيرة، متنوعة، موصولة بماضيها، بنت زمنها، ومنفتحة على مستقبلها. إنتاجات في الفكر السياسي، صقلها بإبداع وبعد نظر، متفاعلا مع القضايا الكبرى لبلده، على مستوى حقوق الإنسان، والإصلاحات السياسية والدستورية، وبناء رأي عام وازن بشأنها، وصولا إلى تحمل المسؤوليات الأولى في قيادة حزبه وعلى مستوى رئاسة السلطة التنفيذية. وتم تدوين إنتاجاته ذات الطبيعة التحليلية الفكرية الاستراتيجية، على مستوى الجزء الثاني والثالث من هذا الإصدار.
وبقي يراودني ما يتصل بسيرة الرجل، منذ طفولته، فشبابه، وأدواره في الحركة الوطنية ومعركة الاستقلال، نَيْلُه ذلك الإستقلال وبناؤه، وفيما بعد رحيله الاضطراري صوب المنفى لسنوات طويلة، وتفاعله من أوساطه المختلفة، مع أحداث عصره وشخصيات جيله من الكبار، ثم عودته لاحقا إلى وطنه وبقاؤه قريبا من نبض مجتمعه، بمختلف أجياله ومناطقه… وكان بذلك، يفصح عن خصاله الإنسانية الرفيعة.
على مدار جلسات، حاولت أن أتلقى من الرجل، وبصيغ متنوعة، ما يتصل بهذا المستوى، من حيث التدوين المباشر، والتوثيق البعدي، والتسجيل الصوتي… ولأن غايتي من محاولة البوح، كانت تهدف وَصْل ما كتبه الرجل بذاكرته وبحكيه المباشر، وجب علي التحلي بالإنصات والصبر والمثابرة، ككلمات السر في التواصل معه، هو الذي كان دقيقا في أجوبته، ممتدا في التنقيب عما جرى في أزمنة الماضي البعيد، لأزيد من ثمانين سنة. ومن عمق ذاكرته المتيقظة، أمكن استخراج العديد من الوقائع التي عاشها ، وهو في قلب الأحداث وفي مقدمة الجبهات والصفوف، سواء داخل المغرب أو خارجه. وقد تم التوصل إلى هذا البوح الذي يجمع بين السيرة والمسار، والذي تم تعزيزه بشهادات وإفادات إضافية، تضمنها الجزء الأول من الإصدار.
أثناء إعدادي هذا الإصدار، بأجزائه الثلاثة، كنت أتأمل مسيرة هذا الرجل ومنسوب تفاعله، من موقع المجتمع أو الدولة، أو منهما معا، مع السياسة بأعاصيرها، أحداثها، منعرجاتها، هزاتها، محاورها ومنحنياتها.
كان الرجل قائدا من طراز رفيع. وتدل الأجزاء الثلاثة من هذا الإصدار على ذلك. فكثيرا ما استوقفتني مواقف وقرارات وتصرفات وإشارات بدرت عنه، تفصح عن شخصيته، أستحضر بعضها في الفقرات الموالية.
كان يشدني دوما فرحه بيوم 8 مارس من كل سنة، ففضلا عن كونه يصادف يوم ميلاده، كان يمثل بالنسبة إليه لحظة تأمل في نوعية التقدم الذي أحرزته المرأة، وفي طبيعة الصعوبات السوسيوثقافية التي تحول دون تمتعها بحقوقها كاملة. فالرجل، بحكم تربيته ومساره وحسه الحضاري وعمق ثقافته وانخراطه في عصره، بقي دائما مدافعا عن حقوق الإنسان، وفي جوهرها وعمقها قضية المرأة، وذلك في مجتمع مشدود إل جذوره المحافظة. كان سي عبد الرحمان على اقتناع عميق بأنه لا يمكن لهذا البلد التقدم ونصفه معطل أو مقموع.
وبمناسبة إعداد هذا الإصدار، استحضرت، وأنا وقتئذ في المنفى، نهاية التسعينيات من القرن المنصرم، كيف شكل تعيين السي عبد الرحمان وزيرا أولَ حدثا وطنيا ذا بعد دولي، حيث تفاعلت معه الدول الكبرى، التي بعث رؤساؤها رسائل التهنئة إلى ملك البلاد وإلى اليوسفي، وأذكر منها الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا وغيرها من الهيآت والمؤسسات، وكذا عدد وافر من الديمقراطيين وأنصار حقوق الإنسان عبر العالم. كان توليه مسؤولية رئاسة الحكومة، كمعارض بارز، سابقة في العالم العربي، وكان من الأحداث السياسية الكبيرة على المستوى الإفريقي.
وأريد أن أتوقف عند موقف من مواقف الرجل، فأثناء التحضير للانتخابات التشريعية والمحلية لسنة 2002، وكانت آخر ولاية لحكومة التناوب التوافقي التي ترأسها، كانت كل الأحزاب السياسية، بما فيها حزبه، متشبثة بالحفاظ على الترشيح الفردي، فيما أصر السي عبد الرحمان على أن يكون الترشيح باللائحة النسبية هو المعتمد، باعتبارها الأسلوب المأمول للحد من التزوير وشراء الذمم، وتعبيد الطريق، لدخول المرأة المغربية قُبَّة البرلمان، بواسطة لائحة وطنية، تؤسس للمناصفة. كان في ذلك مبدعا ومتفاعلا مع إرادة الملك محمـد السادس الذي كان يرغب في أن تكون هذه الانتخابات، وهي الأولى في عهده، مناسبة للقطع مع أساليب الماضي. كانت لحظة من لحظات المصالحة مع السياسة في العمق.
وأتذكر أيضا، وأنا بصدد إعداد هذا الإصدار، ما رواه لي السيد ادريس جطو، وزير الداخلية آنذاك، وقد كلف بنقل خلاصات استشاراته مع الأحزاب السياسية وتشبثهم بالاقتراع الفردي إلى السي عبد الرحمان، إذ كان يرد عليه هذا الأخير معقبا: «السي ادريس، قل لهم أن يبحثوا عن وزير أول آخر». ومع توالي اللقاءات حول الموضوع نفسه، لم يعد يناديه بالسي ادريس، وأصبح يخاطبه، بصفته الرسمية، بالقول، «السيد وزير الداخلية، ابحثوا لكم عن وزير أول غيري».
وأستحضر بذات الدرجة نوعية تفاعل الرجل مع الأوساط السياسية المغربية، وذلك عندما قدمت القناة الأولى شهادات لقادة سياسيين من بينهم الدكتور عبد الكريم الخطيب. وأثناء حديثه عن مرحلة 1963، تطرق إلى ما عرف بملف مؤامرة 16 يوليوز 1963، التي اتُّهِم بها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وكان من ضمن ما ورد في شهادته أنه تدخل لدى السلطات حتى لا يتعرض عبد الرحمان اليوسفي للتعذيب. وأضاف أنه تم فعلا توفير إقامة خاصة له، بقي فيها إلى أن حان موعد المحاكمة.
علق السي عبد الرحمان باقتضاب، مذكرا بحقيقة ما جرى: « سامح الله الدكتور عبد الكريم الخطيب. لقد اعتقلت كباقي القياديين والمناضلين الاتحاديين، وكان الاستنطاق الأول بمركز الشرطة بالمعاريف بالدار البيضاء، والاستنطاق الثاني بدرب مولاي الشريف سيء الذكر. وفي إحدى جلسات الاستنطاق بهذا المعتقل، رفعوا العصابة عن عيني، وكانت دلالتها لدى الجلادين، أنه عندما يتاح لك التعرف عليهم، فهذا يعني في شريعتهم أنك لن ترى النور بعد ذلك… وفي الوقت ذاته، تقدم إلَيَّ شخص ضخم الجثة أسمر اللون قائلا: «أنا الذي وضعت القنبلة في ديسمبر 1962 التي فجرت «أمبريجيما»، وهي المطبعة التي كانت تطبع فيها صحف حزب الاتحاد الوطني ومنشورات الاتحاد المغربي للشغل. وبعد ذلك، كانت الاستنطاقات الأخرى بدار المقري بالرباط، وما أدراك ما دار المقري! وبعدها تم نقلنا إلى السجن المركزي بالقنيطرة. وعند بداية المحاكمة، حُوِّلْنَا إلى سجن لعلو بالرباط، وقد طالب ممثل النيابة العامة بالحكم علي ب15 سنة سجنا. وكان الحكم النهائي بسنتين مع إيقاف التنفيذ». هكذا فضل السي عبد الرحمن أن يعقب على المرحوم عبد الكريم الخطيب.
وتحضرني شهادة السيدة كريستين السرفاتي، عندما قالت :» التقيت أول مرة عبد الرحمان اليوسفي في الثمانينيات من القرن الماضي بقصر المؤتمرات بجنيف، في إحدى الندوات عن حقوق الإنسان، وكنت وقتها من المتحمسين والمدافعين عن البوليساريو. جلست مع الرجل، فكان المغربي الوحيد الذي شرح لي بيسر ماذا تعني القضية الوطنية بالنسبة للمغاربة. كانت قدرته على الإقناع هي التي غيرت بشكل نهائي مواقفي السابقة حول قضية الصحراء». وكم هو بليغ قول هذه السيدة الفرنسية، الشرسة في دفاعها عن حقوق الإنسان، إزاء من يعتبر السي عبد الرحمان شخصا غامضا ولا يحسن التواصل.
كما تحضرني رواية السيد ادريس جطو، بعد الاجتماع الوزاري الأخير لحكومة التناوب الذي انعقد بمدينة مراكش برئاسة جلالة الملك مـحمد السادس، الذي طلب مقابلة كل من السي عبد الرحمن الوزير الأول، وبعده السيد ادريس جطو، وزير الداخلية.
روى لي السيد جطو: «كنت مع السي عبد الرحمان في قاعة الانتظار بالقصر الملكي، وطلبت منه كوزير أول أن يأذن لي ببضعة أيام لإجراء عملية جراحية، أصبحت جد ضرورية، خصوصا أنني تعبت بعد انتهاء الانتخابات. وكعادته، أجابني بابتسامته العريضة…
توجه السي عبد الرحمان ليستقبله جلالة الملك، وعند خروجه، كان مبتسما كالعادة، سلمت عليه وطلبت منه إذا كان بالإمكان انتظاري للعودة إلى الرباط، كباقي أعضاء الحكومة على متن نفس الطائرة».
وأثناء استقبال الملك للسي عبد الرحمان أخبره بأنه سيعين السيد جطو وزيرا أولَ. التقى السي عبد الرحمان بكافة الوزراء بمطار مراكش وامتطوا الطائرة ووصلوا إلى الرباط، وودع الجميع دون أن يخبر أيا منهم باسم الوزير الأول الجديد المعين.
رجع السي عبد الرحمان إلى بيته، غير ملابسه وتوجه لحضور أمسية شعرية نظمها بيت الشعر في المغرب بقاعة ثريا السقاط بالدار البيضاء حيث ألقى كلمة كانت مبرمجة باسمه ومن موقعه كوزير أول. ثم استمع باقي الوزراء، عبر نشرة الأخبار المسائية، إلى بيان الديوان الملكي بإعفاء اليوسفي وتعيين جطو وزيرا أول.
عليَّ أن أقول بأنه أمكن لحلمي من المحاولة المتكررة المداومة أن يتحقق، وهي أحداث ووقائع وغيرها كثير، تشرح الصفات المتعارف عليها في حق الرجل، سواء في صبره، أناته، هدوئه وغيرها من الخصال التي لخصها قول المهدي بن بركة الشهير بأن «بناء الوطن معركة أقوياء النفوس». وفعلا، بمساره الثري، يعد السي عبد الرحمان أحد كبارهم.
هكذا، يرى هذا الحلم النور مع بوح السي عبد الرحمان، وقد تحقق من خلال مسار إعداد متنوع وخصب، عبر جلسات العمل التي أجريتها معه بالرباط والبيضاء وباريس وكان (بالجنوب الفرنسي). ومن خلال الإعداد الفني لمواد هذا الإصدار بمركز النخيل للدراسات والتدريب والوساطة بمدينة العيون، قبل توجيهها للنشر بالبيضاء. ومما حفزني على الإسراع في عملي، ثراء أجواء إعداد وإصدار رسالة باريس للمرحوم محـمد باهي، وكذا كتاب «وكذلك كان: مذكرات من تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة».
الرباط في فاتح فبراير 2018
النشأة الأولى
رأيت النور يوم 8 مارس من عام 1924، بحي الدْرَادَبْ، الواقع بضواحي مدينة طنجة القديمة، على ضفاف واد مخضر وسط محيط جبلي. عشت طفولتي بهذا الفضاء الجميل، وتلقيت تعليمي الأولي هناك، ونسجت به أجمل الذكريات.كانت المنطقة، وقتئذ، تعيش على إيقاع الحرب الريفية الشهيرة، بقيادة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، كما كانت طنجة خاضعة آنذاك لنظام دولي.
ينحدر والدي من قرية «دار زهيرو»، بمنطقة الفحص التي تبعد بخمس وعشرين كيلومترا عن مدينة طنجة، وقد نزح إلى هذه الأخيرة في شبابه، بحثا عن عمل، ليستقر به المقام في الأخير بجبل طارق، حيث عمل بإحدى القنصليات الأجنبية هناك، وهو ما أكسبه صفة المهاجر التي سيشترك فيها مع أحد أعمامي الذي انتقل بدوره إلى فرنسا. إلا أن هذا الأخير ستفقد العائلة أثره إلى الأبد، وظلت صورته موضوعة فوق إحدى الخزائن التي تؤثث البيت، ذكرى عنه. لكن، بعد فترة من الاشتغال بجبل طارق، عاد والدي الى طنجة للعمل بإحدى الشركات البنكية الجزائرية، كما عمل بعدها في شركات أخرى.
لقد أهله إتقانه للعديد من اللغات، ومعرفته بمبادئ الشريعة الاسلامية ، إلى أن يعمل وكيلا معترفا به لدى السلطات المحلية، حيث كان يتولى، بالأخص، الدفاع عمن يلتجؤون لخدماته كوكيل عنهم أمام القضاء، في النزاعات المدنية وغيرها. قبل أن يعين مُقَدما (وكانت وظيفة تحظى باعتبار في ذلك الوقت، التي باشرها بمكتب الصغير) يلجأ إليه المتخاصمون لفض النزاعات فيما بينهم. وهي الوظيفة التي كانت تتيح له تقديم تقارير يومية إلى المندوب العام، الذي كان يعتبر آنذاك بمثابة خليفة السلطان بمدينة طنجة.
كان والدي يرافق أحيانا المندوب الحاج محمد بن عبد الكريم التازي أو خليفته لأداء صلاة الجمعة، التي كانت تجري من خلال طقوس مخزنية تقليدية، تشد فضول العديد من السياح وتشد انتباه مواطني طنجة.
كنت أجد نفسي، بدوري، مع أقراني مأخوذا بهذه الأجواء، التي كان ينخرط فيها والدي، وهو يرتدي لباس الحاجب الذي كان يميز الطنجويين، كعلامة تفاخر فيما بينهم. ولقد أَهَّله عمله ومكانته ومثابرته، لأن يعتبر ضمن البورجوازية الصغيرة لمدينة طنجة. وبقي كرب أسرة، مكونة من زوجتين، محافظا على تقاليد الحياة الاجتماعية، وكان بيتنا في عيد الأضحى مثلا، يشهد طقوس اقتناء كبشين، وحتى بعد انفصاله عن الزوجة الثانية، ظلت تلك العادة سارية.
تنحدر أمي الحاجة فاطمة الفحصي، من المنطقة ذاتها التي ينحدر منها والدي، وعند زواجهما تركت حياة البادية، لتنخرط في أجواء وعادات اهل طنجة، مستفيدة من اتصالها بجيرانها وخاصة زوجات أصدقاء والدي، الذين كنا نعتبرهم كأعمام لنا.
مثلا، عمي الريفي، الذي ينحدر من الريف، كان أقرب أصدقاء والدي أثناء اشتغالهما في الشركة الجزائرية. ثم صديق آخر لوالدي منحدر من منطقة سوس، متزوج بسيدة يهودية ارتبطت بعلاقة صداقة متينة مع أمي. كان عمي السوسي، هذا، المنحدر من مدينة تافراوت يحترف مهنة صراف التي كان ينفرد بمزاولتها اليهود المغاربة، فشكل استثناء. ومن خلال العلاقة مع العم السوسي، تعايشنا مع طقوس الأعياد اليهودية وشاركناهم احتفالهم دوما بها.
ظلت ذاكرتي تحتفظ أيضا، بتفاصيل علاقتنا بأحد أعمام والدي الذي كان يملك مخبزة وسط مدينة طنجة، وكان قد انخرط هو وزوجته في حياتها المدنية الحديثة وكأنهما طنجاويان أصيلان. كانت الفرحة الكبرى بالنسبة إلي، وكأنها عيد، عندما نقوم بزيارتهم في بيتهم، الذي يطل على البحر، حيث كنا نتمتع بمشاهدة السفن التي تعبر البوغاز وسط مناظر طبيعية جميلة. مثلما كنا ننبهر أمام المعدات والآلات الحديثة التي كانت تستعمل في ميناء طنجة، وكنا نستمتع بما لذ من الطعام والفواكه ومختلف الحلويات.لقد بصمت، حقا طنجة، طفولتي…
8 مارس عيد المرأة
لقد نشأت، إذن، في بيئة موسومة بالتنوع والألفة. كانت بشرة أمي بيضاء اللون وكانت زوجة أبي الثانية سمراء، وكنا في بعض الأحيان نقارن بين هاذين اللونين، من خلال إطلاق وصف:»العنبر والحليب». وهي العبارة التي كانت تعجب والدي كثيرا. وفي غيابه، كان إخواني وأخواتي، وكنت أصغرهم سنا (لأني كنت آخر العنقود ضمن الإخوة الأشقاء)، يمزحون مع زوجة والدي الثانية، قائلين لها: «ماذا جرى للوالد حتى تزوجك، يظهر أنه فقد بصره». فكانت ترد عليهم بلهجة ساخرة: «الجير Le chaux الأبيض يرمى به في أي مكان، بينما العسل يوضع في الأواني الزاهية». ولا يزال رنين كلماتها راسخا في ذاكرتي لغاية الآن.
ظل الاحترام سائدا في معاملاتنا وتربيتنا، وكان والدي، إلى جانب المعلمين الذين تتلمذت على أيديهم، حريصين على تربيتنا على احترام الغير والدفاع عن حقوقه. هكذا، وارتباطا بالوسط الذي نشأت فيه، تحولت نظرتي إلى موضوع التعدد وما يحمله من إهانة للمرأة، وأصبحت أعطي أهمية لاحترام شخصية المرأة والدفاع عنها، داخل مجتمعنا الذكوري. وأصبحت علاقتي بيوم المرأة في 8 مارس، الذي يصادف يوم تاريخ ميلادي، عنوانا لواجب التكريم إزاء المرأة.
ترعرعت وسط عائلة متعددة الأبناء والبنات وهم حسب الترتيب في الولادة: السعدية، عبد السلام، خدوج، محمد، مصطفى، عبدالقادر، زهرة وأنا كإخوة أشقاء، ثم إدريس وآمنة، أخواي من زوجة أبي الثانية. لقد انتقلوا كلهم إلى عفو الله، وكان آخرهم أخي إدريس الذي انتقل الى رحمة الله في يوليوز 1998، وبقيت أنا (كما يقول المرحوم باهي) «أمارس فضيحة الحياة» رغم الأمراض التي عانيت منها، حيث تم استئصال رئتي اليُمْنى، من خلال عمليتين جراحيتين سنة 1955 بمدريد، وفي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، تم اكتشاف المرض الخبيث بي، حيث تمت إزالة 25 سنتمترا من القولون.
كان أخي إدريس مصابا بداء السكري، وقبل وفاته بحوالي سنة زرته، وأثناء الحديث، سألته إن كان يراقب باستمرار نسبة السكر في الدم، فرد بالنفي. وعندما ألححت عليه بشأن القيام بهذه المراقبة الضرورية، ردت زوجته أنه رفض حتى اقتناء الآلة اللازمة لذلك. فعاتبته بأنه لا يليق بمدير مدرسة مثله إهمال صحته هكذا. حينها توجهت للصيدلية لاقتناء جهاز لقياس نسبة السكر في الدم لأخي، فقام الصيدلي بتلقيني طريقة استعماله، فإذا به يكتشف بالصدفة أنني أنا أيضا مصاب بداء السكري. فكانت لحظة استحضرت فيها آثار ومخلفات السجون ومتاعب ضريبة النضال على وضعي الصحي.
فارق والدي الحياة، تغمده الله برحمته، سنة 1938، أي السنة التي حصلت فيها على الشهادة الابتدائية، وعانت أمي معنا كثيرا. لكن معاناتها الأكبر كانت معي، نتيجة غياباتي الطويلة والمتكررة عنها، التي كانت تحول دون رؤية أم لفلذة كبدها. وأذكر أنه بعد سنوات المنفى الطوال التي كنت ضحية لها، استقبلها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، المرحوم الملك الحسن الثاني، الذي كلف الدكتور عبد الكريم الخطيب بإحضارها إلى القصر الملكي ليتناول معها الشاي. قبل انصرافها سألها إن كانت في حاجة لأي شيء، لتجيبه بلهجتها الطنجاوية: «بغيت وْلِيدى» (أريد ولدي). أجابها الملك، رحمه الله، يمكن لابنك أن يعود إلى بلاده متى يشاء والوطن سيرحب به. فظلت أمي متشبثة بالحياة، إلى أن عدت سنة 1980 بعد غياب دام 15 سنة، لتنتقل إلى عفو الله سنة 1981 .
مات في سنة 1943 شقيقاي محمد ومصطفى، فيما اختفى شقيقي عبد السلام ولم يظهر له أي أثر إلى اليوم. كانت هذه الاحداث الأليمة والحزينة، قد نزلت علينا كصواعق متتالية، وكادت أن تثنيني على متابعة دراستي بثانوية مولاي يوسف بالرباط. غير ان باقي افراد العائلة شجعوني على العودة الى مقاعد الدراسة. لقد تحملت امي بجلد، ونحن معها، دفن ابنيها محمد ومصطفى، لكن اختفاء اخي عبد السلام في نفس السنة دون ان نعرف مصيره، هو الذي خلف لدينا جرحا غائرا.
كان أخي عبدالسلام موظفا بنكيا ولديه ولع كبير بالموسيقى الأندلسية، حيث شكل مع مجموعة من الموسيقيين النواة الأولى لمجموعة التمسماني. وأثناء سهراتهم الليلية، كان يمتد بهم النقاش إلى القضايا السياسية، ويتم التركيز على أحداث الساعة، آنذاك، التي كانت تتناولها أغلب الوكالات والصحف. في مقدمتها مصير الحرب العالمية الثانية، ومن سيخرج منها منتصرا، هل دول المحور التي تضم ألمانيا بقيادة هتلر وإيطاليا بقيادة موسيليني وإسبانيا بقيادة فرانكو، أم دول التحالف بقيادة أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
كان الاتجاه الغالب، في تلك الفترة، لدى أغلبية المغاربة البسطاء هو التعاطف مع دول المحور، كرد فعل ضد الاحتلال الفرنسي للمغرب. وكان رفاق عبد السلام في مناقشاتهم يعبرون عن هذا الرأي السائد المساند لتلك الدول، فيما كان أخي يتحداهم ويؤكد لهم أن النصر في النهاية سيعود للحلفاء. ويبدو أن موقفه هذا، وصل إلى الأجهزة الإسبانية، التي قامت باختطافه. علما أنه خلال سنة 1943، كانت قد قامت الدولة الإسبانية باحتلال مدينة طنجة وضتمها لنفوذ احتلالها لشمال المغرب، مما مكنها من بسط سلطتها للقيام بالعديد من الانتهاكات بدون رقابة.
أصبح أخي في عداد لائحة المختفين، فبذلت أمي، مع غياب الأب المتوفى، مجهودات جبارة لمعرفة مصير ابنها، إلى أن شاءت الصدف، أن تخبرها إحدى جاراتنا، أنها شاهدت عبد السلام على متن شاحنة عسكرية إسبانية، مرتديا زي السجن مع العديد من السجناء بمنطقة واد لاو، شمال تطوان.
من طنجة الى مراكش.. أربع نقاط للمراقبة
كان الحصول على الشهادة الابتدائية في نهاية الثلاثينيات يعتبر إنجازا هاما، ويفتح أمام الحاصل عليها أبواب الوظيفة العمومية، لأن أعمار أغلبية التلاميذ، كانت آنذاك تقترب من العشرين سنة، وكنا أقلية تقل أعمارنا عن 14 سنة.
عند نجاحي في امتحانات الشهادة الابتدائية، كانت لدي رغبة لإتمام دراسة السلك الثانوي بثانوية مولاي يوسف بالرباط، ومما زاد من هذه الرغبة إلحاح وتشجيعات إخوتي على تحقيقها. ولكي أتمكن من متابعة دراستي، كان من الضروري الحصول على منحة دراسية تضمن لي مأوى آمنا بداخلية الثانوية، التي جرت العادة أن تمنح بشكل تلقائي لكل حاصل على تلك الشهادة، بمجرد أن يتقدم بطلب عادي في هذا الشأن. إلا أنه تقرر في تلك السنة، إجراء مباراة لطالبي المنحة الدراسية، وبالفعل شاركت في اجتيازها، وبالرغم من أنني كنت من ضمن الأوائل، فقد رُفض طلبي بحجة أن وثائق الملف تتضمن مهنة والدي، على أساس أنه من «الملاك». لأنه بالإضافة إلى البيت الذي كنا نسكنه، كان أبي يملك بيتا آخرا، يؤجره لإدارة الموارد العامة التي كانت تستعمله كمدرسة، وفيها تلقيت دراستي بالتعليم الأولى.
أثار قرار الرفض ذاك حفيظة مندوب إدارة التعليم بطنجة، خاصة عندما لاحظ أن لائحة المقبولين تضم العديد من أولاد القياد وكبار الملاكين في منطقة الغرب، الأمر الذي خلف لديه موجة من الغضب، حيث كتب رسالة احتجاج إلى مدير التعليم الثانوي المسؤول عن توزيع المنح السيد «لوسيان بايLucien PAYE «، متسائلا كيف يمكن أن تعتبر إدارته طفلا، يتيم الأب مليونيرا، وهو في الحقيقة مجرد تلميذ مجتهد فقد والده، ولديه رغبة في إتمام دراسته. قائلا «بقراركم الجائر هذا، أصدرتم عليه حكما بعدم متابعة دراسته الثانوية». فاضطر السيد «لوسيان باي» أمام هذا الإلحاح أن يراجع قراره، لكن دون أن يسجل عليه تراجع ما. فقد أخبر مندوب التعليم بطنجة بعدم وجود أي إمكانية لمتابعة دراستي بثانوية مولاي يوسف بالرباط، ولكن إذا أردت التوجه إلى مدينة مراكش، فلا مانع في ذلك. ودون أن يستشير معي السيد المندوب رد عليه قائلا، إنني مستعد للذهاب إلى أية وجهة يختارونها. هكذا، وجدت نفسي في سن طفولة مبكرة، أنتقل وحيدا من مدينة طنجة إلى مراكش لمتابعة دراستي في المرحلة الثانوية.
قبل بداية الرحلة، كان عَلَيَّ اجتياز العديد من العراقيل الإدارية، كالحصول على جواز السفر وطلب التأشيرة من القنصلية العامة الإسبانية في طنجة، حتى يتسنى لي مغادرة طنجة ثم عبور المنطقة الشمالية الخاضعة للنفوذ الإسباني. ثم الحصول على تأشيرة ثانية من القنصلية العامة الفرنسية، لأتمكن من عبور المناطق الجنوبية التي كانت ترزح تحت الحماية الفرنسية. وفي يوم السفر، كان علي أن أقف على الأقل أمام أربعة شبابيك في نقاط المراقبة، لأختم جواز سفري من طرف السلطات الأمنية، وأن أفتح حقائبي أربع مرات أخرى للتفتيش من طرف المراقبة الجمركية. ورغم صغر سني، كان ينتابني شعور بالإهانة وأنا أخضع للمراقبة والتفتيش بصفة متكررة، من طرف أجانب وبطريقة سلطوية، مما دفعني لطرح العديد من الأسئلة على نفسي، حول المضايقات التي كانت تواجهني، فقط من أجل التنقل لغرض إتمام دراستي الثانوية في بلدي ووطني المغرب.
كما كنت أتساءل حول تقسيم التراب الوطني بين قوتين أجنبيتين. طبعا، لم يسعفني سني آنذاك للإجابة بشكل دقيق عن العديد من الأسئلة تلك التي كانت راودتني، لكنها ظلت ساكنة بداخلي. ومع تنامي الوعي، بدأت أتلمس أجوبة لما يحدث، حول الاستعمار، وحول التفريط في وحدة التراب الوطني، وحول عرقلة حرية التنقل، وحول الحق في التمدرس وأخيرا حول الحق في المقاومة ومناهضة كل التجاوزات، بدءا بالاستنكار والاحتجاج والإضراب إلى المقاومة.
بعد رحلتي، بطول مسافتها وصعوبة مسالكها، من طنجة إلى مراكش، اعترضتني أول صعوبة منذ اليوم الأول من وصولي، حيث تعجبت من شكل تواصل زملائي، سواء في القسم، أو الذين أتقاسم معهم المبيت في داخلية الثانوية. فقد كانوا جميعا إما من مدينة مراكش أو من منطقة سوس، بينما كنت الوحيد القادم من طنجة، مختلفا بلهجتي الشمالية، ذات الرنة غير الواضحة لدى زملائي، والتي كانت تثير لديهم الاستغراب والضحك في غالب الأحيان. وكان إحساسي مماثلا عند سماعي لهجتهم. لم يكن هذا الاستغراب والضحك يندرج في باب الاستخفاف أو التهكم على الأخر، بل كان من باب الفضول والبحث والمعرفة. فقد كان زملائي يكتشفون لأول مرة اللهجة الشمالية، وكانت كلمة «القلاينة»، أي الأرانب، تثير لديهم موجة من الضحك. وبالنسبة لي، كنت أسمع لأول مرة عبارة «دْرُوكْ» المراكشية (أي الآن)، وهو ما أثار لدي الضحك نفسه.
في تلك المرحلة، كانت المناطق والجهات لا تزال منغلقة على نفسها، بسبب عدم انتشار الطرق وضعف وسائل النقل وانعدام وسائل التواصل من إذاعة وتلفزة ومسرح وسينما وغيرها من الأدوات، التي تلعب دورا أساسيا في التمازج والاختلاط ومحو الفوارق اللهجاتية… إلخ.
تنظيم أول إضراب
نسجت، في فترة وجيزة علاقة صداقة مع العديد من الزملاء التلاميذ، كما ساهمت في تنظيم أول إضراب في الثانوية، ولم يكن سياسيا، بل كان احتجاجا على قرار ظالم صادر عن المراقب العام الذي أراد أن يعاقب كافة التلاميذ بدعوى أن أحدهم بَصَقَ على قِطْعة من الخبز. وقد رفضنا محتجين ضد هذه العقوبة، مؤكدين أنه لن يتجرأ أي مغربي أن يبصق على قطعة من الخبز، وهذا أمر مترسخ في تقاليدنا وثقافتنا، خاصة في تلك المرحلة. بعد التأكد من الأمر، اتضح أن المشكل يتعلق بقطعة صغيرة من الملح لم يتم ذوبانها كلية داخل العجينة، فطفت على سطـح الخبز وبَدَتْ كأنها بصقة. لكن الشيء الذي أَثَّرَ فيَّ آنذاك، هو العتاب الذي تلقيته من المدير السيد « دُوفِرْدَان Deverdan»، الذي كنت ولا أزال، أكن له احتراما كبيرا، ، حيث خاطبني موجها كلامه إلي، كما لو أنني المسؤول عما حدث، قائلا: «من حقكم أن تحتجوا ضد قرار غير منصف، ولكن أن تعبئوا كل المدرسة بما فيها تلاميذ الأقسام الابتدائية للقيام، بأول إضراب في المدرسة، فأنتم تفتحون السبل أمام الآخرين مستقبلا، الذين كلما أرادوا الاحتجاج سيشنون إضرابا».
كنا نقوم، طيلة متابعتي للدراسة في مدينة مراكش وأثناء العطلة الأسبوعية والعطل المدرسية الأخرى، برحلات إلى ضواحيها. كما كنا نقوم بزيارة كلية ابن يوسف ونتجول بشوارع المدينة، وغالبا ما كنا نمر أمام إقامة الباشا الكلاوي الذي كان يحكم مدينة مراكش ونواحيها بقبضة من حديد، حيث كانت تصلنا العديد من الأصداء عن كيفية ممارسته للسلطة كباشا، وقساوته التي كان يتحدث عنها الجميع. فكنت أقارن بين هذا السلوك الذي يطبع سلطة التهامي الكلاوي مع السلوك الذي كان يمارسه المندوب بن عبد القادرالتازي بمدينة طنجة، سواء التازي الأب أو التازي الإبن الذي ورث عن أبيه هذا المنصب، فقد كان يعامل الناس بإنصاف واحترام، ويعطي لكل ذي حق حقه. حتى في الحالة التي يعم فيها التوتر والقمع أغلبية أنحاء المغرب، ظلت طنجة في منأى عن هذه الظواهر.
أسرتني جاذبية مراكش الساحرة لدرجة أنه في نهاية السنة بعد الإعلان عن النتائج النهائية، استدعاني السيد المدير قائلا: « السيد اليوسفي، لقد نجحت هذه السنة وبما أنك من طنجة وللتخفيف عنك من طول المسافة سأبعث بملفك إلى الرباط لمتابعة دراستك بثانوية مولاي يوسف ابتداء من السنة القادمة». شكرت له حسن عنايته وأبديت رغبتي في مواصلة متابعة دراستي بمدينة مراكش التي استأنست بها وارتحت للمستوى الدراسي الجيد فيها. وكم كنت سعيدا عندما اقنعت السيد المدير بالبقاء في مراكش، حفاظا على العلاقات الإنسانية والصداقات التي ربطتها مع العديد من الزملاء، الذين أذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر، محمـد بنهيمة الذي سيصبح وزيرا للخارجية، والسيد محمـد الشياظمي وقد أصبح أستاذا مرموقا وأمينا عاما للبرلمان. وعائلة سكيرج (وهم كثر)، والأستاذ امحمـد بوستة الذي كنا نقتسم معا طاولة الدراسة طيلة السنة الأولى، قبل أن نفترق لأنه انتقل في السنة الثانية لمتابعة دراسته بالرباط، غير أننا سنلتقي لاحقا، حول ملفات وطنية ولحظات تاريخية، كان أبرزها ميلاد الكتلة الديمقراطية في بدايات التسعينيات من القرن الماضي.
أول لقاء لي مع عبد الرحيم بوعبيد
استمر هذا النشاط الحزبي والجمعوي في مدينة الدار البيضاء، من شهر يوليوز 1944 إلى غاية نهاية السنة الدراسية 1949. وإلى جانب هذا العمل التطوعي، كنت أمارس مهنة التعليم في المدارس الحرة لسد الحاجات الضرورية اليومية، وفي نفس الوقت، كنت أثابر على متابعة دراستي، حيث اجتزت امتحاني الباكالوريا الأولى والثانية بنجاح، وتسجلت بكلية الحقوق وتمكنت من اجتياز امتحانات السنة الأولى والثانية بها بنجاح أيضا. طيلة هذه الفترة كنت اشتغل كأستاذ أناضل بالنهار، وفي المساء كنت أحضر الدروس الليلية، وبفضلها استطعت الحصول على شهادتي الباكالوريا وبلوغ السنة الثانية في كلية الحقوق. لأن إدارة ثانوية مولاي يوسف بالرباط رفضت تحويل ملفي المدرسي لأية ثانوية بمدينة الدارالبيضاء، وتشبثت بهاذ الرفض دون إعطاء أي مبرر. وعندما كنت أستعد سنة 1949، للتسجيل في السنة الثالثة والأخيرة بالكلية، ألح علي الإخوان في الحزب، أن أتوجه إلى فرنسا، لإنهاء دراستي الجامعية وكان أكثرهم إلحاحا، المرحوم الحوس الباز. وهذا ما قمت به فعلا، ولا يزال تاريخ السفر لباريس لمتابعة السنة الجامعية الأخيرة في كلية الحقوق عالقا بذهني، لأنه يصادف اليوم الذي سقطت فيه الطائرة الفرنسية بجزر «الأصور» التابعة للبرتغال بالمحيط الأطلسي في رحلتها بين باريس ونيويورك وكان من ضمن ضحايا الحادث، بطل الملاكمة الفرنسي ابن الدار البيضاء «مارسيل سيردان» Marcel Cerdan.
هناك التقيت لأول مرة، عبد الرحيم بوعبيد سنة 1949-1950، عندما وصلت إلى فرنسا لإتمام دراستي هناك، وكنت على علم أن هذا الأخير مع المهدي بنبركة، من الجيل الجديد والحديث من قياديي الحزب. كان عبد الرحيم، قد اعتقل سنة 1944 حيث قضى سنتين في السجن، ثم عاد بعدها إلى باريس لإتمام دراسته، وكان أيضا بالإضافة إلى ذلك، المسؤول الأساسي كممثل لحزب الاستقلال ويرأس فريق المناضلين الذين كانوا على اتصال دائم مع القادة السياسيين الفرنسيين والصحافيين.
كان من ضمن هذه المجموعة التي يشرف عليها عبد الرحيم بوعبيد، كل من عبد اللطيف بنجلون، بومهدي، مولاي أحمد العلوي، وغيرهم. وكانت من مهامهم الأساسية، أولا الاتصال بالجالية المغربية الموجودة بفرنسا والقيام بمحاربة الأمية في وسط العمال المغاربيين، والعمل على تكوينهم الوطني والسياسي، ومساعدتهم على حل مشاكلهم والاتصال بالعديد من الصحف والمجلات الفرنسية لتحسيسهم بنضالات الشعب المغربي وطموحاته إلى الاستقلال. ومن بين هذه الجرائد في تلك المرحلة «Franc-tireur»، حيث كان من ضمن طاقمها صديقنا Jean Rous، وجريدة «Combat» التي عوضت فيما بعد ب «France Observateur»، التي كان يشرف عليها Albert Camus وصديقنا Bourdet. وكان هناك أيضا Claude Estier، الذي يعمل بجريدة «laube»، التي كانت جريدة الديمقراطيين المسيحيين والتي كان يديرها موريس شومان Maurice Schuman. وكانت هناك جريدة «le Populaire» التي يشرف عليها SFIO (المجموعة الفرنسية ضمن الأممية الإشتراكية).
كان من ضمن مهام عبد الرحيم بوعبيد، الاتصال بالقادة السياسيين والبرلمانيين وممثلي الأحزاب التقدمية لوضعهم بشكل دائم في صورة آخر تطورات الأحداث التي يشهدها المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، وتشجيعهم على القيام بمبادرات تجاه السلطات الفرنسية، لوضع حد لعهد الحماية والاستعمار، والتنديد بالممارسات القمعية التي تمارسها تجاه مناضلي الحركة الوطنية في المغرب.
كانت باريس في تلك الفترة عاصمة دولية، حيث كانت تنعقد بها الجمعيات العامة للأمم المتحدة. ففي سنة 1948، عقدت الأمم المتحدة جمعها السنوي من أجل اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكم كانت هذه المناسبة فرصة للمناضلين المغاربة، الذين حضروا وفي مقدمتهم المهدي بنبركة، للقيام بالاتصال بوفود الدول المشاركة للتعريف بالقضية الوطنية ونضالات الشعب المغربي، وفضح الانتهاكات التي تقوم بها السلطات الاستعمارية ،ضد مطالب الشعب المغربي في الحصول على حقوقه المشروعة، واستمرار هذه السلطات في انتهاك حقوق الإنسان في المغرب.
عقدت الأمم المتحدة ،مرة أخرى، الدورة السنوية العادية لجمعية العامة بباريس، وكنت حاضرا في تلك الفترة بالعاصمة الفرنسية. فكانت تلك الجمعية، بالنسبة لنا، مناسبة للتعريف بمطالب الشعب المغربي وشرح مواقفنا، بل ذهبنا إلى درجة أننا طالبنا بأن تدرج بجدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة نقطة خاصة بوضعية المغرب، وقد ساعدنا في هذا الطرح، الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك السيد عبد الرحمان عزام، وكنت أنا المكلف بالتنسيق معه في هذا المجال، وقد رحب بنا، وقدم لنا العديد من المساعدات. كنت أسكن في فندق صغير في الحي اللاتيني، وكان الجمع منعقدا في قصر فخم هو قصر شارلو Palais de Charlloux وقد ارتأى السيد عبد الرحمان عزام أن يستضيفني في الفندق الفخم جورج الخامس (Georges v )، الذي يقيم فيه حتى تكون لي الفرصة باستمرار للاتصال بالوفود وطرح القضية المغربية. ورغم أننا لم نتوفق في تسجيل قضية المغرب ضمن جدول الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلا أننا استطعنا بفضل تواجدي الشخصي بالفندق، إيصال مطالب الشعب المغربي إلى العديد من الوفود والشخصيات والصحفيين. ويرجع الفضل في الحقيقة الى السيد عبد الرحمان عزام باشا، اول امين عام للجامعة العربية.
الانتخابات المحلية والمؤامرة
أعلنت وزارة الداخلية عن إجراء الانتخابات البلدية والقروية بتاريخ 28 يوليوز 1963. ومنذ فاتح يونيو من نفس السنة، شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة في صفوف مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقد امتدت هذه الحملة لتشمل بعض قيادات حزب الاستقلال والحزب الشيوعي المغربي الذي كان ممنوعا تماما.
بلغت هذه الحملة أَوْجَها أثناء حملة الانتخابات التشريعية، غير أن نتائجها الفعلية التي زورت، أكدت أن نتائج تلك الحملة كانت عكس ما أريد منها من قبل الإدارة. وأمام تلك الحملة الشرسة فُتح نقاش داخل قيادة الاتحاد حول الاستمرار في المشاركة في الانتخابات أو الانسحاب منها، خاصة بعد أن أكدت فروع الاتحاد من مختلف مناطق المغرب أنه أصبح من الصعب عليهم مواصلة التحضير للانتخابات، أمام حملات القمع والحصار الذي تمارسه الأجهزة تجاههم، في الوقت الذي تقوم السلطات المحلية بحملة علنية ومفضوحة لعناصر جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية.
أمام هذا الوضع ، بدأ التفكير في عدم المشاركة في الانتخابات البلدية والقروية، ودعت الأمانة العامة لحزب الاتحاد لعقد اجتماع اللجنة المركزية، يوم 16 يوليوز 1963، بمقر الحزب بالدار البيضاء للبت في القرار النهائي. كان النقاش يدور حول مشاركة الحزب من عدمه في تلك الاستحقاقات، وفجأة قامت قوات الأمن بتطويق مقر الاجتماع وتم اعتقال مناضلي الحزب بأمر من وزير الداخلية السيد أحمد الحمياني، الذي عوض السيد رضا كديرة في يونيو 1963، وتحت إشراف مدير الأمن الكولونيل محمد أوفقير، بحجة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي.
كان من حسن حظنا وجود صحافيين يتابعان أطوار النقاش الدائر داخل اللجنة المركزية للحزب بكل شفافية هما: أندري أزولاي (المستشار الحالي لصاحب الجلالة)، وصحافي آخر أمريكي، اسمه «دجون كيلي»، توفي قبل بضع سنوات باليونان. بل تم اعتقال أندري آزولاي، بعد أن نبهه عبد الرحيم بوعبيد قبل الإجتماع أنه في حال دخل إلى الإجتماع، قد يطاله الإعتقال هو أيضا، وحين نقلنا إلى مقر المديرية المركزية للأمن بالدار البيضاء بشارع إبراهيم الروداني وضع معي في زنزانة واحدة.
تلى ذلك حملة اعتقالات واسعة، شملت قيادة المقاومة وجيش التحرير وقادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والمناضلين النقابيين. ورافق هذه الاعتقالات مختلف أشكال التعذيب خاصة بمركز المعاريف ومعتقل درب مولاي الشريف بمدينة الدارالبيضاء، ودار المقري بمدينة الرباط، حيث ذاق الضحايا مختلف أشكال التنكيل والتعذيب الجسدي والنفسي.
لكن، في بداية تلك الحملة الشرسة، تم إطلاق سراح عبد الرحيم بوعبيد الذي اتخذ بمعية ما تبقى من قيادة الحزب قرار عدم المشاركة في الانتخابات البلدية والقروية، وهو نفس الموقف الذي اتخذه حزب الاستقلال والحزب الشيوعي المغربي، الذي كان ممنوعا آنذاك، كما نادت المنظمات النقابية الطلابية للوقوف ضد هذه «الديمقراطية المزورة».
وتمت مراسلة الملك الحسن الثاني احتجاجا على الاعتقالات التي طالت قيادة الاتحاد، كما أصدرت نقابة الصحافة بيانا تدين فيه مجموعة من الممارسات من قبيل اعتقال الصحافيين، حجز الصحف، مثول البعض أمام المحاكم وشجب كل الأساليب التي تستعمل لخنق حرية التعبير.
لقد أشرف كل من الكولونيل محمد أوفقير، مدير الأمن الوطني آنذاك، والرائد أحمد الدليمي، على استنطاق قادة المقاومة ومناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث استعملت كل أساليب التعذيب الهمجية لانتزاع الاعترافات من الضحايا لدرجة، أنه تم نشر تسجيل صوتي للفقيه محمد البصري على أمواج الإذاعة الوطنية. وتم الضغط على مومن الديوري بغرض أن يجعلوا منه أحد شهود الإثبات باعترافات مكشوفة، وتصوير عملية استخراج الأسلحة من إحدى الضيعات، وغيرها من الوسائل التي من شأنها إثبات وجود مؤامرة.
تم تقديم حوالي 100 مناضل أمام المحكمة الجنائية بالرباط، بتهمة المس بالأمن الداخلي والخارجي، ومحاولة اغتيال ولي العهد والتآمر على سلامة الدولة، حيث تم تجهيز التهم وتلفيقها، بطريقة مبتذلة ضد كل ناشط سياسي عَبَّرَ عن رأي مخالف.
تجدر الإشارة أيضا، أنه في بداية يونيو 1963، مباشرة بعد الانتخابات التشريعية، تم اعتقال بعض قادة حزب الاستقلال، أذكر منهم منصور النجاعي، أحمد الشرقاوي، عبد العزيز الكوهن ومـحمد بالوارث، وقد وجهت إليهم تهمة المس بالأمن الخارجي للدولة، بدون أي سبب فقط لأنهم كاتبوا السفارة الأمريكية بالرباط يحتجون على استعمال المواد الغذائية التي تقدم كمساعدة للشعب المغربي، التي يتم استغلالها لفائدة البعض أثناء الحملة الانتخابية. لهذا السبب قضوا بالسجن أزيد من شهرين، قبل أن يتمتعوا بالسراح المؤقت بدون أية محاكمة إلى اليوم. كما تعرض قادة المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب للاعتقالات بنفس التهم، وكان رئيس الإتحاد محمد الحلوي ضحيتها عدة مرات.
تم استعمال عدد من وسائل الإثبات الأخرى، التي أذكر منها الاعتماد على شهادة العميل السوري عاطف دنيال، المقيم بمدينة جنيف السويسرية، التي استعملت كمنطلق للرحلات الدولية، سواء عند التوجه إلى القاهرة أو نيويورك أو باكستان وغيرها من الوجهات، عوض استعمال المطارات الفرنسية، وذلك تفاديا لمراقبة الأجهزة الفرنسية.
في الحقيقة، يعود الفضل في استعمالها كمنطلق للرحلات الدولية إلى الحاج أحمد بلافريج، إذ منذ سنة 1937 كان متوجها إلى سويسرا للعلاج فأصبح يتردد عليها كلما دعت الضرورة إلى ذلك. كانت مدينة لوزان تستقبل العديد من الطلبة العرب، سوريين ومغاربة، وهناك التقينا بشكيب أرسلان، وجرت العادة أن يلتقي هؤلاء الطلبة بزعماء الحركة الوطنية المغربية كعبد الكبير الفاسي، علال الفاسي، أحمد بلافريج وكذا قادة الثورة الجزائرية فيما بعد، أحمد بن بلا، محمد بوضياف والحسين آيت أحمد. كان من ضمن هؤلاء الطلبة السوريين عاطف دنيال الذي تربطه صلة صداقة بالعديد مع الطلبة المغاربة، أذكر من بينهم مامون العلوي وعبد الوهاب العراقي، وأغلبهم أنهى دراسته وعاد إلى وطنه، إلا ذلك الشاب السوري الذي ظل مقيما في جنيف، بدون عمل رسمي، وكان واضحا للجميع أنه مرتبط بأجهزة استخباراتية. ورغم معرفتهم بهذه المعلومة، كان العديد من القادة أثناء مرورهم بسويسرا، يساعدونه ماديا. ولا يستبعد أنه زار أصدقاءه الطلبة هنا في المغرب، وحضر معهم بعض اللقاءات أو المؤتمرات التي تنظمها الأحزاب السياسية. ومن المحتمل أنه كان يمر بظروف صعبة، جعلته يتصل بالدكتور عبد الكريم الخطيب، في محاولة منه لابتزاز الدولة المغربية، مقابل معلومات، وهذا ما حصل، باعتراف الدكتور الخطيب نفسه.
في منتصف غشت 1963، تم تقديم المتهمين في قضية ما عرف ب «المؤامرة» إلى النيابة العامة، حيث تم إيداع الجميع بالسجن المركزي بالقنيطرة. بعدها عقد وزير العدل أحمد باحنيني ندوة صحفية أكد فيها تورط المتهمين في المؤامرة، عدم وجود أي ضابط من الجيش في هذه العملية (كان المقصود هو الرائد المذبوح الذي كان يشغل منصب قائد للحرس الملكي، والذي سيصبح في بداية شتنبر 1963 مديرا للديوان العسكري للملك). في نفس المرحلة تمت ترقية الكولونيل محمد أوفقير مدير الأمن الوطني إلى رتبة جنرال دوبريكاد. وفي نفس يوم ترقية هذا الأخير، تم تفجير ثلاث قنابل بمطابع «انبريجيما» بمدينة الدار البيضاء، حيث تطبع جريدة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية «التحرير» ومطبوعات الاتحاد المغربي للشغل، وجرائد الحزب الشيوعي المغربي الذي كان ممنوعا. ولقد خلف ذلك الانفجار خسائر فادحة.
لم يتعرض المهدي بن بركة للاعتقال، لتواجده خارج أرض الوطن، حيث غادر المغرب يوم 15 يوليوز 1963، أي ساعات قبل انطلاق حملة الاعتقالات يوم 16 يوليوز 1963. أجرت معه جريدة «لوموند» الفرنسية استجوابا في شهر غشت 1963 أدان فيه القمع الذي تعرض له رفاقه، وصرح بأن تلك الانتهاكات الجسيمة سيتم عرضها على المؤسسات الدولية للبث فيها.
في نهاية شهر غشت من سنة 1963، سمح قاضي التحقيق للمحامين المغاربة بالاتصال بموكليهم ضحايا المؤامرة، بينما منع ذلك على المحامين الأجانب. وكان من المتوقع عقد محاكمة في أقرب الآجال، غير أن حرب الرمال بين المغرب والجزائر في أكتوبر 1963 أجلت عقدها.
بن بركة والاستقطاب السياسي
عند عودتي إلى الرباط لإتمام دراستي بثانوية مولاي يوسف، وتحضيرا لنيل شهادة الباكالوريا، كان المهدي بنبركة في تلك الفترة أحد الأطر الشابة للحركة الوطنية وكان أستاذا للرياضيات بثانوية غورو Lycée Gouraud، كما كان أستاذا لنفس المادة بالمدرسة المولوية التي كان فيها الأمير مولاي الحسن وأصدقاؤه من تلاميذه.
أَثَّر فينا بنبركة بنشاطه وحركيته الدائمة، وكان يزورنا بين الفينة والأخرى. ولقد حضرنا ترشحه لرئاسة جمعية «قدماء كوليج مولاي يوسف»، التي كان منافسا له فيها السيد ملين، الذي يمثل التقاليد المخزنية والبورجوازية الرباطية، فيما كان المهدي بنبركة، يرمز للجيل الجديد للوطنيين المنحدرين من الأوساط الشعبية، وكممثل للقيادة الجديدة للحركة الوطنية.
فاز المهدي في هذه الانتخابات، وعمل على أن تكون له شبكة واسعة ومتشعبة من الجيل الجديد، حيث كان يعمل على ضم العديد من هذه الأطر ويشجعهم على الانخراط في العمل السياسي الوطني، ونشر أفكار الحداثة لدى هؤلاء. مثلما كان يحثهم على النضال من أجل التحرر والانعتاق.
كنت في سنة 1943، من ضمن الشباب الذين استدعاهم المهدي بنبركة، إلى بيت والدته الموجود بحي «الكزا» بالرباط (حي الجزاء)، ليعرض علينا أفكاره وخططه السياسية. ومما أثار انتباهي، طريقة عمله في ذلك البيت، بحيث كانت هناك ثلاث غرف في الطابق الأرضي وثلاث غرف في الطابق الفوقي. ولاحظنا كيف أن المهدي حدد موعدا لحوالي خمس مجموعات دفعة واحدة، حيث كان يجتمع مع كل واحدة منها في إحدى هذه الغرف، فيقوم بعرضه للمجموعة الأولى، ثم ينتقل للغرفة الثانية ليناقشهم في موضوع آخر، ثم إلى باقي المجموعات لإلقاء باقي عروضه، بحيوية فائقة ونشاط بين. مثلا يقوم بإلقاء العرض على المجموعة الأولى ويتولى تقديم الشاي للثانية، وهكذا حتى يودع كافة المجموعات كل منها على انفراد.
أثارنا في الرجل هذا الحس التنظيمي والديناميكية وقدرته على الحوار وطرح الأسئلة، مما يجعلك تنبهر أمام هذه الطاقة العالية والفكر المتنور. وعندما يشعر أنه استطاع أن يؤثر على مخاطبيه، يستقطبهم في مرحلة موالية إلى الدخول نهائيا إلى صف العمل السياسي الوطني. وتتوج هذه المرحلة بأداء اليمين على المصحف الكريم. هكذا، في شهر دجنبر 1943، أديت القسم، أنا ومجموعة من رفاقي في ثانوية مولاي يوسف، كإعلان على انخراطنا داخل حزب الاستقلال. شهرا بعد ذلك القسم، تم الإعلان على تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944. كان القسم طبعا ينص على الوفاء للدين و للوطن وللملك، وعلى الاحتفاظ بأسرار الحزب وعدم كشف تنظيماته.
حقيقة السفينة المصرية «دينا»
كان يتواجد في مدينة تطوان، مجموعة من قادة المقاومة، أذكر من بينهم: سعيد بونعيلات، عباس المسعدي، عبد الله الصنهاجي، حسن صفي الدين (الاعرج)، الغالي العراقي والدكتور عبد الكريم الخطيب، وكانوا يشرفون على تزويد تنظيمات باقي خلايا المقاومة في كل أنحاء المغرب، بما تحتاجه لاستمرار شعلة الكفاح الوطني، وشكلوا قاعدة خلفية لذلك الكفاح ضد القمع والتصفيات الشرسة التي ووجهت بها من طرف قوات الاحتلال.
كنت أنا والمهدي بن عبود، نتولى التنسيق مع باقي القيادات سواء في الداخل أو على مستوى الخارج بالقاهرة، مدريد، باريس وغيرها، كما كنا نحرص على الإشراف على الحملات الإعلامية، والسهر على نشر أخبار المقاومة ومواجهة الإعلام المضاد. وعندما تقرر تأسيس المراكز الأولى لجيش التحرير بمدينة الناظور وضواحيها، تكونت خلية للإشراف على هذه العمليات، من كل من سعيد بونعيلات وعباس المسعدي وعبد الله الصنهاجي والدكتور عبد الكريم الخطيب، وهي التي تولت تكوين الخلايا الأولى لجيش التحرير بشمال المغرب في بداية سنة 1955.
كان جيش التحرير المغربي مشكلا أساسا من ما يلي:
أعضاء وعناصر المقاومة الذين اكتشف أمرهم من طرف السلطات الفرنسية، والتحقوا بالشمال حتى لا يتعرضوا للاعتقال.
العناصر المغربية التي أشرف على استقطابها الأمير محمد بنعبد الكريم الخطابي في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتم تكوينها عسكريا من طرف الجيوش العربية المصرية والعراقية والسورية، وكان هدف الزعيم الخطابي هو إنشاء جيش مغاربي لتحرير فلسطين.
العناصر التي تم اختيارها من طرف قادة الحركة الوطنية المغاربية وبالأخص المغرب والجزائر وتونس، وذلك باتفاق مع الجيش المصري ليتولى الإشراف على تدريبهم عسكريا.
العناصر التي شاركت في الحرب العالمية الثانية أو في الحرب الهند الصينية مع الجيش الفرنسي، وتم تسريحهم لعدة أسباب، ومنهم من اختيار الهروب من الجيش الفرنسي والانضمام لصفوف الجيش الفيتنامي بقيادة الزعيم «هوشي منه» و الجنرال «جياب».
العناصر التي انخرطت من تلقاء نفسها بالجيش الفرنسي، وبعد انطلاق العمل المسلح ضد الاحتلال قررت الهروب بأسلحتها والالتحاق بالمقاومة أو جيش التحرير. وكانت قيادة المقاومة، تقوم من حين لآخر، بتوزيع مناشير تدعو فيها الجنود المغاربة المنخرطين في الجيش الفرنسي إلى الالتحاق بصفوف جيش التحرير، وقد استجاب العديد منهم لهذا النداء.
العناصر التي أشرفت على تكوينها قيادة جيش التحرير بإشراف خبراء ومكونين كانوا في الجيش الفرنسي أو الاسباني ونذكر من بينهم المرحوم عبد القادر بوزار، وكان يتم تدريبهم إما في جبال الأطلس أو الريف.
لقد عقد في هذه المرحلة اجتماع تنسيقي مع مسؤولي المقاومة في الجزائر، حيث حضر عنهم الإخوة محـمد بوضياف ومحـمد العربي بالمهيدي الذي جاء مباشرة من وهران إلى شمال المغرب. وطرح خلال هذا اللقاء وبإلحاح، أنه أصبح من الضروري، البحث عن أسلحة غير التي كانت تستعملها المقاومة داخل المدن، لتسليح عناصر جيش التحرير، الذي يستعد لمواجهة جيش يستعمل أنواع متطورة من الأسلحة. فكان أن ألح القادة المغاربيون على الرئيس جمال عبد الناصر، للإسراع في تزويدهم، بجيل جديد من الأسلحة، لمواجهة ما يتوفر عليه جيش المستعمر، من عتاد وأسلحة متطورة.
تولى أحمد بن بلة، مرفوقا بعدد من أطر قيادة المخابرات المصرية، نقل الشحنة الأولى للأسلحة إلى جيشي التحرير المغربي والجزائري، على أساس أن تتم العملية في منتهى السرية ودون أن يتسرب عنها ما يفيد كشف أنها تتم تحت إشراف الدولة المصرية.
كانت المهمة الأولى، في مرحلة أولى، البحث عن باخرة خاصة غير تابعة للدولة المصرية أو لأي مؤسسة أخرى، ثم في مرحلة موالية، الاستيلاء عليها وكأنها سرقت، وذلك تفاديا للإدلاء بوجهتها. وبعد البحث والتنقيب، وقع الاختيار على الباخرة «دينا»، التي وعند التخطيط للاستيلاء عليها، تم التعرف على قائدها «القبطان ميلانباتشيش» Milanbacic وهو من أصل يوغسلافي، وأثناء الحديث معه، عبر عن استعداده للتطوع والقيام بهذه المغامرة النبيلة، دون الحاجة إلى الاستيلاء بالقوة على الباخرة.
تم شحن الباخرة خفية بحوالي واحد وعشرين طنا من الأسلحة، وأبحرت يوم 28 فبراير 1955 باتجاه الشواطئ الشمالية للمغرب. ونظرا لسوء أحوال الطقس، تأخرت الباخرة في الوصول واضطرت للتوقف في عدة موانئ، منها درنة، بنغازي وطرابلس بليبيا، ثم باليرم بإيطاليا، وأخيرا مليلية، قبل أن تصل إلى وجهتها الرئيسية والنهائية، وهي شاطئ راس الماء قرب مدينة الناظور.
علما أنه عند توقف تلك الباخرة بميناء مليلية، تم إلقاء القبض على المواطن السوداني إبراهيم النيلي، من داخل الباخرة، بعد تفتيشها وعدم العثور على الأسلحة المخبأة فيها بشكل جيد. لأنه عند التحقيق معه، اكتشفوا أن الميلي مبحوث عنه دوليا، فقروا اعتقاله. فأرسل ربان السفينة اليوغوسلافي «ميلان» برقية سريعة تخبر باعتقال النيلي، فتدخل الإخوة بالقاهرة لدى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فاهتدي إلى حل هو الإتصال بمالكة الباخرة، الأميرة المصرية «دينا»، التي اهتدت المخابرات المصرية إلى أنها متواجدة بالصدفة في ذات اليوم بمدريد في ضيافة الجنرال فرانكو. فربطت سفارة مصر بالقاهرة الإتصال بها وتم وضعها في الصورة، فتدخلت لدى الجنرال فرانكو الذي أصدر قرار إطلاق سراح النيلي فورا.
كان من المتوقع، إذن، أن تستغرق الرحلة فقط عشرة أيام، إلا أنها دامت حوالي شهر. وقد أشرف على إفراغ الحمولة من الأسلحة، سعيد بونعيلات مع حمدون إشراق وحوالي 60 شخصا من رجال القبائل الريفية رفقة عدد من المناضلين الجزائريين، كان قد بعثهم العربي بن المهيدي من الجزائر. بعد إفراغ الباخرة، تم نقل حمولة 21 طنا من السلاح إلى منزل حمدون الذي يبعد عن الشاطئ بحوالي 3 كلمترات.
كانت قد جرت العادة أن تقوم دورية من الحرس التابع للبحرية الإسبانية، بجولة يوميا، لمراقبة الشواطئ المتوسطية، وحتى لا تكتشف هذه الفرقة آثار الأقدام التي تركتها العناصر التي أشرفت على إفراغ حمولة الباخرة وآثار الصناديق التي تضم مختلف الأسلحة، قام المناضلون باستقدام قطعان من الأغنام وعملوا على مرورها على رمال شواطئ هذه المنطقة لمحو تلك الآثار، في عملية تمويهية لم تفطن لها السلطات الإسبانية إلا بعد مرور عدة أيام.
لكن كان قد بادر مسؤولو التنظيم إلى نقل وإخفاء الأسلحة، ولجؤوا إلى تغيير المنازل التي وضعت فيها في اليوم الأول صوب مخابئ توجد في مناطق أخرى.
تم تقسيم الحمولة من السلاح تلك، بنسبة ثلثين لفائدة جيش التحرير الجزائري، مقابل نسبة ثلث لفائدة جيش التحرير المغربي، على أساس أن الثورة الجزائرية كانت تحتاج أكثر إلى العتاد، كونها حديثة العهد في مواجهة الاستعمار، كونها قد انطلقت في فاتح نونبر 1954، إذ لم يمض على هذه الانطلاقة إلا مدة أربعة أشهر وكان هذا كله في إطار التضامن المغاربي ودعم الثورة الجزائرية.
كان على متن الباخرة السيد هواري بومدين واسمه الحقيقي مـحمد بوخروبة، وكان يتابع دراسته بالأزهر الشريف، واستقطبه السيد أحمد بن بلة، والتحق مع مجموعة من الطلبة بدورة تكوينية عسكرية، في معسكر للجيش المصري، والذي أصبح فيما بعد الرئيس الثاني للجمهورية الجزائرية، ولقد تولى المرحوم سعيد بونعيلات حمله على كتفيه من الباخرة إلى الشاطئ. كما كان بها أيضا «ندير بوزار» (عبد القادر)، وهو من أب جزائري وأم إيطالية، ولد بالرباط ودرس بها وحصل على شهادات عليا، خولت له الحصول على مناصب سامية، داخل سلطة الإدارة الفرنسية بالمغرب. بعد اندلاع المقاومة في المغرب، وانطلاق الثورة الجزائرية، التحق بالقاهرة وانضم إلى صفوف المقاومة، ولعب دورا أساسيا في وضع برامج لتكوين وتدريب وحدات جيشي التحرير المغربي والجزائري.
كان ضمن الفريق أيضا، المواطن السوداني إبراهيم النيلي الذي كانت تربطه علاقات مع مجموعة من المناضلين، في كل من المغرب والجزائر. وكان هناك طبعا ربان الباخرة الشهيد «ميلان»، وكان قد استقر هو وزوجته وابنته بالإسكندرية في مصر، ومنها تطوع لدخول هذه المغامرة، مجازفا بحياته من أجل تزويد ثوار المغرب الكبير، بالسلاح من أجل تحرير منطقة شمال إفريقيا من الاحتلال الأجنبي. لكن، عندما تعرضت مصر إلى الهجوم الثلاثي في أكتوبر 1956، بقيادة كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، كرد فعل من هذه القوات على تأمين جمال عبد الناصر لقناة السويس، تطوع الضابط «ميلان» إلى جانب الشعب المصري، وساهم في المعارك التي واجهت فيها المقاومة المصرية الإنزال الذي قامت به جيوش الدول الثلاثة في «بورسعيد». ولقد استشهد هذا الضابط، أثناء قيامه بإحدى العمليات التي كان يساعد من خلالها إحدى الثورات التحررية. وقبل استشهاده، عندما قام الأمير مولاي الحسن، ولي العهد آنذاك، بزيارة إلى مصر لحضور احتفالات تأميم قناة السويس، تفقد عائلة ميلان، وقدم لها هدايا رمزية، لكل من الضابط وزوجته وابنته ميلكة Milca، وذلك كعربون اعتراف على ما تَحَمَّلَهُ من مخاطر من أجل دعم الشعب المغربي في معركة التحرير.
تجدر الإشارة إلى أن ابنته الفاضلة «ميلكة» هي زوجة الصديق العزيز والدبلوماسي الجزائري والمناضل المغاربي، السيد الأخضر الإبراهيمي.
بذلك، دخلت الباخرة DINA سجل التاريخ المغاربي، لأنها حملت لهذه المنطقة أول شحنة أسلحة لمواجهة الإستعمار. وقد كانت هذه الباخرة في مِلْكِيَةِ السيدة دينا بنت عبد الحميد، وهي الأميرة المصرية التي ستصبح فيما بعد زوجة عاهل الأردن، الملك الحسين، وكانت ذات ميول تقدمية. وعند علمها بقصة باخرتها، قالت لبعض القادة المغاربيين، لو اتصلتم بي مباشرة، لوضعت رهن إشارتكم اليخت الذي أهداني إياه ملك الأردن، وزودتكم بإمكانيات أخرى.
الاستفتاء على دستور 1962
انتقل إلى عفو الله الملك محمد الخامس، يوم الأحد 26 فبراير 1961، إثر خضوعه لعملية جراحية. شكل هذا الحدث الأليم صدمة فاجأت الجميع، خرج على إثرها الشعب المغربي، في تلك الليلة الرمضانية، يبكي ملكه الراحل. ساهمت جماهير الشعب المغربي في تشييع جنازته التي حضرها العديد من رؤساء الدول، وكل الطيف السياسي المغربي، المهدي بن بركة الذي كان في مهام خارج المغرب، أرسل برقية تعزية قبل أن يلتحق بأرض الوطن لتقديم التعازي.
تولى مقاليد العرش ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي أصبح الملك الحسن الثاني. في بداية شهر مارس 1961، تم تشكيل الحكومة السادسة في تاريخ المغرب المستقل برئاسة الملك شخصيا، مع احتفاظه بكل من وزارة الدفاع ووزارة الفلاحة تحت نفوذه الشخصي، كما أجرى جلالته العديد من اللقاءات مع قيادات أهم الأحزاب الوطنية.
بعد هذه اللقاءات، عين الملك الحسن الثاني السيد أحمد رضا كديرة، الذي كان مبعدا لفترة زمنية، مديرا عاما للديوان الملكي. وفي أقل من أسبوعين أسندت إليه وزارة الداخلية ثم وزارة الفلاحة مع الاحتفاظ بإدارة الديوان الملكي، ليصبح الشخصية الأساسية في كل الحكومات التي تعاقبت على المغرب خلال النصف الأول من الستينيات من القرن الماضي. هذه الهيمنة، دفعت في يناير 1963 ثلاثة وزراء من حزب الاستقلال إلى تقديم استقالتهم من الحكومة، وهم الأساتذة علال الفاسي، امحمد بوستة وامحمد الدويري.
في نهاية شهر مارس 1963، قام الملك الحسن الثاني بأول زيارة رسمية لمدينة الدار البيضاء حيث استقبل بحرارة من طرف الساكنة، وألقى كلمة أمام المجلس البلدي لمدينة الدار البيضاء، أكد فيها العمل على تعبئة كبرى من أجل التشغيل، ووعد بوضع دستور داخل آجال قريبة، كما أكد رغبته في تطبيق ديمقراطية اجتماعية حقيقية.
بعد فترة زمنية، تم استدعاء الأحزاب السياسية للمشاركة في إنشاء مجلس دستوري، يتولى وضع مشروع دستور للدولة المغربية. فقرر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عدم المشاركة في هذا المجلس، وظل متشبثا بانتخاب مجلس تأسيسي حقيقي يشرف على وضع الدستور، واعتبر أن المشاركة في هذا المجلس ما هي إلا مضيعة للوقت. وكذلك كان. إذ بمجرد تكوين المجلس وانتخاب الأستاذ علال الفاسي رئيسا له، قدم ممثلو الحركة الشعبية برئاسة كل من المحجوبي أحرضان والدكتور عبد الكريم الخطيب استقالتهم من هذا المجلس، وقام ممثلو حزب الأحرار برئاسة أحمد رضا كدير، بنفس الشيء، وذلك احتجاجا على انتخاب علال الفاسي رئيسا لهذا المجلس، رغم أنه تم التصويت عليه عن طريق الاقتراع.
هكذا فتح المجال لتكليف خبراء أجانب بوضع أول دستور مغربي، عرض على الاستفتاء في 7 دجنبر 1962. كان قرر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مقاطعة هذا الاستفتاء، وعدم المشاركة فيه لعدم إشراك ممثلي الشعب في المساهمة في وضع الدستور الذي يلبي طلبات الشعب المغربي.
جند الحزب القادة والأطر والمناضلين لخوض حملة الاستفتاء على الدستور وذلك بالتصويت ب: «لا». حيث كانت الورقة الزرقاء ترمز ل:»لا»، والورقة البيضاء ترمز ل: «نعم». ومن هذين اللونين استلهم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية شعاره : «لا بيضا و لا زرقا دستورهم تم يبقى».
قبل بداية الحملة الانتخابية، في منتصف شهر نونبر 1962، تعرض المهدي بن بركة لمحاولة اغتيال عندما كان يسوق سيارته متوجها من الرباط إلى الدار البيضاء رفقة المهدي العلوي، عند قنطرة واد الشراط بضواحي بوزنيقة، حين حاولت سيارة مجهولة، دفع سيارة المهدي إلى الهاوية. أصيب إثرها المهدي على مستوى فقرات العنق، وهو ما اضطره للتوجه إلى ألمانيا من أجل العلاج. وقد تم تفجير قنبلة، قبل ذلك في شهر شتنبر من نفس السنة، داخل المطبعة التي تطبع فيها جرائد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومطبوعات الاتحاد المغربي للشغل. وأثناء هذه الحملة بالتصويت ب «لا» ضد الدستور، تم اعتقال ما يقارب 900 مناضل من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
كما قرر بدوره الحزب الديمقراطي الدستوري، (سابقا حزب الشورى والاستقلال) بقيادة مـحمد بن الحسن الوزاني الذي شارك في الحكومة التي أشرفت على الاستفتاء، مقاطعته، واعتبر في الأخير أن هذا الاستفتاء غير مشروع. وبمجرد الإعلان عن النتائج، صدر ظهير يُعفي مـحمد بن الحسن الوزاني من مهامه كوزير دولة.
تأسيس أول دوري لكأس العرش
لكرة القدم
كما قمنا بإنشاء العديد من الجمعيات والمنظمات لتأطير الشباب في مجالات متعددة كالمسرح والكشفية والرياضة، ولا يزال لحد الآن موجودا فريق الإتحاد البيضاوي لكرة القدم بالحي المحمـدي (الطاس)، لا تزال تزاول نشاطها، وكان لي شرف المساهمة في تأسيس هذه الفرقة، إلى جانب بعض الفعاليات كالمرحوم عبد السلام بناني، حيث أنشأنا معا العصبة المغربية لكرة القدم، وقد انْتُخِبْتُ كأول كاتب عام لهذه العصبة، وقمنا بتنظيم أول دوري لكأس العرش في كرة القدم بتاريخ 18 نونبر 1946 وكانت تشارك فيه العديد من الفرق البيضاوية.
إطلاق تجربة سيارات نقل
الأموات المسلمين
وفي الحي المحمدي، جاءت فكرة نقل موتى المسلمين في سيارة بيضاء ومكتوب عليها عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» (وهو الأمر الذي لا يزال قائما إلى اليوم وتعمم في كل المغرب). بحيث كنت أشاهد نقل الموتى المسيحيين في سيارة سوداء بينما يتم نقل موتانا على الأكتاف، وفي ظروف غالبا ما كان يتعثر معها حاملي النعش، نظرا لسوء حالة الطرق والأزقة، وفي أحسن الحالات، على عربة يجرها حمار. فقد تكلف أحد المناضلين، كانت لديه ورشة لإصلاح السيارات بإخراج أول سيارة لنقل الموتى، بالحي المحمدي.
نفي السلطان وانخراطي في المقاومة
بعد نفي مـحمد بن يوسف وعائلته، يوم 20 غشت 1953، قررت الخلايا الأولى للمقاومة الرد على عملية النفي بالعنف، وأصبح من الضروري التوفر في مختلف أنحاء المغرب على العتاد والأسلحة لمواجهة سلطات الاحتلال.
هكذا تطور عملنا، وأصبح بإمكاننا إرسال برقيات مشفرة، عجزت سلطات الاحتلال عن التعرف على محتوياتها وفك شفراتها. ولقد كان من حسن حظنا أن السلطات الفرنسية، لم تتشاور مع السلطات الإسبانية التي تحتل شمال المغرب وصحراءه الجنوبية عندما قررت نفي الملك محمد الخامس، وهو ما أشعر السلطات الإسبانية بالإهانة، جراء عدم إخبارها بما أقدمت عليه فرنسا. فكان أن فجر عدم التنسيق هذا تناقضا بين سلطتي الاحتلال، وهو ما استغلته المقاومة المغربية التي كانت تعمل في كل من طنجة والمناطق الشمالية، مما مكنها من أن تجعل من شمال المغرب فضاء ومتنفسا للحركة الوطنية والمقاومة.
لقد تحول شمال المغرب إلى أرضية لتجميع كل ما تحتاجه المقاومة المغربية من عتاد وأسلحة وذخيرتها. كما أصبح شمال المغرب مكانا آمنا لاجتماع قادة الحركة الوطنية وقيادة المقاومة وبعدها قادة جيش التحرير. مثلما أصبح ملاذا لعناصر المقاومة والحركة الوطنية المبحوث عنهم من طرف سلطات الاحتلال الفرنسي. فتم تكوين شبكات متخصصة في تهريب المقاومين للإفلات من الاعتقال، وكذا تزويد خلايا المقاومة بحاجياتها من الأسلحة والذخيرة.
بل إنه حتى عندما اندلعت الثورة الجزائرية في فاتح نونبر 1954، استفاد قادة هذه الثورة من هذا الفضاء الذي دبرته المقاومة المغربية بشمال المغرب، كما استفادت الثورة الجزائرية من العلاقات التي ربطتها الحركة الوطنية مع السلطات الإسبانية التي كانت تغض الطرف عن تحركات قيادة المقاومة والحركة الوطنية على أراضيها.
اعتقل في سنة 1954 الأخ حسن العرائشي في باريس، وعثرت السلطة الفرنسية بحوزته على العديد من الوثائق السرية، التي سهلت على السلطات الفرنسية التعرف على العديد من قادة المقاومة والحركة الوطنية ومن بينهم اسمي. فكان أن أصبحت عرضة للاعتقال، لكن تشاء الأقدار مرة أخرى التدخل للحيلولة دون ذلك. إذ، التقيت بالصدفة ذات صباح بأحد الأصدقاء الجزائريين الذي يمتهن الطب في مدينة طنجة، هو الدكتور إِسْعَادْ، وصافحته، وظل ماسكا بيدي قائلا، حرارة جسمك جد مرتفعة، وألح علي أن أرافقه إلى العيادة، وبعد الكشف بالأشعة اتضح وجود ثقبين كبيرين بالرئة اليمنى. وألح علي في التوقف عن القيام بجميع الأعمال سواء الشخصية أو النضالية ومغادرة مدينة طنجة إلى تطوان ومنها إلى مدريد. وهكذا تفاديت السقوط في الاعتقال بمحض الصدفة.
في مدريد التقيت الحاج أحمد بلافريج، ودلني على الدكتور MARCOS VILLA VERDE (ماركوس فيلا فيردي)، وهو طبيب جراح، متزوج من بنت الجنرال فرانكو. لأن الحاج أحمد كان هو أيضا مصابا بداء السل. فتولى الدكتور ماركوس الاشراف على معالجته ومعالجتي. هكذا، فبعد العديد من الفحوصات التي خضعت لها، قام هذا الجراح بإجراء العملية الجراحية الأولى استأصل فيها نصف رئتي اليمنى وفي العملية الثانية استأصل النصف المتبقي منها، فعشت من حينها بنصف رئة إلى اليوم. فيما أشرف طبيب آخر شاب، على متابعتي خلال فترة النقاهة، والذي التقيت به بعد سقوط نظام فرانكو، وقد أصبح أحد أهم العناصر الأساسية في تنظيم الحزب الاشتراكي الاسباني، وأسر لي أنه منذ تلك الفترة كان إطارا يناضل في سرية ضمن الحزب الاشتراكي ذاك.
أذكر، أيضا، أنني اغتنمت فرصة غض الإسبان الطرف عن تحركات جيش التحرير المغربي، وأثناء زيارة لي إلى لاس بالماس، بادرت إلى الإتصال بالكابتن محمد أمزيان (الذي أصبح في ما بعد مارشال بالجيش الملكي المغربي)، الذي كان مسؤولا حينها بالجيش الإسباني، وطلبت منه تقديم المساعدة والدعم لجيش التحرير المغربي، فنظر إلي مليا باستغراب وقال لي: «ياولدي، ما زلت صغيرا، اذهب للإهتمام بدراستك، فالثورة ليست لعب الدراري». ولما استقل المغرب، التقيته مجددا فكانت نظرته مختلفة تماما.
البذور الأولى للمقاومة والحي المحمدي
كانت الأهداف التي حققناها مع الطبقة العاملة هو تشجيعهم للانخراط في النقابات الفرنسية، وبالأخص فروع نقابة س.ج.تCGT الموجودة بالمغرب، والتي يشرف عليها مناضلون من الحزب الشيوعي الفرنسي، وكانت تنشط تحت اسم «الإتحاد العام للنقابات المغربية»، بالرغم أن هذا الانخراط كان محصورا على حاملي الجنسية الفرنسية. لكن بفضل مساعدة مناضلي الحزب الشيوعي وبفضل حنكة وكفاءة التجربة النضالية لبعض عناصر الحركة الوطنية الذين استفادوا من تجربتهم في الهجرة. وأخص بالذكر منهم الشهيد إبراهيم الروداني، بالرغم من أنه كان يشتغل في التجارة ولكنه يولي عناية خاصة لتنظيم وتأطير الطبقة العاملة المغربية، واضعا كل إمكانياته لتحقيق هذا الهدف. وكان بيته مفتوحا أمام الأطر النقابية وفيه أيضا عقدت الاجتماعات التي أفرزت قيادة الإتحاد المغربي للشغل، وكان من المفروض أن يكون أول رئيس لهذه الهئية. لم يقتصر تنظيم العمال في الأحياء الصناعية بمنطقة الدارالبيضاء الكبرى، بل امتد إلى مناطق أخرى حيث توجد المناجم الكبرى كخريبكة وجرادة.
كانت المكونات البشرية لحزب الاستقلال تقتصر على التجار والحرفيين والعلماء، أي بصفة عامة ساكنة الحواضر. لكن بدأت قاعدة الحزب بالدار البيضاء تتسع لتشمل البروليتاريا وامتدت جذورها إلى البادية المغربية المنبع الرئيسي لهذه الطبقة. هذا التحول في البناء القاعدي للحزب لم يكن يحظى بعين الرضا من طرف العديد من القياديين في حزب الاستقلال، وقد بدا هذا واضحا أثناء الزيارة التي قام بها الزعيم علال الفاسي لمدينة الدار البيضاء سنة 1946، حيث استقبل من طرف القيادات والأطر الحزبية وكانت الأغلبية الساحقة من الطبقة العمالية، وهي ظاهرة غير مألوفة عادة في مثل هذه المناسبات، ولولا إقدام السلطات الاستعمارية على اعتقال القيادات الحزبية، لما فسح المجال أمام العناصر الشابة المنحدرة من التنظيمات العمالية للوصول إلى مراكز القيادة. وقد استحسن الزعيم علال الفاسي هذا التغيير عكس بعض القيادات الأخرى التي لم تنظر إليه بعين الرضا.
بعد تقدم الوضع التنظيمي للقطاع العمالي، تم وضع خطة جديدة للتنظيم الحزبي لمدينة الدار البيضاء، وخلصنا إلى تقسيم المدينة إلى أربعة مناطق، يشرف على كل منها مسؤول حزبي، كانت كالآتي:
المنطقة الأولى، درب السلطان ويتولى الإشراف عليها السيد بوشتى الجامعي.
المنطقة الثانية وتشمل المدينة القديمة ويشرف عليها السيد الهاشمي الفيلالي.
المنطقة الثالثة، درب غلف والمسؤول عنها هو بناصر حركات.
أخيرا، المنطقة الرابعة،أي الحي المحمـدي، وتوليت أنا الإشراف عليها.
نسجت مع ساكنة هذا الحي علاقة وطيدة، أسفرت على إنجاز العديد من المشاريع الاجتماعية، منها إنشاء المدارس وأخص بالذكر «مدرسة الإتحاد» بالحي المحمـدي، التي تخرج منها العديد من الأطر الوطنية، منهم على سبيل المثال الزعيم النقابي محمـد نوبير الأموي. كان الصراع الأساسي الذي كنا نخوضه ضد الاستعمار في مجال التعليم وتربية الناشئة وفق برامج لا تقل في مستواها عن البرامج المتبعة في المدارس الفرنسية. إذ، بالإضافة إلى تلقين اللغة العربية والفرنسية والتربية الوطنية والدينية، أدخلنا أهم المواد كالتاريخ والجغرافيا والمواد العلمية كالرياضيات، ومختلف العلوم التي تشمل البيولوجيا والجيولوجيا وعلم النباتات ….إلخ. التي يتم تدريسها باللغة العربية، حيث كنا نقوم بترجمة هذه المناهج من الكتب المتخصصة في هذه المجالات.
محاولة تهريب القادة الجزائريين من السجن
اعترضت يوم 22 أكتوبر 1956، المقاتلات الحربية الفرنسية، في عرض السواحل الجزائرية طائرة تابعة للشركة المغربية «أطلس للطيران»، وأرغمتها على النزول بمطار الجزائر العاصمة. كان على متن هذه الطائرة خمسة زعماء من قادة الثورة الجزائرية هم: أحمد بن بلة، الحسين أيت أحمد، محمد خيضر، محمد بوضياف ومصطفى الأشرف الناطق الرسمي باسم جبهة التحرير الجزائرية، وكانت هذه العملية هي أول قرصنة جوية في تاريخ الإرهاب الدولي.
كان الزعماء الجزائريون متوجهون لحضور الندوة المغاربية في تونس بحضور كل من الحبيب بورقيبة و الملك مـحمد الخامس، وكان القادة الجزائريون الخمسة سيمثلون قيادة الثورة والشعب الجزائري.
كان من المتوقع أن يسافروا، على نفس الطائرة التي أقلت الملك محمد الخامس من المغرب إلى تونس، غير أنه في آخر لحظة تقرر السفر على طائرة أخرى. وكان على متنها أيضا عشرة من الصحافيين الفرنسيين وصحافي أمريكي معروف هو «طوم برادي».
كان القادة الخمسة قد قضوا يومي 20 و21 أكتوبر في المغرب، وقد رافقتهم شخصيا لعقد لقاء مع الملك محمد الخامس الذي رحب بهم كالعادة وأكد لهم دعم المغرب للثورة الجزائرية حتى النصر. وقد التحق بنا المناضل التونسي الكبير حافظ ابراهيم. وقد نصتحهم ونحن على مائدة العشاء أن الرحلة الأسلم إلى تونس هي عبر مدريد ثم روما، ليبتعدوا كلية عن الأجواء المراقبة من طرف فرنسا. بمجرد أن علم الملك محمد الخامس باختطاف الطائرة، أرسل الوزير الأول السيد أمبارك البكاي إلى فرنسا، لإجراء مفاوضات مع السلطات الفرنسية لإطلاق سراح القادة الجزائريين، ولكن فرنسا أصرت على الاحتفاظ بهم. فاضطر المغرب إلى دعوة السفير المغربي بفرنسا آنذاك الأخ عبد الرحيم بوعبيد، وبعدها قرر قطع كل العلاقات مع فرنسا، وقد اتخذت تونس وليبيا نفس الموقف تجاه باريس.
انتدبتني الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية كمحام للدفاع عن المختطفين، كما كلفني الإخوة في الحزب وقادة المقاومة وجيش التحرير المغربي بنفس المهمة.
هكذا أصبحت أزور القادة الخمسة من حين لآخر، وفي نفس الوقت كنت أنقل إليهم الآراء والقرارات التي ينوي إخوانهم في قيادة الثورة الجزائرية اتخاذها لإبداء أراءهم وإعطاء توجيهاتهم في كل ما يتعلق بقضايا الثورة، ومواقف جبهة التحرير وخطط جيش التحرير الجزائري.
لقد قضوا في السجون الفرنسية حوالي ست سنوات، بحيث أطلق سراحهم بتاريخ 19 مارس 1962 أي قبل استقلال الجزائر بحوالي ثلاثة أشهر وبضعة أيام. وقبل إطلاق سراحهم، أخبرني الخبير السويسري السيد «جونو»Genoux أن سفير الجمهورية المصرية بسويسرا أخبره أنه بصدد تنظيم عملية هروب القادة الخمسة الجزائريين المعتقلين بفرنسا. فطلبت منه توقيف هذه المحاولة حتى أستشير مع الذين يعنيهم الأمر، لإعطائهم الفرصة للإعراب عن أمر يخصهم ذاتيا.
بالفعل أخبرتهم بالأمر وطلبت منهم أخذ أسبوع للتفكير قبل اتخاذ أي قرار وبعد أسبوع طلبوا مني أن أبلغ الإخوة المصريين بالعدول عن تلك المحاولة.
تصفية جيش التحرير
خلف اعتقال قائدين للمقاومة وجيش التحرير في السنوات الأولى من الاستقلال، ممثلين في شخصي أنا وفي شخص مـحمد البصري، استياء عاما لدى الرأي العام الوطني والدولي. وقد امتدت هذه الاعتقالات لتشمل العديد من قادة المقاومة وجيش التحرير ومناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. وقد تأكد فيما بعد أن الهدف من هذه العملية هو تصفية جيش التحرير بالجنوب المغربي الذي بسط سيطرته على مختلف مناطق الصحراء المغربية التي كانت تخضع للاحتلال الإسباني، بل وصلت هذه الوحدات آنذاك حتى مدينة أطار شمال موريتانيا.
تم الاحتفاظ بمـحمد البصري في وضع اعتقال لمدة تزيد عن ستة أشهر، دون أن يقدم إلى أية محاكمة إلى أن تم إنهاء وجود جيش التحرير بالجنوب، ولم يتم إطلاق سراحه إلا بعد أن التقى عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان نائب رئيس الحكومة ووزير المالية والاقتصاد في حكومة عبد لله إبراهيم، مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، حيث بادره عبد الرحيم: «سمو الأمير، إلى متى سيظل الفقيه البصري قابعا في السجن لقد تجاوز اعتقاله أزيد من ستة أشهر، إذا ارتكب أي جرم فليقدم إلى المحاكمة، إذ ليس من العدل أن يظل رهن الاعتقال بدون أية متابعة». فأجابه ولي العهد: «سي عبد الرحيم إنك على صواب، فهذا الفقيه إما أن يعدم أو يطلق سراحه». ( Il faut le fusiller ou il faut le libérer ). وبعد مرور بضعة أيام عن هذا الحوار، تم إطلاق الفقيه البصري بدون أية محاكمة.
أما أنا، ونظرا لوضعي الصحي، فقد تم إطلاق سراحي بعد مضي 15 يوما من الاعتقال، وكانت هذه الأيام طويلة، بحيث يتم احتسابها بالثواني والدقائق وكأنها دهر كامل. بينما قبل الاعتقال كانت الساعات تمر كأنها ثوان، وكانت الساعات في العمل تمر بسرعة إلى درجة يتمنى المرء عودة عقارب الساعة إلى الوراء، أثناء الاعتقال كان العكس تماما هو الصحيح.
بعد إطلاق سراحي، زارني رئيس الحكومة عبد لله ابراهيم، وأخبرني أنه بعد اعتقالي أنا والفقيه البصري، وأثناء انعقاد المجلس الوزاري برئاسة مـحمد الخامس، طرح عليه الملك سؤالا: «حكومتك مولاي عبد لله مسؤولة أمام من؟». فأجابه عبد لله ابراهيم: «أمام جلالتكم»، فرد عليه الملك ولماذا يكتب أصدقاؤك غير ذلك… ولم يرد عبد لله ابراهيم.
الطرد من فرنسا سنة 1951
كان العمل الذي قمت به داخل كواليس الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت حماية الجامعة العربية ورعاية رئيسها السيد عبد الرحمان عزام باشا، عملا لم تنظر إليه السلطات الفرنسية بعين الرضا. وعندما كنت ذات يوم أتمشى في شارع غير بعيد عن جامعة السربون، فإذا بشرطية تقف أمامي وتصرخ بأعلى صوتها: «هذا هو اليوسفي»، وما هي إلا لحظة حتى كنت مطوقا بفرقة من رجال الشرطة، وقادوني إلى أحد المراكز الموجودة بشارع «السان ميشيل».
عند استنطاقي من طرف ضابط الشرطة القضائية، واجهني، بكوني مبحوثا عنه منذ مدة طويلة، وأنهم بحثوا عني منذ شهور للعثور علي ولكن دون جدوى. أخبرت الضابط أنني يوميا أمارس حياتي بشكل علني، وأتنقل بين المكتبات وفي الشارع العام كأيها الناس، فأجابني: «السيد اليوسفي، إن ما صرحت به حاليا هو أحسن وسيلة للتهرب من أية مراقبة، لأن كونك توجد في الشارع العام، وليس لديك عنوان قار تعود اليه على الأقل في الليل، فكيف يمكن لنا التعرف عليك».
اتخذ في حقي قرار الطرد من فرنسا، ووضعوني في إقامة إجبارية بأحد الفنادق المجاورة لإدارة الشرطة ريثما يصدر القرار النهائي بالطرد. لكن، بعد أيام تدخلت العديد من الشخصيات الفرنسية لدى الدوائر السياسية، فتم تحويل قرار الطرد من فرنسا إلى قرار النفي من مدينة باريس إلى مدينة «بواتيي» Poitier وسط فرنسا.
في الحقيقة لم يكن لي مسكن قار في باريس، وكنت أتناوب مع بعض الإخوان العمال يشتغلون بالليل وينامون بالنهار، للمبيت والنوم في غرفهم. ولقد عرض علي كل من السيد «امحمد يزيد» (أحد مناضلي جبهة التحرير الجزائرية، الذي سيصبح فيما بعد وزير الأخبار والناطق الرسمي للحكومة المؤقتة، توفي رحمه لله في نونبر 2003)، والسيد «بشير بومعزة» (أحد قادة جبهة التحرير الجزائرية، الذي سيتقلد عدة مناصب وزارية في عهد أحمد بن بلة، ووزير الإعلام في عهد بومدين قبل أن يصبح أحد معارضيه، وفي عهد الرئيس لامين زروال سيصبح رئيس مجلس الأمة إلى أن قدم استقالته في 1999، وانتقل إلى عفو لله سنة 2009)، عرضا علي، مشكورين، أن يوفرا لي إقامة بضواحي باريس حيث توجد أحياء خاصة للمناضلين المبحوث عنهم، ولا يمكن أن تهتدي إليهم السلطات الأمنية، وقد شكرتهم عن هذه الالتفاتة، وفضلت النفي إلى مدينة «بواتيي» حيث أنهيت دراستي الجامعية وحصلت على الإجازة في القانون.
في هذه المدينة التاريخية المشهور بأن الفتح الإسلامي المغربي توقف عندها، ولم يستطيع التقدم نحو الشمال، تعرفت على أحد الأساتذة المصريين، الذي جاء إلى فرنسا في الأربعينيات من القرن الماضي، وحصل على شهادة الدكتوراه من مدينة باريس، وانتقل ليدرس بجامعة «بواتيي»، وهو أحد قادة حركة الإخوان المسلمين ومن الذين رافقوا الإمام حسن البنا، هو توفيق الشافعي. وهو رجل المشاريع الإسلامية الصامت، ولقد جمعتني وإياه صداقة متينة، حيث عاد الى مصر ليصبح أستاذا بجامعة القاهرة. وبعد قيام الثورة، أُبْعِدَ من الجامعة مع العديد من الأساتذة. لكن، بعد حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956، أثناء زيارة عبد الرحيم بوعبيد إلى القاهرة، تدخل لدى الرئيس جمال عبد الناصر ليسمح للدكتور توفيق الشافعي بالتوجه إلى المغرب ما داموا غير استغنوا عنه للتدريس. فإذن له الرئيس المصري بالمجئ إلى المغرب، حيث أصبح يدرس بجامعة مـحمد الخامس بالرباط. مثلما تقلد عدة وظائف أخرى منها قاضيا بالمحكمة العليا بالرباط، تم مستشارا بالمجلس الأعلى بمحكمة النقض، ثم مستشارا قانونيا للبرلمان المغربي. وظل بالمغرب إلى غاية سنة 1965 حيث انتقل للتدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وانتقل إلى عفو لله بالقاهرة في أبريل 2009. كان باستمرار ينبهني على ضرورة اتخاذ الحذر من الأنظمة التي تدعى التقدمية والثورية لأنها في النهاية ستسقط كلها لتتحول إلى عملاء لبريطانيا وأمريكا من وجهة نظره.
الطربوش ضحية إنزال القوات الامريكية الدارالبيضاء
منذ مغادرتي مدينة طنجة لمتابعة الدراسة في كل من مراكش والرباط، بقيت متمسكا باللباس التقليدي، أي الجلباب والطربوش، وقد دفعتني حادثة عرضية إلى أن أتخلى بصفة نهائيا عن الجلباب والطربوش ذاك منذ 1944، ولم أرتده منذ تلك الفترة سوى لأسباب بروتوكولية سنة 1998، بعد أن عينت وزيرا أولا.
كانت الحادثة العرضية التي أجبرتني على التخلي عن الجلابة والطربوش أنه عندما كنت على متن الدراجة الهوائية في إحدى الرحلات اليومية، التي أقوم بها في مدينة الدار البيضاء بين درب السلطان والصخور السوداء (روش نوار)، مرت بقربي سيارة عسكرية (جيب) على متنها جنود من البحرية الأمريكية (المارينز)، وفي غفلة مني، وفي رمشة عين، انتزع أحدهم الطربوش من فوق رأسي وانطلقوا مقهقهين. وعندما حاولت شراء طربوش آخر، وجدت أن ثمنه يعادل الراتب الشهري الذي كنت أتقاضاه كمعلم. وبما أنني لم أتعود ولم يكن سائدا آنذاك ارتداء الجلباب بدون طربوش قررت التخلي عنهما معا.
ظلت هذه الحادثة عالقة بذهني دون أن يطالها النسيان، لدرجة أنه عندما استقبلت كاتب الدولة الأمريكي في الدفاع السيد ويليام كوهن، بصفتي وزيراً أَولاً، وبعد انتهاء المحادثات الرسمية، دخلنا في دردشة عامة، فتذكرت حادثة الطربوش وروَيْتُ القصة للوزير الأمريكي وأضفت مازحا: «وبما أنك وزير للدفاع والمسؤول الأول عن الجيش الأمريكي، فإنك مدين لي بالطربوش الذي انتزعه مني أحد جنودكم المارينز منذ 1944». ورد على بدعابة قائلا: «أعترف لكم باسم الجيش الأمريكي بهذا الدين وسنعمل على تسديده». وبالفعل بعد مضي أسابيع، توصلت بقبعة أميرال للجيش الأمريكي، كانت جميلة، لكنها لم تعوض لي بهاء والقيمة المعنوية لذلك الطربوش المفقود.
الخيار الصعب.. الزواج بالدكالية أو البكالوريا
في الوقت الذي أصدر الباشا تعليماته الصارمة التي تقضي بمغادرتي للإقامة، كنت منهمكاً في جمع أغراضي، وحزم حقائبي، وفي الصباح الباكر، قبل أن يستيقظ الباشا، غادرت مدينة آسفي موليا وجهتي إلى مدينة الجديدة، لزيارة بعض الأصدقاء، من بينهم محمـد السرغيني، الذي كان طالبا بثانوية مولاي يوسف بالرباط وعبد الرحمان الغريسي وأحمد الغريسي ومحمـد الشياظمي الذي سيصبح فيما بعد كاتبا عاما لمجلس النواب، في عهد رئاسة الأستاذ حرمة ولد بابانا.
قضيت معظم إقامتي في الجديدة بمنزل الحاج مصدق السرغيني، وهو من أعيان المدينة وكبار فلاحيها. وبعد فترة من الزمن من إقامتي بعاصمة دكالة، واعتبارا لانسجامي مع الزملاء الذين استأنسوا بوجودي بينهم، اجتمع كل الأصدقاء وحاولوا إقناع هذا الوافد من أقصى شمال المغرب بالاستقرار الدائم بمنطقتهم، وأخبروني بالقرار الذي أجمعوا عليه ومفاده أنهم يقترحون عليّ وبإلحاح أن يزوجوني من «دكالية» من المنطقة مع مساعدتي في إنجاز مشروع تجاري مهم أتولى الإشراف على تسييره ليكون لي عونا على الاستقرار وبناء الأسرة وتربية الأبناء.فطالبتهم بمهلة للتفكير، وقضيت الليل أقارن بين العرض المقدم لي، وبين المسار الذي رسمته لنفسي منذ سنوات، أي إتمام دراستي الثانوية للحصول على شهادة الباكالوريا، التي ستفتح أمامي أبواب الجامعة لولوج الآفاق الأخرى التي كنت أحلم بها.
قضيت الليل أقارن بين الطريق الطويل، والمحفوف بالعديد من المصاعب التي تنتظرني لتحقيق مشروعي الأصلي، وبين المشروع السهل والمغري الذي يعرضه عليّ أصدقائي، وما يفتحه لي من أبواب الاستقرار لأصبح دكاليا في هذه المنطقة التي ارتاحت نفسي إليها وانسجمت بسهولة مع أهاليها. فصممت أن أحسم في الأمر بأقصى ما يمكن من السرعة، حتى لا أقع ضحية إغراء المشروع المعروض عليّ من طرف الأصدقاء، وقررت أن أغادر مدينة الجديدة في أقرب وقت، معتذرا للزملاء وشاكرا لهم حسن الضيافة والالتفاتة الكريمة، كعربون وفاء وإخلاص للأخوة والمحبة الصادقة.
اللقاء مع محمد الخامس في جنيف
بعد خروجي من السجن في الاعتقال الأول في دجنبر 1959، وبعد إقالة حكومة عبد لله ابراهيم وتشكيل الحكومة الخامسة برئاسة الملك محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن نائبا له، توجهت إلى تونس لأقابل قادة الثورة ونقل رسائلهم إلى القادة المحتجزين في فرنسا كما هو معتاد. وفي طريق العودة إلى المغرب توجهت الى جنيف عبر القطار ومن هناك لأعود الى المغرب عبر الطائرة، تفاديا من استعمال المطارات الفرنسية.
التقيت صدفة في جنيف مع أحمد عصمان، ومحمد عواد وطلبا مني أن أرافقهما لزيارة الملك محمد الخامس الموجود في تلك المدينة السويسرية، من أجل أخذ قسط من الراحة، اعتذرت لهم قائلا جلالته جاء ليستريح علينا على الأقل ألا نزعجه، ونترك له الوقت للراحة.
لكن في الغد جاءا معا عندي إلى الفندق، وأخبراني أن جلالة الملك يلح في رؤيتي. فتوجهت معهما حيث يقيم جلالته، وطلب أن أبقى معه على انفراد، فأخبرني أن تلك الإقامة حيث ينزل هي لأحد أصدقائه من أمراء الخليج، وسألني عن الأوضاع في تونس، قلت له أن ما سمعته لا يبشر بخير، لأن الرئيس بورقيبة مُصِّر على الاعتراف بموريتانيا. فأخبرني جلالته أن سميت سيدي (أي الأمير مولاي الحسن ولي العهد) اتصل به هو أيضا من نيويورك حيث يحضر الجمعية العامة للأمم المتحدة ولديه نفس الانطباع أن الموقف الذي سيصدر عن جمعية الأمم المتحدة لن يكون في صالح المغرب.
ثم أصر على أن يعرف رأيي بكل صراحة، فذكرت جلالة الملك أنه عند عودته من المنفى إلى «سان جرمان أون لي» ، بعثت المقاومة وجيش التحرير المغربي، بالدكتور عبد اللطيف بنجلون، حاملا رسالة إلى جلالته، مؤكدين تشبثنا بعودته إلى أرض الوطن، وفي نفس الوقت أن نتمسك جميعا، بتحرير كل التراب المغربي المحتل سواء من طرف فرنسا وإسبانيا أو القوات الدولية (طنجة)، ولو أدى الأمر إلى تقاسم الأدوار بين بناء الدولة المستقلة واستمرار المقاومة وجيش التحرير حتى التحرير النهائي مع التنسيق مع الثورة الجزائرية لإضعاف القوى الاستعمارية.
وأَضَفْتُ وهذا هو الخلاف الذي كان بين ما ينادي به الفقيه البصري باسم المقاومة وجيش التحرير، وبين ما ينادي به الدكتور عبد الكريم الخطيب، بتحويل كل عناصر جيش التحرير الى «جيش التحرير الملكي».
أجابني، رحمه لله، صحيح لقد اخطأنا عندما أعطينا الاهتمام الأكبر لبناء الدولة قبل استكمال التحرير. كان هذا آخر لقاء معه لأنه بعد أربعة أشهر تقريبا سينتقل إلى عفو لله.
المهدي بن بركة.. جريمة بدون جثة
في 29أكتوبر 1965، تم اختطاف المهدي بن بركة بباريس. ولقد أثار هذا الاختفاء ردود فعل عدة، وظل يشغل الرأي العام الوطني والدولي، حيث لا يزال مصير هذا القائد المغربي مجهولا إلى الآن.
بعد عشرة أيام من الاختطاف، أدلى عبد الرحيم بوعبيد لجريدة «الفيغارو» الفرنسية باستجواب، استعرض فيه الاتصالات الأخيرة التي تمت بين القصر والاتحاد ودعوة الأحزاب الوطنية بواسطة مذكرة للتفكير في تكوين حكومة وحدة وطنية، وأن من كانوا وراء هذا الاختفاء أرادوا منع حل ديمقراطي يشرف عليه الملك الحسن الثاني.
بعد يومين من هذا التصريح، أصدر الديوان الملكي بيانا حول التصريحات التي أدلى بها عبد الرحيم بوعبيد لجريدة «الفيغارو»، تقول إن مدير الديوان الملكي يُكذب كل التأكيدات التي وردت في هذا التصريح، وأن الاتصالات التي قام بها صاحب الجلالة مع السيد عبد الرحيم بوعبيد منذ الإعلان عن حالة الاستثناء، لم تتناول تشكيل حكومة الاتحاد ولا دخول هذا الحزب إلى الحكومة.
تعرضت صحف الاتحاد إلى مضايقات كثيرة، لدرجة أن الحزب أصدر بيانا يعلن فيه توقف صدور جريدتي «المحرر» و»ليبراسيون»، نتيجة الضغوط الممارسة من طرف السلطة ومنع نشر أي خبر حول اختطاف المهدي بن بركة. بعدها سيقول عبد الرحيم كلمته المشهورة: «بيننا وبين النظام جثة المهدي بن بركة».`
في 21 فبراير 1965، عقد الجنرال دوغول، رئيس الجمهورية الفرنسية، ندوة صحفية اتهم فيها مباشرة وزير الداخلية المغربي الجنرال محمد أوفقير بالضلوع في قضية اختطاف بن بركة، وأضاف أن المغرب لم يقم بأي شيء من شأنه مساعدة القضاء الفرنسي.
تقدم الطرف المدني المُمَثَّلْ في عائلة المهدي بن بركة بتسجيل دعوى ضد مجهول، أمام المحكمة في باريس. وعند اقتراب موعد المحاكمة، طلب مني عبد الرحيم بوعبيد التوجه مع المهدي العلوي للإشراف على سير هذه المحاكمة. وقد تسنى لي من خلال تتبعي للملف وتنسيقي لهيأة الدفاع في تكوين قناعتي التي أوجزها باختصار شديد في الفقرات الآتية:
في نهاية شهر أبريل 1965،أرسل أوفقير أحد عناصر «الكاب 1» (جهاز الاستخبارات المغربية)، ميلود التونزي الذي كان يحمل جواز سفر تحت اسم مستعار، هو العربي الشتوكي، أرسله إلى باريس لمتابعة الاتصالات التي أجراها مع «بوشيس»، وفي نفس الوقت، ربط الاتصال مع المدعو «جورج فيغون»، الذي قضى عدة سنوات في السجن، قبل إنشائه دارا للنشر وللإنتاج السينمائي، التي سيلعب دورا أساسيا، كمنتج لفيلم « BASTA»، في استدراج بن بركة في عملية الاختطاف والتي سيساهم فيها «فيغون» قبل أن ينتهي مقتولا، يوم 17 يناير 1966 ببيته، وليفضي التحقيق إلى تأكيد انتحاره.
اتصل الشتوكي في نفس الفترة ب «فيلليب بِرْنْيِي» Philippe Bernier، الذي كان صحافيا في الخمسينيات في المغرب، وبعد حصول المغرب على استقلاله، استمر في العمل بالإذاعة الوطنية، قبل أن ينتقل للعمل في الجزائر، حيث كان يعرف جل قادة الحركة الوطنية المغربية بحكم مهنته وغالب ارتباطاته كانت بالأجهزة الفرنسية. وقبل اختطاف المهدي بن بركة، أخبر «برنيي» المهدي العلوي في باريس، بأن الجنرال أوفقير اتصل به بواسطة الشتوكي، وعرض عليه مبلغا ماليا مغريا ليساعد في نصب كمين لاستدراج بن بركة.
في شهر غشت 1965، استقبل أوفقير بالرباط عصابة الأربعة القتلة المطلوبين للعدالة وهم: «جورج بوشيس BoucheseichGeorgeو«جون باليس» JeanPalice و«جوليان لوني» JulienLeny و«بيير دوباي» PierreDbail، ووعدهم بأن يسهل لهم فتح ملاهي فاخرة للدعارة بالمغرب، وذلك طبعا مقابل مساهمتهم في اختطاف المهدي بن بركة.
في الوقت الذي كانت تُنْسَجُ حبال المؤامرة لاصطياد بن بركة، كان المهدي منشغلا في توحيد شعوب القارات الثلاث، إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، في نضالها من أجل التحرر والتخلص من الاستعمار وبناء مستقبلها، وأصبح يلعب دورا أساسيا على المستوى الدولي، بحيث تدخل في الصراع التنافسي الذي كان قائما داخل المعسكر التقدمي، وبالأخص بين الصين والاتحاد السوفياتي، واستطاع إقناع كل من «ماوتسي تونغ» زعيم الثورة الصينية وقادة الاتحاد السوفياتي بأن مؤتمر القارات الثلاث يهم شعوب المنطقة بأسرها، وطلب منهم عدم إقحام صراعاتهم الثنائية للتشويش على هذا العمل الاستراتيجي، وقد استجاب الطرفان لهذه الرغبة.
ولعب المهدي دورا أساسيا في تهدئة الصراع الذي نشب بين التيار القومي بقيادة جمال عبد الناصر، والتيار البعثي بقيادة سوريا، واقتنع الجميع بضرورة التوقف عن الاختراق الداخلي، ورص الصفوف ضد العدو الحقيقي الذي يهدد كل شعوب المنطقة، وفي هذا الإطار ألقى محاضرته الشهيرة في القاهرة، بطلب من اتحاد الطلبة الفلسطينيين تحت عنوان: «تغلغل إسرائيل في إفريقيا»، حيث كشف بالحجج والأرقام أنه في الوقت الذي كانت فيه الأنظمة العربية عالقة في خلافاتها الذاتية، كان المهندسون والتقنيون الإسرائيليون يشمرون عن سواعدهم للتغلغل في أعماق إفريقيا، تحت ستار «التعاون المشترك»، ولازالت هذه الدراسة صالحة حتى الآن.
كما قد زار العديد من العواصم الإفريقية حيث كانت له صداقات متينة مع معظم قادتها المؤسسين لمنظمة الوحدة الإفريقية، وزار أيضا الفيتنام، حيث استضافه قائد الثورة الفيتنامية آنذاك «هوشي منه». ويمكن القول إنه رغم مغادرته للمغرب، فقد ظل محافظا على كل طاقاته الحيوية وإبداعاته في كل الميادين التي يشرف عليها، حيث كان يطلق عليه لقب «الدينامو» أي «مولد الطاقة» وذلك لكثرة نشاطه وفعاليته.
الاعتقال الأول بعد الاستقلال
حجزت السلطات المغربية يوم 14 دجنبر 1959، جريدة «التحرير» ومنعتها من التوزيع، بحجة أن افتتاحية العدد تتضمن جملة تقول: «إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك، فإنها أيضا مسؤولة أمام الرأي العام».
تعودنا في جريدة التحرير على هذا النوع من الممارسات التي كانت سائدة آنذاك، حيث كانت تمارس رقابة غير قانونية على الصحافة الحزبية بصفة عامة، وعلى الصحافة الاتحادية بصفة خاصة.
لكن السلطات الرسمية، هذه المرة، لم تكتف بقرار حجز الجريدة ومنعها من الوصول إلى القراء، بل دفعها انزعاجها من الافتتاحية إلى اعتقال مدير جريدة التحرير الفقيه مـحمد البصري من بيته بالدار البيضاء، واعتقالي أنا كرئيس للتحرير من مكتبي بالجريدة وتم نقلنا مباشرة إلى سجن لعلو بالرباط.
جاء هذا الاعتقال بناء على رسالة وجهها وزير العدل والأمين العام للحكومة السيد امـحمد باحنيني إلى قاضي التحقيق السيد الحداوي، حيث وجهت إلينا التهم التالية: المتعلقة بالمس بالأمن الوطني للدولة، الإخلال بالأمن العام، والتحريض على العنف.
منذ اليوم الأول من الاعتقال، وبمجرد وصولي إلى سجن لعلو، دخلت في إضراب عن الطعام، مستغلا وضعي الصحي الهش نتيجة استئصال رئتي اليمنى خلال عمليتين جراحيتين بمدينة مدريد. استنفر إضرابي عن الطعام إدارة سجن لعلو نتيجة تدهور وضعي الصحي، واستدعت الإدارة طبيبين للكشف عني، وهما الدكتور «الجبلي» والدكتور «ليون بن زكين»، الذي كان في فترة من الفترات، وزيرا للبريد في الحكومة. فقررا معا نقلي على استعجال إلى مستشفى ابن سيناء بالرباط. وفي الجناح الخاص بالمعتقلين داخله، أشرف طاقم من الأطباء المغاربة على متابعة وضعيتي الصحية، هم الدكتور التونسي والدكتور مسواك، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي المغربي، والدكتور العراقي أحمد، الذي سيصبح فيما بعد وزيرا أولا.
المواجهة مع قاضي التحقيق
خلال الاستنطاق الذي أجراه قاضي التحقيق السيد الحداوي معي و مع الفقيه مـحمد البصري، كان يلح في سؤاله: ماذا تقصدون بأن الحكومة مسؤولة أمام الرأي العام ؟
حاولت أن أشرح للسيد القاضي، أن المغرب دولة حديثة العهد بالاستقلال، وأن هذا الاستقلال جاء نتيجة تلاحم بين العرش والشعب، حيث انتفض الشعب ضد الاستعمار بعد أن تجرأت سلطات الحماية بنفي الملك. بعد حصول المغرب على استقلاله، وأن هدفنا جميعا هو بناء الدولة الحديثة اعتمادا على مبادئ الديمقراطية وسيادة العدل والقانون، وأنه، كما تعلمون سيدي القاضي، فإن السلط الثلاثة التي تعتمد على الدولة الحديثة هي السلطة التنفيذية، والتشريعية والقضائية، وأضفت بأن المجتمعات المدنية أفرزت سلطة أخرى تسمى السلطة الرابعة، هي نابعة من قلب المجتمع المدني، تعبر عن مختلف وسائل الإعلام، وأن هناك من يطلق عليها اسم صاحبة الجلالة، لأنها تعبر عن ضمير الأمة، وسلطتها تنحصر في التعبير عن الآراء المختلفة بما فيها المعارضة للرأي الرسمي، وقوتها تكمن في رأيها الاستشاري دون أن تملك سلطة لتنفيذه.
عمر بن جلون كاتبا أولا للاتحاد الاشتراكي
في بداية سنة 1972، بادر مجموعة من أطر اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى عقد اجتماعات تحضيرية بغاية إحياء التنظيمات الحزبية، للخروج من حالة الجمود التي هيمنت على الحياة الداخلية، طيلة السنوات الماضية. وأيضا من أجل تجديد الخط السياسي والإيديولوجي للتنظيم. وقد اصطلح على تسمية هذا التيار الداعي لذلك ب «اللجنة الإدارية أو «جناح الرباط»، على الرغم من أن أغلبية أطره الساحقة ومناضليه ينتمون إلى كل جهات المغرب.
تلقى هذا التيار بالإضافة إلى دعم اتحاديي الداخل الدعم من قادة الاتحاد الموجودين في الخارج، حيث بعثت أنا والفقيه البصري والمهدي العلوي، بموقف ندعم فيه هذا التوجه الذي أضحى ضروريا لبناء أداة حزبية واضحة في مواقفها السياسية واختياراتها الإيديولوجية وتوجهاتها الاجتماعية، واتصلنا بمختلف باقي التنظيمات الحزبية الموجودة بالخارج، بمختلف أقطار المنافي، لتقديم نفس الدعم، حيث تحمس الجميع بتفاؤل لهذه المبادرة.
جاءت الأحداث التي اصطلح على تسميتها بأحداث 3 مارس 1973، أي أحداث «مولاي بوعزة» لتعصف بهذا الحلم الاتحادي. وكان رد فعل الجهاز القمعي عنيفا، بحيث أتى على الأخضر واليابس، ولم تقتصر هذه الحملة القمعية على المدن، بل امتدت إلى مختلف مناطق المغرب العميق بالبوادي. بل إنه بعد صدور الأحكام عن المحكمة العسكرية بمدينة القنيطرة، تم تنفيذ حكم الإعدام في حق العديد من المناضلين في نونبر 1973 ورغم أن المحكمة كانت قد أصدرت أحكاما بالبراءة لصالح قادة وأطر مناضلي الحزب فإنه لم يطلق سراحهم، بل تم اختطافهم من قلب السجن ونقلهم إلى مراكز احتجاز غير رسمية.
بعد هذه الاعتقالات الواسعة، التي تعرض لها الاتحاديون ربيع 1973، عقد اجتماع في الجزائر العاصمة في شهر يوليوز 1973، كنت قد حضرته بمعية الفقيه البصري والعديد من الأطر الحزبية الموجودة بالخارج، وقد وَعَى الجميع أن هذه المرحلة تفرض علينا جميعا العمل على إنقاذ إخواننا في الداخل، والسهر على أن تكون المحاكمة عادلة عند تقديمهم لها. (…)
وأود هنا التوقف، عند الدرجة الخطيرة التي وصل إليها ذلك القمع، حيث أنه أثناء اعتقال عمر بنجلون في مارس 1973، وبعد أن تمت ممارسة كل أنواع التعذيب في حقه، ليعترف أنه على ارتباط مع الفقيه البصري، أخذوه في آخر المطاف في مركب حتى عرض البحر وتم رفع الضمادة عن عينيه، ثم قالوا له، أنت الآن بين خيارين اثنين، إما الاعتراف أو نلقي بك في المحيط.
في هذه الأجواء، بدأ التحضير للمؤتمر الاستثنائي الاتحادي، وقد عَقَدْتُ العديد من اللقاءات مع تنظيماتنا الحزبية بالخارج في الجزائر وباقي الدول الأوربية، وكان الجميع يدعم ويساند بناء حزب تقدمي اشتراكي ديمقراطي، قادر على المساهمة في بناء مغرب الغد.
كما عَقَدتُ لقاءات مع الفقيه البصري، واتفقنا على أن تصبح القيادة الجديدة التي سيفرزها المؤتمر الاستثنائي كلها من داخل البلاد للقطع مع الازدواجية السابقة، التي كانت تستغل من طرف أجهزة القمع، كذريعة لإجهاض أية محاولة لبناء حزب حداثي حقيقي في بلادنا، كما تم الاتفاق على التخلي عما عرف القيادة الجماعية وتعيين كاتب أول للحزب.
بعد الانتهاء من تحضير مشاريع التقارير التي ستعرض على المؤتمرات الإقليمية، لمناقشتها وإغنائها، وقبل عرضها على المؤتمر الوطني، جاء السي عبد الرحيم بوعبيد إلى باريس في نهاية سنة 1974 ،وعقدنا اجتماعا حضرته بمعية الفقيه البصري.
قدم لنا السي عبد الرحيم، عرضا مفصلا حول تطور الأعمال التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي، وملخصا لمشاريع التقارير التي أنجزتها مختلف اللجان، وأخبرناه من جهتنا بنتائج اللقاءات التي عقدت مع مختلف التنظيمات الموجودة بالخارج، وعن قرارنا بعدم تحمل أية مسؤولية مستقبلية في قيادة الحزب للقطع مع الازدواجية السابقة. هنا كانت المفاجأة، حيث أخبرنا أنه هو أيضا اتخذ نفس القرار، وأنه لن يترشح لمنصب الكاتب الأول، وأنه يرى أن الشخص المناسب لهذا المنصب هو عمر بنجلون. حاول إقناعنا بهذا الاختيار، وبأنه آن الأوان لنسلم جميعا المشعل للجيل الجديد الذي ضحى بالكثير ليستمر هذا الاتحاد صامدا، مضيفا أن جيلنا أعطى كل ما عنده، ويبقى أمامنا أن ندعمهم بتجربتنا وتوجيهاتنا، ونتركهم أمام مسؤولياتهم اتجاه الطاقات الشابة التي يعج بها المغرب.
اتفقت والفقيه البصري، بأن رصيد وماضي وقدرات عمر بنجلون تؤهله لتحمل هذه المسؤولية، ولكن الظرف الذي يجتازه الحزب وبعد المعاناة والجراح المثخنة التي تعرض لها، هو في حاجة أكثر إلى فترة من النقاهة، ومن الناحية السياسية يبقى السي عبد الرحيم الرجل القادر على المسؤولية كمرحلة انتقالية، قبل تسليم المشعل للجيل الجديد.
أضفنا أن الوضع الذي يجتازه المغرب أيضا، يعتبر وضعا استثنائيا، حيث أضيف إلى جدول أعماله، القضية الوطنية التي انخرطنا جميعا للدفاع عنها وتحملنا فيها مسؤوليتنا، وفضلا عن كل ذلك وفي ظل كل هذه الظروف، يجب أن يكون أمام ملك البلاد، قائد له معرفة مسبقة به. سبق أن تعامل معه قبل الاستقلال وفي ظل الحكومات المتعاقبة، وكان أول من يستشيره في الأزمات التي تمر بها البلاد، الذي هو السي عبد الرحيم بوعبيد، وقلنا له «أنت تعرف هذا أكثر منا جميعا».
رغم كل هذا، ظل متمسكا بموقفه، أعدنا الكرة مرات أخرى وأكدنا له مرة أخرى على أن اختياره صائب، إلا أن الظرف غير مناسبة، لا حزبيا ولا وطنيا، ونحن على يقين أن عمر سيكون أول الرافضين، والجميع ينتظر منك هذه التضحية الضرورية.
أخيرا اتفقنا على تحمله المسؤولية لقيادة الحزب، وأن أبعث برسالة صوتية، إلى المؤتمرين في الجلسة الافتتاحية، تعبر عن رأي كل القياديين والأطر المناضلين الحزبين في الخارج، وكذلك كان.
يوم 18 دجنبر 1975 أي حوالي سنة على عقد المؤتمر الاستثنائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وبعد مرور عشرة سنوات على تصفية المهدي بن بركة يوم 29 أكتوبر 1965، امتدت يد الغدر لاغتيال الشهيد عمر بن جلون، الذي رشحه السي عبد الرحيم بوعبيد لقيادة الاتحاد الاشتراكي، بالشكل الذي يذكرنا بتصفية بن بركة عندما دعاه الملك الحسن الثاني لحل المعادلة السياسية الشهيرة في بحر سنة 1965. وإذا كان الجنرال محمد أوفقير هو الذي كان وراء استقطاب القتلة لتصفية بن بركة، فمن كان وراء تصفية عمر بن جلون، الذين تخفوا وراء الشبيبة الإسلامية، التي استعملت كأداة في هذه التصفية؟.
وفاة الملك الحسن الثاني
نزل علي خبر نقل المرحوم الملك الحسن الثاني إلى المستشفى، قبل منتصف نهار يوم الجمعة 23 يوليوز 1999، كالصاعقة. ففي الوقت الذي كنت أنتظر توجيهات جلالته لتنظيم أعمال الأسبوع، فإذا بي أسمع أنه نقل فجأة إلى المستشفى.
لم يسعني إلا أن أسرع متوجها إلى مستشفى ابن سينا بالرباط، وعند وصولي إليه توجهت مباشرة إلى الجناح الذي كان يرقد به الملك الراحل، لكن الأطباء كانوا يحظرون الدخول إلى الغرفة التي كان يتلقى فيها العلاج. كانت الأجواء جد مؤلمة، في ذلك الجناح، غير أنها كانت مفعمة بالإيمان والدعوات ليمد لله في عمر جلالته، على الرغم من أنه كان باديا على وجوه المقربين، الذين كانوا أكثر اطلاعا على الوضع، أن الأمور تطورت بسرعة لا تصدق. كان الجميع في حالة يرثى لها، وبعد العصر، نادى علي صاحب السمو، ولي العهد آنذاك، سيدي مـحمد، ليخبرني أن سيدنا في حالة صعبة جدا، ولم يتبق لنا إلا الدعاء له.
وبعد ذلك، تلقيت مكالمة ثانية منه، ليخبرني بأن صاحب الجلالة انتقل إلى رحمة لله، وأمرني أن يتلى القرآن في وسائل الإعلام الرسمية، وأنه يُحَضّْرُ كلمة سيتوجه بها إلى الشعب المغربي.
اتصل بي مرة أخرى ليخبرني بالترتيبات الأولية، لإعداد مراسيم البيعة، والشروع بالتنسيق مع التشريفات الملكية في الاستعداد لاستقبال ضيوف المغرب، وتعبئة الهيأة الوزارية لاستقبالهم والترحيب بهم.
لقد كان يوما من الصعب تحمله ، خصوصا في تلك الساعات الطوال التي كانت مملوءة بالأمل، ومشحونة بنوع من الألم، حول هذا المصاب الجلل. كان شعورا مشتركا بالمأساة والحزن، وكانت تلك اللحظات تتطلب التجلد والصبر والرضا بقضاء لله.
البيعة
استحسنت كثيرا الطريقة التي تمت بها البيعة، لأنها كانت حضارية، أدخلت نوعا من الأبهة على مراسيمها، وأكسبتها وزنا قانونيا وشرعيا قويا، وهذا لا يعني بالضرورة أن البيعة لو تمت بالطريقة التقليدية، لكانت ستكون ذات مغزى سياسي أقل. أنا شخصيا عشت لحظة اعتزاز تاريخية، لأنه كان لي الشرف أن أكون على رأس الموقعين على مرسوم البيعة بعد الأسرة الملكية، فهذه مفخرة لي ولحزبي ولحركتي. لقد كانت بالفعل لحظة تاريخية أخرى. سُئِلْتُ كثيرا في الماضي، عن كيف ستكون الخلافة وكيف سيكون الأمير الوارث للملك، وهل سيكون في مستوى والده. كانت كل هذه الانشغالات لدى العديد من الصحافيين الأجانب الذين قابلتهم، وكنت بدوري دائما ما أرد عليهم بأجوبة متفائلة ويقينية بأن الانتقال سيكون طبيعيا، وفعلا فقد كان هذا الأخير أكثر من طبيعي، خاصة بالنظر إلى السرعة التي جرت فيها مراسيم الانتقال.
التقيت ولي العهد الذي سيصبح الملك محمد السادس، يوم انتقال المغفور له الملك الحسن الثاني إلى جوار ربه، قبل أن يعلن النعي للشعب المغربي. وفي كل الجلسات التي جمعتني بالملك الجديد، سواء من خلال تقديم التعازي أو أثناء مراسيم البيعة والتحضير لجنازة الملك الراحل، وجدته رجلا صابرا، رغم الألم العميق الذي كان يعتصر فؤاده. كان يشعر بالمسؤولية الكبرى التي أصبحت ملقاة على عاتقه. كما التقيته أثناء مراسيم البيعة، وكانت رغبته أن أحضر معه العشاء الرسمي، لكني عدت إلى بيتي مباشرة بعد البيعة. وفي اليوم التالي، التقيته مرة أخرى للتحضير للجنازة، وقد كان حريصا على تتبع برنامج وصول الضيوف واستقبالهم بما يليق بسمعة المغرب وهول المناسبة. وخلال يوم تشييع جنازة والده المغفور له الحسن الثاني، قمت بمرافقته لتقبيل وتوديع جثمان أبيه في القصر، وقد كان حريصا على أن لا أتعب، وأمر أن لا أرافق الموكب الجنائزي، حرصا على صحتي وتفاديا لحرارة الشمس وأن أنتقل مباشرة إلى مكان الدفن، إلى حين وصول الموكب. لقد كانت تلك اللحظات جد مؤثرة بالنسبة لي.
تقديم استقالتي من العمل السياسي سنة 2003
جرت الانتخابات التشريعية يوم 27 سبتمبر 2002 وكانت أولى الانتخابات في عهد الملك مـحمد السادس، وأول انتخاب تشريعية تشرف عليها حكومة التناوب التوافقي.
ولابد أن نسجل أن المغرب استطاع أن ينجز انتخابات نزيهة غير مطعون فيها لدرجة أن بعض الجرائد مثل الجريدة الفرنسية «لوموند»، التي كانت باستمرار تنتقد التجارب المغربية، نشرت مقالا تحت عنوان كبير عن «الاستثناء المغربي» بحيث استطاع الشعب المغربي لأول مرة أن يعبر عن إرادته من خلال هذه الانتخاب بكل حرية، بالرغم من التغييرات الجدرية التي أدخلت على نمط الاقتراع الجديد باستعمال اللائحة عوض الترشيح الفردي.
تم الإعلان عن نتائج الرسمية لهذه الانتخابات التي حصل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الأولى خمسون مقعدا، وحصل التحالف الحكومي الذي قاد تجربة التناوب التوافقي على أغلبية مريحة من المقاعد.
وبمجرد الإعلان عن هذه النتائج، التقيت صاحب الجلالة الملك مـحمد السادس، وكان حاضرا أيضا في هذا اللقاء مستشاره المرحوم عبد العزيز مزيان بلفقيه، وعرضت على صاحب الجلالة تقديم استقالتي من الوزارة الأولى، حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول الذي سيتولى تدبير المرحلة القادمة، لأن جلالته يعلم رغبتي في إعفاء من الاستمرار في تحمل هذه المسؤولية.غير أن جلالته فضل عدم تقديم الاستقالة حاليا.
يوم الأربعاء 9 أكتوبر 2002، ترأس صاحب الجلالة مـحمد السادس مجلسا وزاريا بمدينة مراكش، وكان آخر مجلس وزاري لحكومة التناوب التوافقي.
بعد ذلك المجلس استقبلني جلالته، وأثنى على المجهودات التي بذلتها خلال الفترة الزمنية التي قضيتها على رأس الوزارة الاولى، سواء في عهد والده المرحوم الملك الحسن الثاني، أو خلال العهد الجديد، بالرغم من الحالة الصحية التي لم تحل دون إنجاز العديد من المشاريع الكبرى التي شهدها المغرب خلال هذه الفترة.
وأضاف جلالته قائلا: «وفي العديد من المرات عبرت عن رغبتك في إعفاءك من هذه المسؤولية، نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعيين ادريس جطو على رأس الوزارة الأولى». شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة، وعبرت له أن الدستور الحالي (1996) يمنحه حق تعيين من يشاء كوزير أول، ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول، من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية، كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو حزب الاتحاد.
لقد استمر حبل التواصل بيننا و لايزال، إلى غاية كتابة هذه المذكرات، حتى عندما قدمت استقالة الاعتزال نهائيا من الحزب والنشاط السياسي، حيث بعث لي جلالته برسالة شخصية عبر فيها عن مشاعره تجاه ما أسديته لبلادي طيلة مساري السياسي. كما كان يستدعيني كلما سمحت الظروف للمشاركة في أفراح العائلة الملكية، أو بعض اللقاءات الرسمية أو مع بعض الرؤساء أو الأصدقاء المشتركين، وفي بعض الحالات مع عائلته الصغيرة.
كما عرض عَلَيَّ القيام ببعض المهام من حين لآخر، وكان يلح أن لا يكون لي أي حرج في قبول هذه المهام والاعتذار عنها، كما حدث مثلا في نهايته سنة 2003 عندما عرض علي تحمل رئاسة هيئة الإنصاف والمصالحة، وأنه يترك لي الرد بما يريحني.
كان حضوره الشخصي لتدشين الشارع الذي يحمل اسمي بمدينة طنجة مسقط رأسي، وهي الالتفاتة التي جاءت في إطار إحياء الذكرى السابعة عشرة، لعيد العرش يوم 30 يوليوز 2016، حدثا غير مسبوق في تاريخ المغرب ترك أثره بليغا في نفسي وأنا ممنون لجلالته على تلك المبادرة السامية.
كما أنه شملني رعاه الله، في شهر أكتوبر 2016 برعايته الملكية والإنسانية الرفيعة، إثر الوعكة الصحية التي ألمت بي، حيث أمر جلالته بنقلي إلى مستشفى الشيخ خليفة بالدار البيضاء، وكان يتابع بدقة (عن طريق الفريق الطبي المكلف) تفاصيل وضعيتي الصحية. كما قام جلالته بزيارتي شخصيا، في ظرف أسبوع واحد مرتين، ليطمئن علي، قبل أن يسافر في مهمة إلى خارج الوطن، وعين إلى جانبي مساعدة طبية، تشرف على تتبع حالتي الصحية والسهر على متابعة العلاج، والحرص على استمرار متابعة ومراقبة الأطباء وأنا شاكر له هذه الالتفاتة الإنسانية السامية.