مراكش ألف حكاية و حكاية: عن لغز الحلقة و أولاد جامع الفنا و نبي الساحة

«مراكش، ألف حكاية وحكاية «بهذا العنوان يعمّد الباحث و الحقوقي والرحالة المراكشي مولاي عبد لله العلوي المحامي بهيئة مراكش، استكشافه لأسرار ساحة جامع الفنا وألغازها عبر عمل توثيقي شاق، كانت أهم صعوبة فيه كما يفضي بذلك كاتب هذا العمل في توطئته، هي «نقل ما هو شفوي ودارجي أو محكي إلى المكتوب.» وهو مجهود ترتسم أهم معالم مساره كمغامرة في تقفي آثار الحقيقة وطياتها مطمورة في سرديات المكان التي تملأه والتي من فرط توفرها اختفت، ولم تخلف سوى ظلالها.
لم يكن الكتاب حصيلة انتباه طارئ أو مجاراة لموجة الاندهاش الاستشراقي الجديد، أو كما حدث مع عدد من الذين لم ينتبهوا أن هناك عبقرية خاصة بهذا المكان، إلا تأثرا بخوان غويتصوللو وأجانب آخرين . بل هو حصيلة مثمرة لمعايشة عميقة لواحد من أبناء مراكش الذي تمتلئ رئتاه بهوائها وتسكن مشاهدها عيونه ويعتمر وجدانه روحها. لذلك لم يكن هذا العمل الذي توفرت مادته من خلال سنوات من المعاينة والاتصال المباشر بأبطال الساحة والإنصات إلى القدامى، متواطئا متكلفا في الإعجاب والانبهار، لأنه كف عن أن يكون متسللا، تاركا للمكان حقه في السيادة والحكي.

البداية لم تكن لغزا:

يحصل القارئ على أول استكشاف لساحة جامع الفنا بسؤال البداية المحير دائما. في التاريخ ليس هناك من بداية و لا نهاية، هناك دائما ما بعد البداية و ما قبل النهاية. هل كانت ساحة جامع الفنا دائما هكذا فضاء للفرجة، تجمّع لحلقات الوعظ و الهزل والغناء والموسيقى والحكاية؟ ليس دائما، لكن هناك من يقول إن تاريخ ظهور الحلقة بها قديم. وهو بالطبع ليس رأي الكاتب مولاي عبد لله العلوي. فحتى بداية القرن الماضي (العشرين) «كانت الساحة عبارة عن سوق متربة تنتشر فيها الحيوانات وتقام فيها الخيام، وبقربها أسواق البيع والشراء في مختلف السلع، منها سوق الرحبة أي سوق الحبوب. وقد تحولت الخيام والعربات إلى أكواخ تبيع الفواكه الجافة والعادية والطواقي والألبسة التقليدية والمرطبات والأطعمة، فقد أزيلت هذه الأكواخ التي اشتهرت بـ «البراريك» وتم تعويضها بسوق مشيد يدعى «اطلع واهبط» لكثرة أدراجه و هو مجاور للساحة وكان في الأصل سوقا يدعى الرحبة..» هذه حال ساحة جامع الفنا في بداية القرن العشرين كما يصفها صاحب الكتاب، وماذا عن الحلقة وظهورها في هذا الفضاء الذي صارت هويته مرتبطة بها؟
عمر الحلقة بساحة جامع الفنا إلى اليوم يقارب المائة سنة ليس أكثر. هذا ما يميل إليه مولاي عبد لله العلوي. فإذا كان من الصعب تحديد تاريخ دقيق لبداية الحلقة بجامع الفنا، فمن الأرجح ان يكون ذلك في العشرينات من القرن الماضي، كما يقول. لذلك سياق معقول يجعل ظهورها مبررا بشكل واضح غير قابل لتغليفه بأي لغز. فقد كان هذا الظهور متزامنا مع تأسيس حي البغاء المسمى عرصة موسى غير بعيد عن الساحة، وفتح المقاهي والحانات ومحلات بيع النبيذ و المشروبات الروحية على ضفاف المكان. ومن المحتمل أن الفضاء العام الجديد احتاج إلى الساحة لتكملة المشهد،» لذلك سعت السلطات الاستعمارية المحلية إلى تشجيع الساحة» واستقطاب الحلقة إليها. قبل ذلك كانت الحلقات تقام في الأسواق.
لكن اللغز الأكبر هو كيف استطاعت جامع الفنا أن تنمي سمعتها هذه التي تلازمها، و أن تستديمها رغم أن الفضاء عرف قطائع وتحولات؟ فقد كان أهل المدينة يحذرون أبناءهم من المرور عبرها، «أما النساء فيُمنع عليهن شهود حلقاتها. بل إن البعض كان يرى فيها مكانا سيئا، عبارة عن فساد عام، وأنها مجرد رديف لحي البغاء القديم» تجمع مختلف الأصناف السيئة في المجتمع من لصوص، ونشالين، ودُعار..»
وكما ينبه إلى ذلك مولاي عبد لله العلوي، فقد كان لإنشاء محطة الحافلات التي كانت تنقل الركاب من وإلى القرى و المدن المغربية بجامع الفنا، والتي ظلت جزءا منها إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي، دور كبير و حاسم في ذيوع صيتها. فقد جعل ذلك الآلاف من الناس مضطرين إلى المرور ، بل و الوقوف في الساحة « وهو أمر لا مناص منه في حال السفر» يقول صاحب العمل. و يضيف مستجليا خبايا هذا التحول « كان الفضول و الرغبة في مشاهدة الحلقة سببا في تعزيز شهرة الساحة، ومدها بجمهور يزداد يوما بعد يوم، رغم المعارضة العنيفة التي أبداها سكان مراكش/ المدينة ضدها، والتحذير من سلوكيات مرتاديها..»
«جامع الربح» تكثف هذه العبارة ما يدل على تحول الساحة إلى نسق اقتصادي. فإذا كانت محطة الحافلات عاملا في اتساع صيتها من خلال استقطاب يومي لجماهير غفيرة تكون بحكم منطق المكان مجبرة على اختراق الحلقات واستراق النظر والسمع لها في طريقها نحو الحافلات، ومنها تتوزع في مختلف ربوع الوطن حاملة معها دهشة المكان محولة إياه إلى حكاية مضاعفة تحكى وتثير شهية ما لم يزرها، فقد كان إنشاء «السوق الجديد» عاملا لمضاعفة قوة الساحة. « حيث شيدت دكاكين لبيع الأطعمة بمختلف الأصناف، ودكاكين للحلاقة لتتحول الساحة برمتها ليلا إلى بيع الأطعمة. فتطورت جامع الفنا بسرعة إلى « مؤسسة اقتصادية»، مما اضطر السلطات إلى بناء مقر للأمن ومقاطعة محلية، ومرحاض ضخم..»

قطائع وانتصارات

«قط بسبعة أرواح» إذا كان هناك مكان ينطبق عليه فحوى هذه العبارة الشعبية فهي ساحة جامع الفنا. فقد عرفت تحولات عميقة في البيئة الحاضنة التي كانت سببا إما في نشوئها كفضاء للفرجة والترفيه، أو في انتعاشها. نُذكّر هنا بتفسير النشوء الذي قدمه مولاي عبد لله العلوي في كتابه، والذي ربط ظهور الحلقة بها بإنشاء حي البغاء وفتح الحانات و محلات بيع المشروبات المسكرة والمقاهي بالمنطقة القريبة منها. لكن مع الاستقلال مباشرة منع بيع الخمور في جل المحلات المحيطة بساحة جامع الفنا، وانتقل ذلك إلى الحي الأوروبي «جليز»، وعوض بتأسيس مقاهي جديدة، و بني مسجدان إلى جانب المسجد الأقدم بها وهو مسجد خربوش. ورغم هذا التحول زادت الساحة ازدهارا و تكاثر زوراها بالآلاف صباح مساء. لروح المكان قدرة رهيبة على الاستماتة و التكيف.
وفي بداية الاستقلال دائما ارتأت أجنحة من الحركة الوطنية بمراكش أن ساحة جامع الفنا ومحيطها وكرا للفساد والفواحش. فأُغلق حي البغاء «عرصة سي موسى» وأقفلت الساحة في وجه «الحلايقية» الذين طردوا منها شر طردة. يقول الأستاذ مولاي عبد لله العلوي في كتابه المذكور: «زعم المعارضون للساحة أن مراكش لم تك تعرف الحلقة أصلا، و إنما الحلقة جزء من الأسواق في البوادي، يقيمها فنانون جوالون، و حي البغاء كان السبب في إنشاء رديف هو ساحة جامع الفنا. ويروى أن بعض فناني الحلقة كسروا أجهزتهم، كما قتل مروض الأفاعي ثعابينه احتجاجا على الإغلاق..»
دام الإغلاق سبعة أشهر أو أكثر قليلا، وبعدها أعيد فتح الساحة في وجه «الحلاقية» يصف ذلك كاتب العمل قائلا» ازدهرت بدون حانات وخمور وبغاء. فقد قامت بإعادة إنتاج نفسها من جديد، وعوضت الفضاء الذي يحيط بها بفضائها الداخلي، ثم ذاعت شهرتها و زاد الإقبال على زيارتها. و جاءها فنانون من كل أنحاء المغرب مارسوا أنواعا جديدة من الفرجة..»
وفي بداية الثامانينات من القرن الماضي تقرر مرة أخرى أن تفصل الساحة عن أحد عوامل ازدهارها. حيث نقلت محطة الحافلات من جامع الفنا إلى باب دكالة. تنبأ البعض أنها نهاية محتومة لحيوية الفضاء. بل ذهب بعضهم بعيدا في التوقع، حيث انتظر انتقالا للحلقة إلى المنطقة الجديدة لمحطة المسافرين. وحدث ذلك فعلا مع بعض الحلايقية. لكن سرعان ما كذبت الساحة نبوءة المتنبئين. وزادت ازدهارا و إشعاعا. و تضاعف زوارها. مؤكدة أنها ليست مجرد ممارسات للخطاب تسعى لمن يدعمها، وإنما نسق اقتصادي و اجتماعي متين، شبكات من التطلع الانساني المعقد الممتزجة بتيارات الحياة التي لا تختل بفقدان أحد عوامل نموها، وإنما ترتب بالنقص مصادر قوتها. ثلاث تحولات مصيرية همت عوامل نشأتها و تطورها، لكن الساحة كانت دائما تخرج منتصرة بقوة لا نظير لها مثبتة أنه لا يمكن حصر مسيرتها في جدول و لا تقييد دلالة حركتها في نص. الساحة أصبحت هي الحكاية الكبرى، القصة التي يجب أن تروى. صارت أسطورة.

سفاج السوربون:

الساحة صدر رحب. تقبل ضيافة كل أشكال الخطاب. يمكن الوصول إليها من اي جهة بسهولة، سواء من عمق المدينة العتيقة أو من المدينة الجديدة. هي اشبه ببحيرة تصب فيها جداول وأنهار. مداخلها متعددة، من ساحة الكتبية، ومن زنقة مولاي اسماعيل، ومن شارع الأبناك، ومن درب ضبشي، ومن باب فتوح، ومن السمارين، ومن ممر البرانس، ومن رياض الزيتون. إنها مكان بذكاء خاص، رتب نفسه بدهاء. يصف مولاي عبد لله العلوي هذه الساحة الأشبه بثعبان يجدد جلده حتى لا يموت، يتكيف مع توالي الأجيال ويستجيب للرغبات المتقلبة والحاجيات المتحولة مع توالي الأزمنة وتغير الناس. في هذا الكتاب نعثر على متعة تتبع جغرافيا مليئة بالإضمارات والإيماءات. لا يفلت شيئا، من الأسواق والدكاكين وقاعات السينما والمقاهي والمطاعم. وكلها عناصر من ذات البنية، لكل واحد وظيفة داخلها في تفعيل هذا النسق المسمى جامع الفنا.
المقاهي مثلا في هذا الكتاب، تاريخ لا يخون مبدأ التغير. في البدء كان مقهى فرنسا. وفي اقصى سوق الجديد «مقهى السوربون» و هو كما يقول صاحب الكتاب «اول مقهى يباع فيه الإسفنج ليلا في مراكش، إذ لم يكن يباع إلا صباحا فقط، إلى أن بادر سفاج «السوربون» بيع الإسفنج ليلا. وضعت في المقهى كراسي طويلة، حيث يباع كأس من الشاي أو القهوة وإسفنجة بدرهم واحد أو أقل. وكان مقهى السوربون يمتلئ بالأجانب في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وبدعاة الهيبيزم، الذين أقام بعضهم الحلقة لسبب ما..» كان هذا المقهى أيضا كما يفيد بعض كتاب مراكش ملتقى للمثقفين، وكتب عنه الشاعر أحمد بلحاج آيت وارهام نصا ثمينا. وأخبر الفنان عبد الحي الملاخ كاتبَ هذا المقال أن فيه كان يلتقي عددا من الأسماء المؤثرة في الثقافة و الفن الفرنسيين وفي مقدمتهم رولان بارث و جورج موستكي.
عدوى التسليع السياحي أصابت هذا المقهى، فتحول اسمه إلى مقهى أركانة، الذي فارق بساطته. «مثلما تحولت دكاكين الحلاقين إلى بزارات لبيع المنتوجات للسياح، كما تحول مقهى ماطيش الذي كان يبيع الحريرة مع الخبز إلى بازار أيضا..» يقول مولاي عبد لله العلوي في كتابه.

بلال الذي أنكر شفاعة
يوم القيامة

ناذرا ما وفرت مادة مكتوبة هذا الكم الهائل والدقيق من المعلومات حول ساحة جامع، مثلما فعل كتاب «مراكش: ألف حكاية و حكاية» الذي تتواصل حلقاته مستجلية اشتباكات المكان والخطاب. ففي الساحة نكتشف أن الوجوه مجرد إيماءات في الأساليب المتحولة للمكان الذي يغدو فهرسا خفيا للمجازات العريقة. وهو ما أهلها (أي الساحة) التي لا يتعدى عمر الفرجة فيها مائة سنة، لتظهر كما لو كانت تقليدا أبديا راسخا. فقد وفرت الفرجة والغذاء، و«استطاعت أن تلبي مختلف الرغبات لزوارها القدامى والجدد، وظلت تنتج باستمرار الحلقات وتبدع أشكالا فنية لتلبية ذوق الجمهور: الأغاني، والحكايات، وترويض الحيوانات، مع القمار والرهان، غلى جانب الوعظ والخطب التوجيهية..وحتى لعبة الكولف تم تحجيم مسالكها بحفرة واحدة..»
يتحدث مولاي عبد لله العلوي عن حلقة برغوث صاحب أشهر حلقة بالساحة في عهد الاستعمار. كان يتظاهر في عرضه بالحديث إلى شيء ما تحت منديل يضعه أمامه يسميه «طوطو غماري» ويطالبه بالحديث عن الغائب. مثلما يتحدث عن قلوش وهو فنان كبير مات عن سن الثمانين، يزعم أنه أول حلايقي محترف بجامع الفنا. حيث دخلها سنة 1932 ووجد فيها شخصين هاويين. كان حافظا لقصائد الملحون. ويقول عنه الفنان عبد الوهاب الدكالي أنه هو من ألهمه لحن أغنية «كان يا ما كان». ويتجول بالقارئ متفحصا معالم الفرجة لدى عدد من أعلامها بالساحة كالملك جالوق والصاروخ وبقشيش وطبيب الحشرات ومخي وبلفايدة و الشرقاوي وغيرهم. لكن ما يسترعي الانتباه هي المعلومات التي يقدمها عن أحد أعلام حلقات الوعظ الذي كان يُعرف باسم بلال، الذي كانت حلقته من أضخم حلقات الوعظ بالساحة من حيث استقطاب المتابعين. يقول عنه مولاي عبد لله « كزا يلبس زيا تقليديا أنيقا، ينطلق في الوعظ معززا كلامه بمصطلحات وعبارات من الإنجليزية والفرنسية، و كان يقول إن شفاعة يوم القيامة لا سند لها. فينكر عليه البعض ذلك ويشتمه، لأن عقيدتهم أن الكل يوم القيامة يقول نفسي نفسي، إلا رسول لله يقول أمتي أمتي، وهم ينتظرون الشفاعة لما ارتكبوا من ذنوب. فكيف بهذا الجاهل ينكرها. أما هو فكان يرد : ما حملت يمينك. و بعد أن كثر عليه الهجوم اضطر إلى اتخاذ حراس لمواجهة مهاجميه.»
كان بلال يقيم في غرفة في فندق تقليدي بالمدينة القديمة. و تزوج سيدتين أوروبيتين، و أنتجت حوله قناة ال BBC برنامجا خاصا. و غادر الساحة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، و هاجر إلى لندن حيث توفي هناك. و ينبه مولاي عبد لله العلوي في كتابه إلى أن الأمر التبس على البعض حيث خلطوا بين بلال الواعظ و بلال الكناوي، الذي تزوج بدوره فرنسية و أسكنها معه في منزله العائلي بحي رياض الزيتون.

أولاد جامع الفنا:

في الساحة لا يسود سوى مبدأ واحد هو الذي وضعه د.ه لورنس «ضع ثقتك في الحكاية». ففي عصر يساء فيه فهم كل شيء، تُضارِبُ جامع الفنا في لغز الحكاية و المكان، أيهما ممارسة للثاني؟ إنها المزايدة العميقة التي ينبني عليها سحرها، أو ذاك الانتقام المتبادل بينهما الذي يجعل هذا السحر يسكننا و يلاحقنا، ليذكرنا أنه كلما أظلمت الحقيقة سطعت الذاكرة. في أحد مقاطع الكتاب الذي نتحدث عنه، يقدم المؤلف مولاي عبد لله العلوي رصدا سوسيولوجيا لافتا لنشوء هذه الظاهرة التي عممت على أفواه الناس تحت مسمى « أولاد جامع الفنا». من كانوا؟ وكيف جاؤوا إلى الساحة؟ بشكل مفاجئ يشكل مدخل الإجابة عن هذه الأسئلة حديث المؤلف عن الدور العظيم الذي لعبته «الخبازات». النساء اللائي اختصصن بمهمة بيع الخبز. فلا بهجة و لا فرح ولا انتعاش مع ألم الجوع. و عندما تمتلئ البطون تأذن للرؤوس بالغناء. كلنا كبرنا في ظل هذا الشعار النبيل. لكنهن اضطلعن أيضا، كما يشير بنباهة صاحب الكتاب، بدور اجتماعي كبير. يعيدنا هذا الدور مرة أخرى إلى أيام تواجد محطة الحافلات بجامع الفنا. حيث كان من ضمن من يفد إلى الساحة، عدد من النساء والفتيات الحوامل (خارج مؤسسة الزواج طبعا). هاربات من قرى ومدن بعيدة. «وكان أول مشهد يثير دهشتهن هو الحلقات. وكن بدون مأوى. فكانت الخبازات أول من يحتضنهن ويدبرن أمر إقامتهن ويستقبلهن في المنازل. حتى تضع الحوامل منهن حملهن. فكنت ترى أطفالا يلعبون قرب موائد بائعات الخبز. في انتظار أمهاتهن اللائي لا يأتين إلا عند المساء، بعد أن ينتهين من عمل دبرته في أحيان كثيرة بائعات الخبز. وقد كبر الأطفال وأصبح الذكور منهم «فتوات» الساحة أو «حلايقية» أو تجارا في الممنوع و المشروع، أما الفتيات فيبعن الخبز أو يقمن بغير ذلك من الأعمال المشروعة و الممنوعة كذلك..»

سيدي بولوقات: عن مشرد جامع الفنا الذي ظهر ثريا بالمامونية:

الحركة تستعير نفسها من أقدام العابرين. يصلون إلى الساحة من نقط متباعدة من الأرض. كان لفنادق سيدي بولوقات القريبة من الساحة دور هام في إسنادها بمزيد من الحالمين و التائهين و المجانين. يمنحنا كتاب مولاي لله العلوي مجالا كاشفا للوصول إلى قيمة هذا الدور. فقد كانت هذه الفنادق توفر غرفا بأثمنة زهيدة، مما شجع عددا كبيرا من الغربيين على الإقامة فيها، منهم كتاب و موسيقيون ورسامون. وعدد منهم أقام الحلقة بالساحة . منهم أمريكي كان يعزف على القيثار و ينام في المقاهي الشعبية مقابل عشرين سنتيما لليلة. وبعد سنة تقريبا، تحول فجأة إلى نزيل بفندق المامونية الفخم مرتديا ألبسة فاخرة، إلى أن غادر المدينة الحمراء. يقول مولاي العلوي في كتابه « لم يكن هو الأجنبي الوحيد، فهناك أجانب غيره أسسوا فرقة غنائية و نساء، اتخذت إحداهن ثعبانا ضخما كان أساس فرجة حلقتها، فشكلت عقدة لفرق عيساوة..»

متنبي جامع الفنا:

من طرائف هذا الكتاب، البورتريهات التي يقدمها حول عدد من الشخوص الذين ارتبطوا بساحة جامع الفنا أو محيطها. من هؤلاء هذا الشخص الغريب الذي أقنعه اسمه بأن له مهمة سماوية اتجاه أبناء زمنه. سنتتبع الوصف الذي قدمه له الكاتب :» كان يملك دكانا لبيع الملابس الجاهزة، بواجهة زجاجية ضخمة قرب ساحة جامع الفنا. و كان الطريق الذي يوجد به الدكان معبرا للسيارات ( قبل أن يغلق و اسمه حاليا ممر مولاي رشيد) توجد به إحدى أشهر القاعات السينمائية بمراكش و هي سينما مبروكة. فجأة تحولت الواجهة الكبيرة للدكان، و التي كانت معرضا للملابس إلى لوحة من الكتابات الغامضة حول الأمانة الإسلامية. و بجانب هذه البيانات مغرفة كبيرة جدا موضوعة على الزجاج، و كنا نحاول جاهدين قراءة ما جاء في تلك» الصحف» التي كتبت عمدا بطريقة قديمة و في أوراق صفراء. كان صاحب الدكان، كما فهمنا، يدعو لنفسه باعتباره مجددا أو وليا أو « نبيا». و كانت تلك الإعلانات تتغير، فهو مرة يشير إلى أقوال الرسول، ومرة يتكلم عن الأمانة التي أخذها أهل فاس، و مرة يعزز الإعلان بآية قرآنية أو حديث ينسبه للرسول..»
استفحلت أحوال هذا الرجل واشتد اعتقاده في نفسه، وصار صاحب رسالة. وأصبح الدكان فارغا من الملابس. إلى أن توج ملحمته بخروجه « العظيم» والإفصاح عن مهمته السماوية في ساحة جامع الفنا غير آبه بأنها مكان يسخر من كل شيء، من التطلعات الكبيرة و المهام العظيمة، تقوم عقيدتها الكبرى على أنه كلما كنا أكثر جدية كلما كنا أكثر حمقا. يصف ذلك صاحب الكتاب قائلا» في يوم من الأيام ـ كما سمعت ـ خرج حاملا سيفا قاصدا ساحة جامع الفنا، ووقف يعلن أنه جاء بالرسالة الإسلامية ليجدد دين هذه الأمة. وكانت الساحة مليئة بالمخبرين الذين يبلغون السلطات الأمنية بكل ما يجد في الساحة من أحداث ومن يحل بها من «فقهاء» و«علماء» و«وعاظ» و«نشالين» …وسرعان ما وصل خبره إلى مركز الشرطة القضائية الذي كان قريبا من الساحة. فحضر أعوان السلطة و اعتقلوا موسى بن عيسى حاملا سيفه. بعد إحالته على النيابة العامة لمحاكمته، اتضح أن الرجل يعاني من «لطف» شديد الوطأة، فأحيل على المستشفى، حيث قضى سنوات.»
لم يكن مولاي عبد لله العلوي يحكي ما سمعه فقط عن هذا الرجل، بل التقاه و جالسه في التسعينات، وهو أمر مكنه من أن يدرك سر هذه القناعة التي تغلي في قلبه و التي قاده وفاؤه المفرط لها إلى مستشفى الأمراض العقلية و ضياع دكانه. يعرض الكاتب خلاصته على المنوال الآتي :» تبين لي من مناقشته في أمور الدين خاصة: الصلاة والصوم، والزكاة، وحول الوضع الاجتماعي للمسلمين في العالم و فلسطين، دون أن أذكره بماضيه وإعلانه الولاية، تبين لي أن اسمه موسى بن عيسى بن محمد كان سببا في اعتقاده أنه شخص غير عادي. إذ كيف يكون من قبيل الصدفة اسمه موسى وأبوه عيسى وجده محمد؟ لابد أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ في رأيه..»
كانت آخر مرة رأى فيها الكاتب هذا الرجل، خلال إحدى جولاته بالمدينة القديمة، حيث لمح «نبي» جامع الفنا يدخل أحد الدروب راكبا دراجته النارية، و يعتمر طاقية حمراء و لحية بيضاء مشذبة.
في هذا الكتاب تمتد ضفاف سرديات جامع الفنا لتبلغ مدى الفرح و المفاجأة. يبرع صاحبه (مولاي عبد لله العلوي) في أن يزيح عن الساحة غبن الكتابة. إذ قلما كانت محظوظة فيما كتب عنها حتى وهي تتلقى التمجيد والتعظيم. كان الكثيرون ممن حولوها إلى نصوص، قلما عاشوها كتجربة حية، قلما جلسوا القرفصاء في الحلقة وتزاحموا بين جمهورها. كان أغلبهم ينظر إليها من زجاج الواجهة كسلعة معروضة للبيع، وخاصة منهم المغاربة الذين كان بعضهم مأخوذا بالمزاج الغربي و دهشته من شيء أليف بالنسبة لنا كمغاربة، و الأوفر حظا كان تحت تأثير موجة ثقافية رسخها خوان غويتيصوللو. لكتاب « مراكش، ألف حكاية وحكاية» صدى مختلف. حيث أن الساحة كانت بالنسبة لكاتبه مسارا يوميا قطعه لعقود متواصلة، حياة كثيفة، ومكان يثبت أن الحقيقة مسار متقلب، وأنه إذا كان شيء موجودا فلأنه فريد من نوعه، وأن شيئا واحدا لا ينبغي أن نسخر منه هو المستقبل. إنه كتاب ليس فقط عن الساحة ولغزها، وإنما عن مراكش، عن قاعات السينما و عن تاريخ الصورة الفوتوغرافية بها، وعن «التواشا» و«التهاند» التي نترك للقارئ متعة اكتشافها.. إجمالا عن هشاشة اليومي التي تُفتدى في الحكاية. صدر الكتاب في 2021 عن المطبعة الوطنية بمراكش.


الكاتب : مكتب مراكش: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 15/08/2022