«مرايا الظلال».. حكاية يسار لم يتبق منه إلا الظلال

لعل أهم ما يشغل بال القارئ عندما يفتح دفتي كتاب، هو معرفة موضوع الكتاب. فما عساه يكون الموضوع الذي تكبد الكاتب عبد الغني عارف قلق مقاربته، ففكر في ثمة قراء في كل مكان وفي حيث لا يكون مكان لإشراكهم في الأمر؟

 

“عتبات حكائية”، عنوان فرعي خط أسفل الغلاف حتى لا يشد الانتباه على حساب العنوان الأصلي “مرايا الظلال”، إنه الآلية التي توسل بها الكاتب تحقيق ما يروم بلوغه؛ غير أنه يعرف ان الرواية لا تتقوم إلا بالسرد الذي جوهره في البدء هو الحكي. والسرد، أليس هو عينه حكيا؟ بلى، ولكن الكاتب أراده هنا حكائيا..
تبين القراءة المتأملة لرواية “مرايا الظلال” ومن خلال مجريات الاحداث وفاعلية الشخوص فيها، أن الكاتب المغربي عبد الغني عارف قد نسج هذا المتن ببراعة تعكس تملكا معرفيا لفترة تاريخية محددة. فالموضوع، إذن هو مسار حياة طالب مناضل وعاشق؛ إنه الكاتب- المفكر، المناضل- التقدمي والعاشق- المحب. وإنني اعتقد، إن كنت أحسنت القراءة، أن الرواية “مرايا الظلال” صيغة أدبية تقارب تيمة من الصعوبة بمكان القبض على خيوطها. يتعلق الأمر بتتبع مسار وصيرورة حياة بشرية في أبعاد ثلاثة هي عصب هذا المتن الأدبي، وهي بالتتابع: الحب والسياسة والفكر. تتابع نسجه الكاتب عبد الغني عارف في حركة سيرورة دائرية تتبادل فيها الابعاد الثلاثة المواقع ومقادير التأثير بشكل جعلها بامتياز عتبة تحكي حياة الانسان المغربي؛ ياسين الذي يعتبر الخيط الناظم لقول الحياة في تعدد واختلاف تجلياتها من خلال باقي الشخصيات. لذا جاءت الرواية “مرايا الظلال” كما أرادها الكاتب عتبات حكائية في صيغة الجمع لتقول سيرة مطرزة بذاك التعدد وتلك الكثرة بلسان حال المفرد الواحد، وهو ما نقرأه في الصفحة السابعة : ( وبين صمته وإصراري، كانت الرغبة تشتعل للخطو نحو عتبات القول والتأريخ لسيرة نابضة بالأحزان والأحلام.. فكان الفعل.. وكانت الحكاية…).
لكن ما الذي يمنح لهذه المراوحة في ما بين الكثرة/ كل الشخصيات والواحد/ ياسين مصداقيتها؟ وما حجتنا على ذلك؟
حجتنا نؤسسها من صلب حدس نقر بموجبه أن “مرايا الظلال” رواية تؤرخ للتجربة السياسية التقدمية المغربية؛ تجربة يحضر فيها الحب باعتباره إحساسا نبيلا يحكي كيف يكون فعل الحياة بدون حب مجرد تيه؛ بل إن الحب في “مرايا الظلال” مرآة تعكس إرادة الاختيار الواعي بضرورة تقويض التمثلات الجمعية التي تسدل ظلالا زائفة ترسخ الحب قدرا مشؤوما يحل بأناس دون آخرين. ورغم كل ما خلفه الحب لدى ياسين من الحزن والخذلان الى حد التشظي، إلا أنه سيكسر أسوار السرية و التكتم التي اعتدناها تحيط بهذا الاحساس وتسبغ عليه طابع الحميمية في صنمية يصبح معها واحدا من الطابوهات التي يحرم كل حكي أو مساءلة بخصوصه. ذلك ما نجده في الصفحة التاسعة: (و في لجة الذهول أرى صحراء الهجر المضني تمتد أمامي، فأسأل نفسي، أنا المسكون بفتنة الذكرى: هل أخطأت العنوان حين جعلت الحب ديدني في الحياة، وأنا أعلم أنه الظمأ الأبدي الذي لا يرتوي؟ …) .
أما صدقية تلك المراوحة بين الأنا المتكلمة (ياسين) والآخرين(باقي الشخصيات)، فتجد مرتكزها في مبنى الرواية الذي اختاره الكاتب؛ مبنى حكائيا يستجيب لطول مسار تلك التجربة السياسية ولتعدد قنوات تفعيلها و ترسيخها في الواقع الاجتماعي(المدرسة، الجامعة، النادي السينمائي، الجمعية الثقافية والحزب) وكذا لتعدد القضايا التي تلامسها الرواية (الاجتماعي، التاريخي ، السياسي، الاقتصادي، الثقافي في تقاطعه مع الديني خصوصا و مع الفكري في شموليته)، ناهيك عن كون الرواية تؤرخ لمسار تاريخي عبر تتبع مسار حياة شخص بذاته، الشيء الذي يجعل التقطيع فيها تجسيدا لمنطق الواقع الذي تصوره.
إن الرواية بهذا المنطق مرايا لا مرآة واحدة، ظلال لا ظل واحد، و هي عتبات لا عتبة واحدة، وبنفس المعنى يجد القارئ نفسه أمام ياسين الطفل، ياسين الشاب، ياسين الرجل بما هو التلميذ، الطالب، المناضل، الأستاذ، المحب…وصولا إلى حالة هي نقطة الانتهاء في زمن التجربة السياسية التقدمية اليسارية وهي نقطة البدء في زمنالرواية.
وعلى ناصية زمن متعال عن الواقعي والمتخيل، ها هي الكتابة ترسم المسافة التي يجب اتخاذها ازاء هذه التجربة السياسية؛ مسافة تجسد إدراكا لتلك التجربة باعتبارها مجرد مرحلة في مسار تاريخي لا خارجه..
عندما نسمع الأنا المتكلمة تقول: (راقبني الرفيق-الظل من بعيد)، فإننا نتصور المعنى الذي تحيل عليه الكتابة و/أو الفكر بمفهوم المسافة؛ أي القطيعة مع نمط من الممارسة السياسية التي سادت في صفوف اليساريين تحديدا، مستندين الى معقولية ومصداقية لزوم الرجوع الى الوراء خطوتين، فقط؛ لو هو المضي خطوة الى الأمام ما استدعى ذلك الرجوع. والحال أننا لو التفتنا الى الأمس القريب جدا منا، لوضعنا اليد على ما ظل منفلتا لبعض الرؤى وبعض الدراسات أو التأويلات، لوجدنا أن ما سمي “حركة 20 فبراير” على العلة من حيث الهيكل لا من حيث الغايات، هي معطى مادي واقعي تاريخي لم تدرك قوى اليسار البعد العرضي فيه، من خلالها، في إحداث حركية بموجبها يغدو المجتمع قاب قوسين أو أدنى من مقولتي “ما قبل حركة 20 فبراير” و”مابعد حركة 20 فبراير”.
إن استحضار تلك الحركة-الحدث التاريخي الآن ليس من منظور أنها كانت المقوم الوحيد في آنيته تلك، ولكن نستحضرها مثالا للتدليل على فهم ملتبس للحركية التاريخية لا تحيد عنه مقاربات اليساريين في هذا المنحى.
في “مرايا الظلال”، وبالضبط في الصفحة الحادية عشر حيث نقرأ:
( تتوالى الأحداث، أمام عينيه، بملامحها القاسية: “انتفاضة 20 يونيو” بالدار البيضاء، الشرخ التنظيمي داخل الحزب….) يأتي القرار/الاعتراف في الصفحة المائة وثمانية و ثلاثين (أصبحت الكتابات الماركسية بوصلتنا في التفكير والسلوك).
بين الأمس واليوم، بين “انتفاضة 20 يونيو” و”حركة20 فبراير” نتساءل: بأي وجه حق يتم التشبث بتوطين العرضي في ما هو قار و ثابت؟
يؤشر تساؤل من هذا القبيل على أنه لا يمكن التصدي، أو بالأحرى مواجهة ما آل إليه الوضع المجتمعي على كل الأصعدة، دون الدخول في حركة مساءلة يكون قوامها النقد الذاتي الذي من شأنه تصفية هذه التجربة السياسية من الأعراض الأيديولوجية المؤسسة لأسطورة تقديس بعض الافكار باسم كونية الفكر، وتأليه الأشخاص، بهدف تقويض التصورات التي ترى في هذه التجربة السياسية رسالة خلاص تصبح إثرها السياسة ممارسة تشذ عن منطق التاريخ البشري برمته، فيتم تغييب ما هو ذاتي وما هو موضوعي واستبعاد بعد الزمان والمكان، لاعتبارها جميعا عوامل تشرط الفعل البشري؛ بل إن إسقاط العرضي من كل مراجعة لما أضحى اليوم ماضيا والابقاء فقط على ما رسخته المقاربات الماركسية عوامل ثابتة وراء الحركية التاريخية، ليعكس فهما وممارسة لاعقلانيين سيقودان، بالإضافة الى انسحاب وعزوف بعض المناضلين عن الممارسة السياسية، إلى تراجع مد الحركة التقدمية اليسارية الى حد أضحت معه ظلال الكثيرين منهم تتمشى في حشمة أمام ما آل إليه الوضع واقعيا. وهو الوضع الذي ظهرت تمفصلات الواقعي فيه مع التخييلي على الصفحة 248 حيث سيعلنون بصوت واحد: (لا نملك إلا أن نواسي أنفسنا بعزاء مشلول ومتعب، وبجسر نمد أطيافه نحو حلم متكسر بين نتوءات الطريق) .
أمام هذا الوضع المأزوم، تدخل الأنا في محاورة ذاتها؛ هل ترتد عن أحلامها التي تكسرت؟ وماذا عن تلك التي أجهضت؟ وماذا عن الجراحات التي أدمت الروح و البدن؟ والذكريات….ماذا تفعل بها؟ .. أمام كل ذلك يتجذر الاستفهام علامة بها ختم الحكي في الصفحة 248 :
(ترى أي عتبة أفتح الآن جراحها لنقيم جسرا تعبره الأحلام ونرسم في الأفق مرايا ظلالنا الوارفة؟ ).
أعتقد أن النقد هو العتبة التي يمكن أن ننفذ عبرها إلى قراءة هذه التجربة التقدمية لأن واقع الحال يبين الحاجة لذلك بإلحاح أكثر. أعني ضرورة إخضاع صيغ وأنماط تفكير وإدراك التاريخي في راهنيته ضمن سياقات الفعل(الحدث) للمساءلة العقلانية التي من شأنها أن تزيل الغموض عن بعض المفاهيم المؤسسة للمشترك الذي يتم اللجوء إليه قصد الفهم أو التأويل في مجال السياسة. بذلك نبلغ الفصل بين حدي السياسي و الأيديولوجي، وبالتالي نتمكن من القبض على ما هو منطوق سياسي وما هو منطوق أيديولوجي في الخطابات التي تظل هي وعاء السياسة في كليتها. والمقصود هو تقطيع مرحلة الفعل/الحدث ضمن الخط الزمني الذي قطعه اليسار والنظر إليها من زاوية أنها تجربة في الزمن؛ أي مرحلة ماضية يفرض منطق التطور نقدها أو تقويضها متى لزم الأمر؛ فالممارسة السياسية لحزب معين مهما تبلغ، في مجال تحديد عتبات وآليات قراءة الواقع الاجتماعي سعيا الى تغييره، من الموضوعية أقصى مدى؛ فإنها بما هي حاصل وعي أفراد ينشدون وحدة، لا تبرح كونها ممارسة تمتد داخل خلفية خاصة وشخصية لكل فاعل اجتماعي ينتمي للحزب؛ ولكنها تقدم نفسها متخفية في ضمير “نحن” في العبارة “نحن المناضلون” و ضمير “نا” في الكلمة “حزبنا”. ندلل على ذلك بفكرة أن الوجدان بحديه الإحساس والانفعال، بالإضافة إلى التصور بحديه الذاكرة والتخييل ثم الإرادة بحديها الواجب والحرية، هي جميعها ما يلون خلفية السلوك الانساني عموما وضمنه السلوك السياسي. بهذا تصبح مسألة الالتفات إلى ما هو أسباب خفية أو ظاهرة وراء ظاهرة الانشقاق الحزبي وردة أو عزوف بعض الفاعلين السياسيين(مع انهم يبقون على الانتماء كهوية سياسية غير مفعلة لو صح التعبير هنا)، أمرا جليا يشرط فهما ممكنا وتأويلا أكثر صدقية .
كما يمكن أن ندلل على جدوى إعادة قراءة تجربة اليسار بالشكل الذي بيناه سلفا بفكرة أخرى؛ تلك التي نستحضرها من عالم الطبيعة. فالطبيعة تعلمنا أن الانتخاب هو مبدأ الديمومة الذي يكون به البقاء و التطور بالفعل. كذلك هو الأمر في عالم السياسة، لكنه يتحقق بالقوة والتي تشكل في نفس الوقت الطاقة المحركة لسلم التدرجفي واقع النزاع المؤدي إلى إبدال قائد بغيره، وإبدال خلية بخلية أخرى وصولا إلى إبدال نظام بنظام جديد وفق منطق التاريخ الذي لا يبقي إلا على النموذج الأعلى-المثال باسم القوي أو باسم الصائب أو باسم الصحيح، ولأنه بهذه “الحركة نحو…” ننتج طاقة جديدة عبر عقول وإرادات جديدة تنتج بدورها حركة جديدة تؤدي إلى اهتزاز أركان ما هو قائم، قار ودائم بعلة الزعامة، الرأسمال الرمزي و/ أو أي انتماء في بعده الكاريزمي.
لعل ما تدعونا إليه الرواية “مرايا الظلال” هو المساهمة في بلورة مشروع نقدي للتجربة السياسية اليسارية المغربية، وذلك بهدف تطويرها وإغنائها تحقيقا للشرط المادي الذي يكون بموجبه البقاء للأصلح بعيدا عن أي نزوع نحو تمجيدٍ وتقديسٍ للأشخاص وللأفكار من شأنه أن يسم هذه التجربة بقدسية محنطة ضد كل تغيير أو تفاعل إيجابي، متشبثين بالمعنى الفلسفي الثاوي في مفهوم الحركة حتى لا يكون في الأمر فساد .


الكاتب : فاطمة حلمي

  

بتاريخ : 04/09/2020