دق ناقوس الخطر مرة أخرى، لتسجل مدن عديدة عودة انقطاع مياه الشرب لساعات طويلة، بل في بعض الأحيان انقطاعها كليًا عن مناطق أخرى. وبينما كانت الآمال معقودة على حلول جذرية للقضاء على هذه الأزمة المتكررة، نواجه اليوم نفس المشكلة رغم كل الجهود التي بذلت في الماضي. فبعد مرور سنوات على الخطب الملكية، وتوجيهات التحرك العاجل، والتدابير المستعجلة، لا تزال الفاتورة عالية لموردٍ ثمين يكاد ينفد.
وللأسف، رغم هذه الجهود، عادت “مسيرات العطش” لتحتل الشوارع من جديد، كما كانت في سنوات مضت. مواطنون خرجوا مطالبين بتوفير أبسط حقوقهم في الحصول على مياه الشرب، في مشهد يعيد إلى الأذهان تلك الأيام الصعبة التي عانت فيها العديد من المناطق من شح المياه. رغم تساقط الأمطار التي كانت تأملها البلاد لتخفيف الأزمة، ورغم وجود تدابير مُعلنة من الدولة، لا يزال المواطنون يعانون من نقص حاد في المياه، وهي أزمة تتكرر بشكل دوري وكأنها لم تجد بعد الحل الجذري.
لكن على الرغم من كل هذه الصعوبات، تبقى التجارب الفردية التي تعتمد على ترشيد المياه مثالاً إيجابيًا يثبت أن التغيير ممكن. شخصيًا، وعلى مدار عدة سنوات، طبقت بعض السياسات البسيطة في منزلي وأماكن عملي أدت إلى نتائج ملحوظة في تقليص استهلاك المياه. في المنزل، بدأت بتغيير جميع صنابير المياه إلى أنظمة منخفضة التدفق، بالإضافة إلى تعديل طريقة الري في الحديقة واستخدام أجهزة تحكم ذكية. ومن خلال هذه الإجراءات البسيطة، تقلصت فاتورة المياه بشكل واضح، ما كان له أثر كبير في رفع الوعي داخل الأسرة حول أهمية المحافظة على هذا المورد الثمين.
وعلى مستوى العمل، تم تطبيق تدابير فعالة مماثلة. حيث كانت مؤسستنا بحاجة إلى تحديث شامل في أنظمة الري والصيانة الدورية لجميع التجهيزات المائية. تم استبدال أنظمة الري التقليدية بمعدات حديثة لا تحتاج إلى ري دائم، بل تعتمد على تقنيات ري ذكية تساهم في توفير المياه بشكل ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، قمنا بإعادة تأهيل المناطق الخضراء بطريقة تتلاءم مع الحفاظ على المياه، مع وضع برامج توعية داخل المؤسسة للتأكيد على ضرورة ترشيد استهلاك المياه، من خلال ورش عمل وحملات توعية مستمرة للموظفين.
لكن، ورغم هذه الجهود الفردية والجماعية، تبقى المشكلة الرئيسية في الاستهلاك العشوائي للمياه في بعض المناطق، خاصة في المناطق الصناعية، حيث يتم هدر كميات ضخمة من المياه لأغراض غير ضرورية مثل غسل السيارات أو استخدام المسابح الخاصة. ولذلك، يجب أن تكون هناك رقابة صارمة ضد هذه الأنشطة، مع تطبيق عقوبات على المخالفين لضمان استخدام المياه بشكل مسؤول.
إن الحلول الجذرية لهذه الأزمة ليست معقدة، لكنها بحاجة إلى الإرادة السياسية والتخطيط المستدام. لا يمكن التغاضي عن ضرورة استثمار في محطات تحلية مياه البحر وتوسيع الشبكات المائية بطرق فعالة. كما أن هناك حاجة كبيرة للاستثمار في أنظمة الصيانة الدورية والتأكد من تطبيق تقنيات حديثة في توزيع المياه.
ما يمكن استخلاصه من هذه التجربة هو أن هناك إمكانية حقيقية لتغيير الوضع القائم، بدءًا من التوعية الفردية إلى التدابير الجماعية التي يمكن أن تتخذها المؤسسات والسلطات المعنية. قد تبدو الحلول بعيدة المنال في ظل الأزمة المستمرة، لكن التغيير يبدأ بخطوات بسيطة ومثمرة يمكن أن تحدث فارقًا حقيقيًا.
في النهاية، يجب أن يكون من الواضح للجميع أن المياه ليست فقط موردًا ثمينًا، بل هي حق من حقوق الإنسان يجب الحفاظ عليه. إذا تحلينا بالوعي الكافي وطبقنا سياسات استدامة حقيقية، فسوف نكون قادرين على مواجهة هذه الأزمة، ليس فقط اليوم، ولكن أيضًا للأجيال القادمة.
مرة أخرى وليست أخيرة: ندرة مياه الشرب وأمل التغيير

الكاتب : الحسين الغوات
بتاريخ : 19/08/2025