مريم قرابطي أخصائية في تأهيل أطفال اضطراب طيف التوحد والإعاقة الذهنية

طفل اضطراب طيف التوحد مغيب تماما في السياسات العمومية للبلاد

 

يعد طيف التوحد من أكثر اضطرابات النمو العصبي شيوعا بحيث يعاني الطفل المتوحد أو التوحدي من عجز كبير في التفاعلات الاجتماعية والتواصل الاجتماعي، والمرتبطين أساسا بمجموعة من السمات التي يمكن اكتشافها في مرحلة الطفولة المبكرة، رغم أن الشخيص الطبي بشقيه النفسي والإكلينيكي يشخص عادة في مرحلة لاحقة ما بعد السنتين إلى حدود السنة الثالثة، حيث تظهر من خلالها مجموعة من الاعتلالات السلوكية التي تمثل نمطا من الأنشطة السلوكية المختلفة مرتبطة أساسا بالانتقال من نشاط إلى آخر، والاستغراق في التفاصيل، وردود الفعل غير الاعتيادية، وكذا الأنماط السلوكية المقيدة والمتكررة.
منظمة الصحة العالمية، ترى بأنه عبارة عن مجموعة من الاضطرابات المعقدة في نمو الدماغ البشري، إذ تواجه الفرد المصاب به صعوبات متباينة على مستوى التفاعل مع المجتمع والتواصل مع محيطه، بحيث أكدت المنظمة ذاتها، على صعوبة تحديد اضطراب طيف التوحد لدى الطفل قبل بلوغ السنة لكن من الأمكن تشخيص ذلك من خلال السمات المميزة المرتبطة بالتأخر أوالتراجع المؤقت في تطوير المهارات اللغوية والاجتماعية والأنماط التكرارية، مشيرة إلى أن أسباب الإصابة بهذا الاضطراب عديدة وراثية وبيئية على حد السواء.
وتقدر منظمة الصحة العالمية بنية الانتشار العالمي لاضطراب طيف التوحد بحوالي 1 من كل 160 شخصا، أما في الاتحاد الأوروبي فقد تتراوح تقديرات انتشاره حوالي 57 إلى 67 لكل 10.000 طفل في حين أننا لا نجد تقديرات صارمة أو إحصائيات دقيقة حول انتشار اضطراب طيف التوحد في دول العالم الثالث، وذلك راجع لعدة عوامل منها عدم التشخيص المبكر للاضطراب أو نقص في الأطر الطبية وشبه الطبية المتخصصة فيه، ثم رفض اعتراف الأسر بأنه اضطراب سلوكي يلزم علاجه أو تتبعه… كذلك الحال في المغرب،يبلغ معدل انتشار هذا الاضطراب فيه حوالي 340 ألف شخص حسب إحصائيات تحالف الجمعيات العاملة في مجال اضطراب طيف التوحد بالمغرب.
وللإحاطة أكثر بهذا الاضطراب، ومحاولة فهمه بشكل أدق، حاورنا في جريدة الاتحاد الاشتراكي ذ. مريم قرابطي بحكم تخصصها بعلم تحليل السلوك ABAوهي أخصائية في تأهيل أطفال اضطراب طيف التوحد والإعاقة الذهنية بمراكش، الذي تعتريه مجموعة من الإشكالات والحيثيات والصعوبات التي تفاعلت فيها الأخصائية مريم بكل صدق ومسؤولية لتقريب قراء جريدتنا الأعزاء أكثر من هذا الاضطراب والتعرف عليه وعلى رحلة تأهيل واندماج المصابين به.

 

 

 

 ما التوحد هل هو مرض أم إعاقة أم اضطراب أو خلل في النمو العقلي والنفسي للطفل؟

شكرا لجريدة الاتحاد الاشتراكي لإثارتها النقاش حول موضوع التوحد محاولة إماطة اللثام حول طبيعة هذا الاضطراب الذي لا تكاد أي عائلة على مستوى المغرب لا تخلو من وجود طفل أو شاب بدرجة قرابة لصيقة أو بعيدة يوصف بكونه يعاني من التوحد. ولمقاربة هذا الموضوع، يمكن القول إن صدور الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية DSM5 عن الجمعية الأمريكية الاطباء النفسيين بتاريخ (18/5/2013) شكل حصاد جهود حثيثة للبحث العلمي طيلة سنوات خلت دامت أكثر من عشر سنوات، في سبيل البحث العلمي في موضوع التوحد لاسيما من حيث السمات والمعايير الأساسية للتشخيص، والذي يعتبر دليلاً رئيسياً للممارسين في ميدان الاضطرابات النفسية.حيث ووفق هذا الدليل الذي يعتبر مرجعا دوليا معتمدا من لدن منظمة الصحة العالمية في تشخيص التوحد، أصبح لدينا تحت مسمى مايعرف بـ “اضطراب طيف التوحد”، والذي يتضمن أربعة تشخيصات وهي التوحد – اضطراب أسبرغر- اضطراب الطفولة الانحلالي- اضطراب النمو المعتم غير المحدد بشكل آخر. وقد تم اسقاط متلازمة ريت في النسخة الخامسة للدليل من فئة اضطراب التوحد، ومرد ذلك إلى كون العلماء توصلوا إلى الجين المسؤول عن متلازمة ريت.
ويمكن توصيف اضطراب طيف التوحد انطلاقا من توفر معيارين أساسيين: أولاً: نقص في التواصل الاجتماعي والتفاعل الاجتماعي. ثم ثانياً: محدودية وتكرار السلوك والاهتمامات والنشاطات. ومن الجدير بالذكر أن العديد من الاشخاص لديهم لبس حول ماهية التوحد فهناك من يعتبره مرضا، والبعض الآخر يعتبره اضطرابا أو إعاقة.إلا أنه وبناء على الدليل الذي سبق ذكره، يمكن القول، إن اضطراب طيف التوحّد هو اضطراب نموّ عصبيّ معقّد، يؤثّر على كيفية تطوير المخ الطبيعي لمهارات الاندماج الاجتماعي والتواصل. ومن أبرز السمات المشتركة بين ذوي اضطراب طيف التوحّد: نجد خللا في التفاعلات الاجتماعية، والتواصل اللفظي وغير اللفظي. بالإضافة إلى مشاكل حسية نتعرف عليها من خلال كيفية استيعاب المعلومات الآتية عبر الحواس. إضافة إلى أنماط محددة من السلوكيات المتكررة.
والسلوك هنا لا يطرح بمعناه المجرد بل بمعناه المادي الملموس، ويشمل كل سلوك مادي صادر عن الشخص الحامل للتوحد شريطة أن يكون سلوكا مرئيا وقابلا للملاحظة والقياس. أي يمكن قياس شدته وتردده ومدته… ومن أمثلة السلوكات على سبيل المثال لا الحصر لأن القائمة طويلة ومتنوعة، تختلف من شخص لآخر نجد: الرفرفة باليدين / المشي على أطراف الأصابع/ النظرة الجانبية / الإيكولاليا / أحيانا الصراخ أو البكاء أو الضحك دون سبب ظاهر.. وقد يصل الأمر في بعض الحالات إلى إيذاء الذات أو الغير…إلى غيرها من السلوكات التي تميز ذوي اضطراب طيف التوحد، والتي لا يشترط أن تتواجد مجتمعة أو بنفس الحدة أو الدرجة عند كل المصابين باضطراب طيف التوحد. ولعل تسميته بالطيف تحيل إلى الإختلاف الذي يحمله هذا الاضطراب من حيث شدة وخصوصية وطبيعة ودرجة تلك السلوكات من فرد مصاب بالتوحد الى فرد آخر. فالأعراض إذن، تتدرج من معتدلة إلى شديدة ومن مزمنة إلى خفيفة. وتختلف أشكال ظهورها من طفلٍ إلى آخر.
وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية لسنة 2016، أن جل الأطفال الحاملين لاضطراب طيف التوحد يولدون في ظروف عادية، وينمون وفق تطور فيزيولوجي عادي إجمالا باستثناء نسبة قليلة تكون لديهم متلازمات مرافقة لاضطراب طيف التوحد(الصرع / اضطرابات النوم/ التاخر العقلي / صعوبات التعلم / التلاثي الصبغي…). حيث وإلى حدود سن 18 شهرا إلى سنتين نميز بين صنفين من حاملي هذا الإضطراب، فهناك مواليد يطورون بالموازاة مع حركات المشي والحركية الكبرى، مهارات على مستوى اللغة المنطوقة والتقليد والطلبات الأولى سواء بالتأشير أو بنطق كلمة أو جزء منها.
هذا الصنف يعرف نوعا من الانتكاسة ابتداء من عمر السنة والنصف حيث تكون الأسرة والأم على وجه الخصوص، أمام صدمة كبرى وتيه كبير حول مرد سبب هذا العزوف المباغث لطفلها عن الكلام وعن التواصل، وهو السن الذي يطور فيه أيضا هذا الطفل سلوكات غريبة داخل البيئة التي يعيش فيها، والتي تزج به في بئر عميق لا يعرف قراره. أما الصنف الثاني من الأطفال ذوي اضطراب التوحد فيلاحظ لديهم ومنذ الولادة غياب لأغلب المؤشرات التي تفيد قدرتهم على تطوير الجانب الاجتماعي وكذلك، غياب التواصل البصري مع حضور بارز للسلوكات النمطية والتكرارية المحدودة منذ البداية، حيث تكون الأسرة في حيص بيص حول طبيعة المشكلة التي يعاني منها صغيرها. فبمجرد ضمور المهارات التواصلية عند الفئة الثانية أو انحسارها كما هو حال الفئة الأولى، تدخل الأم والأسرة الصغيرة معا في دوامة لامتناهية بدءا من رحلة التشخيص إلى التيه حول اختيار الوسيلة العلاجية المناسبة، ثم مدى تقبل المجتمع لهذا الطفل. بحيث تستنزف هذه المرحلة من الأسر المغربية جهدا ماديا ونفسيا عظيما.

 

 كيف نتجاوز صدمة التشخيص نحو الإسراع بعملية العلاج السلوكي؟

إن رحلة التشخيص في المغرب تبتدئ عند توالي شكوك الأسرة الصغيرة حول وضع طفلها والبحث عن مخرج من ذاك التيه في محاولة لتفسير حالة الطفل،وقبل التوجه نحو الطبيب النفسي للأطفال، تتدخل العادات والوصفات التقليدية لدى بعض الأسر التي قد تصل أحيانا حد تجريب وصفات للأعشاب أو ألسنة بعض الحيوانات أو الطلاسيمقد يكون الطفل ضحيتها أوحقل تجريب لها. والتي في أحيان كثيرة، قد تزيد من نسبة السموم الثقيلة في أمعاء الطفل. وتجعله يدخل في أزمات سلوكية نتيجة عدم قدرته على التواصل والتعبير عن الألم أو الضيق الذي سببته له وصفة العطار، كما تشكل مرحلة ما قبل التشخيص لدى الأسرة تشتتا ذهنيا حول ماهية العلة التي يعاني منها طفلها.
إذ لازلنا نجد العديد ممن يعتبر أن الطفل التوحدي طفل أحمق أو مسحورأو معتوه أو متخلف عقليا… وغيرها من النعوت الجارحة في ظل غياب التوجيه نحو الطبيب. وتترسخ هذه النعوت بشكل أكبر في المناطق النائية والفقيرة، بحيث تكون نسبة الأمية جد مرتفعة، كما يجتمع ثالوث الفقر والجهل والأمية. أما في الحواضر الكبرى، فنجد نسبة تمظهر أقل لهذه المظاهر في التعامل مع ذوي التوحد نتيجة عدة عوامل،لأن معظم الأسر تقصد الطبيب النفسي للأطفال بعد مدة من عمر الطفل، قد تقصر أو تطول حسب ظروف كل عائلة. غير أن الملاحظ أن أغلب الأطفال الذين حصلوا على تشخيص باضطراب طيف التوحد يكون بعد سن الأربع أو الخمس سنوات، مما يطرح إشكالية بطء التدخل والتكفل العلاجي لذوي التوحد، فكلما كان التشخيص مبكرا كلما أتيحت الفرصة للأسرة وللمتدخلين من أجل وضع خطة علاجية ومساعدة الطفل على الاندماج الاجتماعي، ومما لا شك فيه، أننا أصبحنا خلال السنوات القليلة الماضية، نلاحظ تزايدا متسارعا في نسبة الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد في المغرب، وهذا وإن كان يشكل معطى جد مقلق لاسيما في ظل غياب إحصائيات رسمية لوزارة الصحة لعدد المصابين باضطراب طيف التوحد بالمغرب، إلا أنني أعتبره وفي سياق سلك الطريق السليم نحو العلاج من وجهة نظر أخرى، مؤشرا إيجابيا على كون جل الأسر أصبحت تقصد أهل الاختصاص العلمي. بيد أن ارتفاع نسبة ذوي التوحد هو دليل مهم على كون هذه الفئة هي نسبة تم تشخيصها عند أخصائي نفسي للأطفال، أي أن أسرة كل طفل من هؤلاء اهتدت إلى سلك الطريق نحو الأخصائي النفسي عوض الطرق التقليدية الرجعية التي لازالت نسبة مهمة ومجهولة من الأسر تدور في فلكها. إذ أعتقد بشكل جازم أن أولى خطوات علاج ذوي اضطراب طيف التوحد هي الحصول على التشخيص وهو ليس بالأمر اليسير والمتاح لكافة الأسر، باستحضار مختلف التفاوتات المجالية بأبعادها المختلفة مع الأسف. وأن الحصول على التشخيص ولو بعد حين يشكل في حد ذاته، جواز سفر في بداية رحلة البحث عن العلاج، لكن الأمر ليس بالهين على الأسرة بوجه عام، وعلى الأم على وجه الخصوص التي تكون أمام صدمة التشخيص، إذ تقحم دون سابق استعداد في حرب أمام عدو غير مرئي.
تستغرق الفترة مابين الحصول على التشخيص وبداية البحث عن مخرج علاجي مدة زمنية تتفاوت من أسرة لأخرى، إلا أنها تشترك في مجمل السمات. ولعل أبرز ما يميز مرحلة ما بعد التشخيص، هو دخول عدد كبير من الأمهات وأحيانا الآباء أيضا، في صدمة نفسية شديدة قد تصل حد بلوغ أحدهما أو كلاهما معا حالات اكتئاب بنسب متفاوتة. حيث تحتاج الأم بشكل خاص، إلى مدة زمنية لاستيعاب الصدمة والمرور إلى البحث عن وسائل كفيلة بمساعدة طفلها، ناهيك عن زيادة نسبة المشاكل الأسرية في الأسر التي لديها طفل يعاني من هذا الإضطراب، والذي تتحمل الأم في كثير من الأحيان المسؤولية كاملة، إضافة إلى محاولة الأسرة في حالات عديدة الانغلاق على الذات والدخول في عزلة اختيارية نتيجة الخوف من الوصم المتفشي في المجتمع مع الأسف، والذي لا يميز بين التوحد وغيره من الاضطرابات. ومما يلي صدمة التشخيص نجد أيضا وفي كثير من الحالات، غياب التوجيه السليم في ظل فراغ مؤسساتي لهذه الفئة وأسرها على حد السواء، إذ أن أول ما تستحضره العديد من الأمهات في مرحلة ما بعد تشخيص طفلها باضطراب طيف التوحد، مجموعة من الأسئلة الحارقة، من قبيل “هل سيكون قادرا على التمدرس” وكيف السبيل لذلك، وفي أحايين كثيرة تبدأ بتلقينه المهارات الأكاديمية، في حين أن الطفل تعوزه المهارات الوظيفية الحياتية اليومية التي تشكل أولوية التدخل.
بيد أن جل الأطفال ذوي اضطراب طيف التوحد الذين لا يعانون من اضطرابات أخرى والذين وفقوا في ولوج المدرسة بعد التكفل الوظيفي والسلوكي، ثبت أنهم قادرون بشكل كبيرعلى المواكبة، بل وأحيانا التفوق في دراستهم. وهو مايؤكد أن المهارات الأكاديمية ليست أولوية في التكفل لذوي التوحد، بل يتعين أيضا، تأهيل هذا الطفل الذي نطمح إلى إدماجه في المؤسسة التعليمية وإلى اندماجه في المجتمع.إن السبيل إلى هذا التأهيل هو تسليط الضوء على مظاهر الاضطراب، ومحاولة فهمها أو استيعابها في سياقها بهدف علاجها.وإذا كانت كل تلك المظاهر تتلخص كما سبق وأوردنا في الحركات النمطية والتكرارية المحدودة، إضافة إلى ضعف القدرة على التواصل الاجتماعي، فإن علاجها يستدعي مقاربة سلوكية تحدد طبيعة القصور أوالإضطراب السلوكي عند كل طفل على حدة، وتبلور خطة تدخل سلوكي تراعي خصوصية الطفل والبيئة التي يعيش فيها. فالتوحد اضطراب يفقر الأسر والعائلات، نظرا لارتفاع تكلفة علاجه ولتعدد واختلاف المتدخلين فيه. ذلك أن رحلة التأهيل المتعدد التخصصات للطفل الواحد تستدعي تدخل عدد من الاخصائيين، من الأخصائي النفسي PSYHCOLOGUE والطبيب النفسي للأطفالPEDOPSYHCIATRE، ثم الأخصائي الحسي الحركي PSYCHOMOTRICIEN وأخصائي ترويض النطقORTHOPHONISTE ثم المدرب المختص والمربية وأخصائي التغذية ومدرب الرياضة…إلى غيرها من التخصصات التي تتسع باتساع دائرة الأمراض أو الإضطرابات التي تلازم اضطراب طيف التوحد للطفل الواحد حيث قد تصل تكلفة التكفل بالطفل الواحد الى 10.000 درهم شهريا دون الحديث عن الحمية الغذائية للأطفال من ذوي التوحد الذين يعانون من حساسية الغلوتين أوالكازيين بحيث يحتاجون لمكملات غذائية باهظة الثمن.
أمام ثقل كاهل الأسر بمصاريف التكفل بطفل التوحد، نجد الأمهات في حالات عديدة يقمن بدور المربيات لأطفالهن ويبرعن فيه على حساب باقي مهامهن الأسرية.

 

 هل التربية الخاصة أو العلاج السلوكي ABA كتقنية علاجية كافية لتأهيل ذوي اضطراب طيف التوحد؟ أم نحتاج طرقا علاجية أخرى من قبيل العلاج الحسي الحركي أو تقويم النطق؟

تجدر الإشارة في هذا الاتجاه، إلى أنه ورغم تعدد التخصصات التي تصب في تأهيل ذوي التوحد، إلا أن التأهيل السلوكي يشكل عصبها وأساسها، حيث توجد عدد من البرامج السلوكية تنهل في مجملها من المدرسة السلوكية لعلم النفس، وتحديدا من تحليل السلوك التطبيقي .وهي منهجية علمية أثبتت نجاعتها في المختبرات التجريبية وأعطت نتائج هائلة على مستوى التأهيل السلوكي لعدد من الاضطرابات أبرزها اضطراب طيف التوحد، أو ما يصطلح عليه اختصارا بـ ABA.فالنتائج المبهرة التي حققها تحليل السلوك التطبيقي مع ذوي التوحد مرده إلى استخدام مبادئ وقواعد هذا المنهج العلمي من أجل تعليم ذوي التوحد لمهارات وظيفية جديدة وتطوير وتحسين نسبة وجودة المهارات الوظيفية المتواجدة عند الطفل. ثم العمل على إلغاء وإخماد السلوكات التي تشكل عائقا أمام تعلم الطفل أو أمام اندماجه، أو تشكل خطرا عليه أو على غيره. وهذا التدخل السلوكي يتم وفق قواعد صارمة وآليات دقيقة للملاحظة والتتبع والتدخل.
أمام هذا التشعب على مستوى التخصصات التي تتقاطع في ما بينها في سبيل إخراج الطفل أو الشاب المصاب باضطراب طيف التوحد من عزلته وتعليمه وتأهيله، نجد أن الأسر تحارب وحيدة طواحين الهواء في سبيل توفير ولو نسبة ضئيلة من التكفل العلاجي للطفل.

 هل تلعب الجمعيات المغربية المختصة بدعم وتأهيل أطفال التوحد أدوارها كما يجب أم أنها تستهلك أموال الدعم العمومي فقط؟

رغم تأسيس عدة جمعيات للعناية بذوي التوحد على مستوى مختلف الجهات والمناطق، إلا أنها تظل عاجزة عن تغطية التكفل العلاجي لكل أطفال التوحد بالمغرب نظرا لقلتها أولا ولانعدام المجانية في الولوج ثانيا. وهنا ورغم المجهودات الكبيرة التي قدمتها جمعيات المجتمع المدني المختصة بالتوحد من أجل الترافع في سبيل إقرار مجموعة من الحقوق لهذه الفئة، من قبيل الحق في التمدرس ومرافقة الحياة المدرسية والتكييف، وهنا استحضر الدور الجبار والفعال الذي لعبته المرحومة الأستاذة سمية العمراني في سبيل إخراج ملف اضطراب طيف التوحد في المغرب من العتمة إلى النور…. إلا أن دور المجتمع المدني يظل قاصرا عن استيعاب التكفل العلاجي السلوكي لكافة حالات اضطراب طيف التوحد. أما بالنسبة لمؤسسة الدولة فيسجل شبه غياب لمؤسسات عمومية تقدم خدمة التطبيب والتكفل السلوكي حصرا لذوي التوحد باعتباره الأساس في تأهيلهم. إذ أن المؤسسات العمومية التي تشتغل في هذا المجال تقدم خدماتها القليلة لكل أصناف الإعاقات والاضطرابات في ظل غياب العدالة المجالية إذ تتركز في بعض المدن الكبرى فقط.

 هل من بارقة أمل لإدماج أطفال طيف التوحد في المجتمع المغربي بنجاح دون ترك الأسر والأطفال عرضة لارتفاع تكاليف العلاج وجشع المراكز ولوبيات تجار المآسي؟

إجمالا، إن أسر أطفال اضطراب التوحد المغربية تتحمل لوحدها تكلفة تأهيل طفلها في ظل غياب تغطية اجتماعية لخاصة بهذه الفئة. إذ أن طفل اضطراب طيف التوحد مغيب تماما في السياسات العمومية للبلاد على كل المستويات. والنهوض بحقوق هذه الفئة يستدعي إرادة سياسية حقيقية عبر تكثيف جهود الفاعل السياسي والتربوي والاجتماعي من أجل تمتيع ذوي التوحد بالحق في التمدرس والتطبيب والتنقل والشغل… من أجل تمتيعه بالمواطنة الكاملة كإنسان والمساواة الكاملة مع أقرانه السليمين.
في ظل غياب أية حماية لهذه الفئة التي تعاني في صمت، ننتظر من الجهات المسؤولة خاصة وزارة الأسرة والتضامن ووزارة الصحة ووزارة التعليم، بدل المزيد من الجهود من أجل أن يجد أطفال اضطراب التوحد مكانا يليق بهم ويحفظ لهم كرامتهم ويمكن من تأهيلهم في مناخ جيد لاندماج اجتماعي فاعل وسلس يخدم أطفال اضطراب التوحد المغاربة في المستقبل دون تركهم يواجهون جشع اللوبيات وتجار المآسي من بعض مستغلي الدعم العمومي، والتنمر من أقرانهم أو حرمانهم من أبسط حقوقهم، وهي العلاج والتأهيل والمواكبة في ظل دولة اجتماعية جادة ومسؤولة تحترم مواطنيها وتحرص جيدا على علاجهم وتأهيلهم كأقرانهم التوحديين في الدول التي تضع كرامة الإنسان أولا وأخيرا فوق أي اعتبار.

 


الكاتب : د . إيمان الرازي

  

بتاريخ : 19/02/2022