«مساءات خريفية» لفريدة مزياني

قصائد تبصمها نرجسية الأنثوي

 

إن عوالم هذه المجموعة التي بين أيدينا ، في انجذابها إلى أفق الطفولة البعيدة ، ومغازلاتها المازجة بين الخطاب السمعي والبصري، تثبت إلى أي حدّ باستطاعة الأنثوي أن يمارس ثورة هادئة خفيضة ، كي يقلب بنية مجتمعية بأكملها ، ويعلن تمرده المشروع على ثقافة التشكيك في طاقة المرأة الهائلة ، عموما ، وقدرتها على كسر الأعراف والقيود البالية.
هي عوالم موازية هامسة بالوجدانيات ، ومكثفة لمعاني وألوان الذات والحياة ، تنتصر للبعد الإنساني في أعمق تجلياته ، وإن اتخذت من المحلي خلفية لها ، لتنطلق في ما بعد صوب الأشمل ، مفجرة الأحاسيس القومية ، ذودا عن أقدس قضايا العروبة وأشدها حساسية وخطورة.
إنه حضور لا محدود للأنثوي ، يلون وجود النوع البشري ، ويضفي نكهة ترجيح كفة الإستطيقي ، على عبورنا الإنساني، المتخفف من أوزار التاريخ وأخطائه وانكساراته.
تحاول الشاعرة المغربية أم دعاء فريدة مزياني، من خلال باكورتها هذه ، أن توسّع دوائر التصالح مع الذات والغيرية والكونية ، باعتماد نفس نرجسي مخملي، يعتني باللغة والصورة والدال الشعري، تفصح عن هذا التوجه ،وتدافع عن هذا المذهب في أكثر من مناسبة ، مثلما سنقف على مدلولات ذلك ،في التماعات متفرقة من المجموعة.
تقول وهي ترسم صورة للوجع المشبع بسيكولوجية الفقد:
[أيا زمني
احفر قبرا للوجع
وأبعد رفرفة النوارس
عن شطي الحارق الثائر
فهذه أمي
سُرقت
مثلما يُسرق القمر
وأكثر] (1).
كأنها عجالة وجودية ، تقترح معطيات معينة دون أن تبرر جدلية الحياة والفناء، بيد أنها تلمّح إلى دور الشعر ووظيفته الجمالية ، وعمق مخزونه ولانهائية أوعيته، المعدة سلفا ، في تلافيف اللاوعي البشري، لأجل احتواء وامتصاص أمرّ الصدمات وأقواها، كضرب من امتحان يكابده الكائن،يدلل على فراغات الأمومة ومشاهد فجائعيتها.
إنها تقيس القصيدة بمنسوب ، ما يمكن أن يخسره الكائن، ومن ثمّ فهي تكتب بدم ،لا بحبر.
كما نقرأ لها في موضع ثان ، قولها :
[استهوتني لعبة الصمّ البكم
واضطررت أن أسكن ذاتي
أغترب فيها؛
أن أومن أن الزلاّت
لا تورث الكره
لكنها تسدل السّتار
وتضيع بذلك الفصول والمشاهد
وسط دمار القلوب
والمباني
والقيم] (2).
تنخرط إبداعيا في سرب المناهضين لفكر التطرف والغلو ، تنبذ معجم الكراهية بكل ألسنه ولغاته ، كي تحط مثل عصفورة لا تجيد سوى الترنم بميكانيزمات الأنثوي المزدان بفوقية نرجسية ، تستلم لمثل هذه العفوية والبراءة في إدمان الشعر، ومنحه الرمزية التي يستحقها وأكثر.
تثرثر شاعرتنا بقلب يغوص في بيادر الطفولة البعيدة جدا ، لذا نجدها وقد نبست بها هكذا ودون تفكير حتى، في أقصى زوايا عتمة الذات والحياة ، بحيث عبّرت أو صاغت فشلها في الحب كمفهوم مطلق ، يتسامى عن النسبية ، لكنها في المقابل أكدّت تفوقها في إدمان الحرف والانتشاء بثمالة متاهاته.
والأكيد أنه اعتراف يفيد النفي، كون فشلها في الحب ،إنما يمرر علينا تجلياته، ويشوكنا بحضوره ، على نحو عكسي ومقنّع، يضع القصيدة كتوأم لتيمة الحب في شتى تلاوينه، ما ينعكس بالإيجاب، إن كتابة أو أنوية أو هوية ووجودا.
كما نقتبس لها كذلك :
[لنا عيناك
أيا قدس
وجرح عطر ذكراك
أيا أنس
رتّق فتوق النّياط
ليشهق قلبي
حدّ الصهيل
ويرقص على أنغام خشخشة الورق](3)
إنها حرقة القضية ، تدمي القلوب وتدين العالم برمته.
تجرف بكامل هذه اللعنة والسخط ، تدق ناقوس الخطر، وتتغلّف بجرأة زائدة ، تشير إلى مكمن الخلل، لا تجانبه، باعتبار القضية الفلسطينية أكبر من الشعر والهوية حتى، وبرودة التعامل معها، والتقاعس عن فكّ شفرتها وأسرارها ورموزها ، إنما يفوت على الإنسانية وليس فقط العروبة ، مكتسبات جمّة ويقود صوب انقراض كلي وقيامة معجلة.
إن شعر القضية يجب ألا تمتطيه الإيديولوجية المكرسة لكل هذا الذل العربي والهوان الكنعاني والتكاسل الإنساني ، بشكل مجمل.
مثلما نقطف لصاحبة المجموعة ، قولها ، أيضا :
[كأن وهج الحرف
رديف حلكة
لا يزهر إلا كلما ادلهمّت الظلم
واستبدّ الهيام
كأنه ذبالة
حملت دفقه
بياضا يبابا
كأنما الليل جمر
ترافقه الأنجم](4).
بمختصر القول ، إنها سلطة الشعر، وجبروت الحرف.
الكتابة المغدقة بولادات ثانية وموازية ، تنتجها قوالب الأنثوي ، مدججا بعنفوان كامل وغير منقوص ، يفيض بمثل هذه الغواية.
نقرأ لها في مناسبة أخرى:
[من قال أني بحاجة لأجنحة
كي أطير
أنا القمحية
عاشقة الكروم والتراب
والعبير](5).
هكذا نتبين عبر هذه المجموعة الجميلة ، محاولات تلميع صور الذات والحياة ، في نطاق ثقافة الذود عن الأنثوي ومعطياته.
هي كتابة واعدة ، مثلما تبرز ذلك آخر محطات الديوان ،في فضاء تجربة تراهن على تنويع الخطاب وتوسيع الرؤى، بالاتكاء على المفردة الصافية المبتكرة وإن جاورت قواميس اللفظ القشيب ، وجدّفت تبعا لتيارات السجع في عدد من منصات القول الشعري.
ممارسة مفتوحة على مجالات التحول والتطور ، عدل ما تراكمه من تجويدات الانغماس في الخطاب الهذياني ، أو الكتابة الذهنية ، مركّزة على «الحِلمية « كشرط أساسي يرتقي بجنس الشعر ، وإن أبحرت الذات في الواقعية وأوغلت في الصميم الإنساني.
هامش :
(1)مقتطف من نص « القدّيسة «.
(2)مقتطف من نص « وشوشات حانية «.
(3)مقتطف من نص « أيا قدس «.
(4)مقتطف من نص « صدى الروح».
(5)مقتطف من نص» مسافرة «.
* مساءات خريفية (شعر) ،فريدة مزياني ، منشورات جامعة المبدعين المغاربة ، طبعة2020.

*شاعر وناقد مغربي


الكاتب : أحمد الشيخاوي

  

بتاريخ : 20/01/2020