مسارات من حياة الشعيبية طلال.. 4- الطفولة المغتصبة

 

لعل الكتابة عن سيرة فنانة ذات ريادة زمنية وريادة فنية،اختلف الناس في أمرها، لشخصها وشخصيتها وإنجازاتها التي ذاع صيتها في الآفاق، حتى أصبحت المعارض العامة الدولية تخطب ودها وتتمنى أن تحتضن لوحاتها العجيبة ، تقتضي اعتماد مصادر ومراجع وطنية أو دولية موثوق بها، غير أنه، للأمانة، لا نتوفر سوى على مصدر واحد ووحيد غير مستقل وغير محايد، ألا وهو ابنها الفنان الحسين طلال، الذي لا يقدم إلا ما يلوكه مرارا وتكرارا عن سيرة الشعيبية لوسائل الإعلام أو بعض الباحثين، من غير إضافات مميزة أو إضاءات مثيرة تسعف في الوقوف على هويتها، منجزها التشكيلي وخصوصياتها الجمالية وإسهاماتها في الحركة التشكيلية العالمية.
سنحاول في هاته الحلقات تسليط الضوء-قدر الإمكان- على مسار الشعيبية الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية ترحما عليها، واعترافا بأياديها البيضاء في سبيل جعل راية المغرب خفاقة في المحافل العالمية، وإسهاماتها في إثراء المكتبة الفنية الوطنية والدولية.

تحدّرت الشعيبية من أسرة معوزة، شأنها شأن كثير من الأسر المغربية البدوية زمن الحماية الفرنسية، لكن هذا الفقر وقلة الحيلة وقِصر اليد، لم يحلْ دون أن ترفل الشعيبية/الطفلة، في طفولة بسيطة، وبيئة هادئة وناعمة بقرية اشتوكة، حيث الناس بسطاء، يقصدون أو يجولون أوراجعون من السوق الأسبوعي أو حاضرون ميتما أو عرسا أو عرفا وتقليدا أو في خصومة.. أو زائرون الولي الصالح للمنطقة.. أو نساء بئيسات بالحايك،الذي لا يكاد يكشف شيئا عنهن..
منذ صغرها، والشعيبية تتوق لأن تكون مميزة. كانت تعصِب جيدها وجبهتها بإكليل من “القرقاص” وشقائق النعمان) بلعمام) ، وهي ورود برية بيضاء وصفراء وبنفسجية وحمراء تسر الناظرين، وتمشي الخيلاء مثل الأميرات. وكانت حالمة ترخي العنان لخيالها، تحلق مثل الفراشة، مثل اليمام،عاشقة للطبيعة، بحرها، حقولها،،ظلها الظليل ..صقيعها وألوانها وأشكالها ووداعتها وتقلباتها، تحب الكلاب، واللعب بالطين، وخلق دمى من “الدوم”، تداعبها، تكلمها، تهدهدها..تؤَنِّسها، تؤنسنها..تحركها ذات اليمين وذات الشمال برفق كي تهدأ من البكاء أو كي تنام، تلاطف البهائم وتترفق بها، تحب حفيف الأشجار، وخرير المياه، ورؤية الحشرات، وطلوع الشمس وغروبها، وزرقة السماء وغيومها، ونور القمر، والليل الهادئ، والنسيم العليل، والنهار القائظ، وحركات الناس وسكناتهم، وتقاسيم وجوههم، وجلابيبهم وأغراضهم..
هجرت الشعيبية اشتوكة، القرية البسيطة، الأهالي، القناعة والطيبوبة والصدق والصفاء.. لتقيم عند عم لها بالبيضاء، المدينة الشاسعة الأطراف، حيث الأغراب، المساكن العمودية، المصالح الشخصية التي تعمي الأبصار والبصائر، الهدير، التلوث،الاكتظاظ، صعوبة المعيشة والقيم المستوردة..
عرفت الشعيبية اليُتم، حيث ماتت الأم، وتزوج الأب.وزوجة الأب، سائرُ القصص والوقائع، تخبرنا عن معاملتها الاستثنائية لأبناء الزوج، فلا حُبَّ ولا حنان ولاتربية ولا تعليم.. ولا حق في الأكل والمشرب والملبس والنوم والأحلام الوردية ..
سُرقت من الشعيبية طفولتها، لما انتقلت إلى مدينة الدار البيضاء، لتعيش مع عمها، وهي بنت سبع سنوات. لم تتشبع الصغيرة بطفولتها كسائر الأطفال.كانت بسامة، لعوبة، عيناها ضاحكتين، وكلماتها تمتح من منهل البراءة..تحيا.. تعيش صراحة في حدودها القاصية، لم يطل شغبها الطفولي كثيرا، لم تعد تركض، تلعب، بضفائرها السوداء الطويلة.. تقفل عينيها فجأة لتفتحهما على مرحلة عمرية تالية تتطلب مسؤولية ومواقف حازمة.
أخبرها عمها ذات مساء أنه “قرأ فاتحتها”، وأنها ستصبح في الغد على ذمة رجل، والرجل “مايعيبو غير جيبو”، و”الراجل بدراعو ماشي بمتاعو”. كان الخبر أكبر من إدراكها وثقافتها الطفولية،إذ لم تكن وقتئذ تزيد عن ثلاث عشرة سنة.
حان الموعد. كان اللقاء مع رجل يتحدر من مدينة ورزازات لم يُتأكد من هويته أو حسبه أونسبه أو عمله، اللهم إلا من اسمه وشكله ونيته الراسخة في الزواج.
أدركت الشعيبية أنها نهاية مرحلة نزق وبداية مشوار النضج.أُلبِست أجمل ما لديها، وعُرضت كتُحفة أو كدُمية أو كهدية العيد، تساورها الوساوس والتأسف على زمنها الجميل.
أقبلت الشعيبية على زوجها الجديد أو قدرها المكتوب.وضعت نفسها بين يديه. كان يكبرها بكثير.كانت المقابلة باردة، لم تنقشع فيها ابتسامتها الجميلة البريئة..لم ترفع عينيها إلى عينيه، لم تظهر عليها أمارة شوق أو لهفة على غرار أي فتاة تترقب الزواج بفارغ الصبر. تسلل إليها شيء من الخوف وراودتها رغبة في ذرف الدمع. لم تستطع تحمل الصدمة، واغرورقت عيناها ولم تنطق بكلمة واحدة. وكانت أختها تُربِّت على كتفها وتحاول طمأنتها.


الكاتب : عزيز الحلاج

  

بتاريخ : 13/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *