مساهمون تنضح فنصوصهم بهذا الكفاح اليومي من أجل اليوم نفسه، ومن أجل أن ينجحوا في النجاة لو ليوم آخر، ثم لليلة أخرى، ثم لأسبوع آخر، وشهر ثان، وهكذا حتى مر عام كامل
في 7 أكتوبر المُقبل نكون قد أكملنا عاما على الإبادة الجماعية في غزة، وفي محاولة منها لتوثيق للجرائم التي تعرض لها الفلسطينيون طيلة الشهور الماضية، خصصت مجلة «الثقافة الجديدة» المصرية عددها الجديد لشهر أكتوبر لشهادات كتاب من داخل المحرقة عايشوا التقتيل وحرب الإبادة الجماعية.
وبهذا تقدم مجلة» الثقافة الجديدة» وثيقة للتاريخ، وشهادة لا تموت أبدًا، استكتبت فيها نخبة من الكُتّاب والمبدعين والفنانين ممن عانوا وفقدوا حياتهم وأحبائهم وبيوتهم في ظل الإبادة.
الملف تولى مهمة إعداده وتقديمه الدكتور عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطيني السابق الذي نورد مقدمته التي ستترك جرحًا أبديًا في كل من يقرأه:
«هذه النصوص من قلب الإبادة في غزة يكتب فيها أصحابها ما يعيشونه وما يمرون به يسجلون فيها لنا الحياة كما هي هناك في ذلك الجزء من العالم الذي يتعرض للتدمير الممنهج يوماً بعد آخر. وبعد قرابة عام من الحرب، فإن العالم يبدو أكثر عجزًا عن فعل أي شيء من أجل أن يتم وقف الإبادة.
ومع ذلك فإن الكتابة تظل دائمًا هي شهادة الإنسان الخالدة على الحياة. أنا أكتب لأنجو، هكذا كنتُ أقول لنفسي وأنا أقطع مسافة تتجاوز الثلاثة كيلومترات بين خيمتي غرب تل السلطان برفح ومقر الهلال الأحمر في خربة العدس شرق المدينة.
أنا أكتب لأتأكد أنني مازلت حيًّا، وأن ثمة ما يدل على وجودي، وأنني لست مجرد شخص ميت في عالم أموات، أو شخصية افتراضية باهتة أو متوهجة في عقل مؤلف بارع، بل أنا كاتب أمارس مهنة لا يمارسها إلا الأحياء، وحين أرى ما كتبت على الورقة، أو أقرؤه بصوت مسموع عن شاشة الكمبيوتر فإنني أتأكد أنّ ثمة شخصًا ما، لا بد أن يكون أنا قد كتب كل ذلك، وأنني أستمع إليه بعد أن قام بهذا، وأسأل نفسي كيف يمكن لو لم أكن حيًّا أن أقوم وأدرك وأحس كلَّ ذلك، وابتسم وأنا أعود أدراجي من خربة العدس إلى خيمتي غرب تل السلطان، وقد تأكدت أنني لست جزءًا من نشرة الأخبار، ولا رقمًا مضافًا إلى قائمة من رحلوا بكبرياء وألم.
هذه شهادات لكُتّاب وكاتبات كتبوا من قلب المحرقة، حيث سجلوا حياتهم كما عاشوها بتفاصيل الحرب البشعة وبالبحث الدؤوب عن النجاة. هذه اليوميات تشكل مادة دسمة وغنية عن تجربة إنسانية ثرية، ومتعددة الأوجه تعكس بشاعة الحرب وقسوة الإبادة، لكنها أيضًا تقدم صورة عن الحياة خلال رحلة الهرب من الموت، والسعي للنجاة. تفاصيل عن العائلة والبيت والخيمة والمأكل والمشرب، فضلًا عن الطائرات والجنود الباحثين عن القتل، وعن الذكريات التي تصارع من أجل الثبات في وجه النسيان، وعن الحنين الذي يقدر على مواجهة ظلام التيه.
وكما يمكن الملاحظة فإن المساهمين عاشوا النزوح والخروج من البيت، والبحث عن مأوى، والسعي وراء الحد الأدنى من الحياة، فنصوصهم تنضح بهذا الكفاح اليومي من أجل اليوم نفسه، ومن أجل أن ينجحوا في النجاة لو ليوم آخر، ثم لليلة أخرى، ثم لأسبوع آخر، وشهر ثان، وهكذا حتى مر عام كامل.
هذا الملف يشكل مساهمة في تسليط الضوء على ما عاشه الفلسطيني وما يعيشه طوال عام في غزة التي أنهكتها الحرب، إلا أنها ظلت قادرة على أن تقف ولو وحيدة بشموخٍ وكبرياء فى وجه أبشع احتلال في تاريخ البشرية. ظلت غزة منذ النكبة تقاتل من أجل أن تظل فلسطين حاضرة على الخارطة، ومن أجل أن يظل الفلسطيني حاضراً يطالب بحقه وبفلسطين التي لم تفلح النكبة في مسحها من الوجود ولا من الذاكرة.
هذه النصوص مساهمة في دعم السردية الفلسطينية وحكاية الوجود العربي في البلاد الذي لم ينقطع وفى تمكين روايتنا الوطنية وتسجيل جرائم الاحتلال، وهي إلى جانب ذلك نصوص أدبية يكتبها روائيون وشعراء وفنانون كما يكتبون قصصهم وقصائدهم ويرسمون لوحاتهم».