مستقبل ضبابي

 

 

قوارب الهوية تُبحر كل يوم نحو المجهول، نحو مستقبل ضبابي، تحمل حقائبها وتغادر! دون أن تلتفت، دون أن تكترث!
وفي الطريق…؛ يتخلى راكبوها عن دفاتر الموروث ودساتير القيم، وتمضي… حتى وإن أضاعت السبيل، حتى وإن تاهت عن الدليل…
إن ما بتنا نعايشه اليوم، من انصهار للناشئة مع نوافذ تطبيقات التواصل ومن امتثال للأفراد والأزواج لشروط الانتشار… لا يدق ناقوس الخطر وحسب، وإنما يعلن عن كارثة اجتماعية حقيقة نغرق داخلها، نختنق، وربما صار الانفلات من قبضتها شبه مستحيل.
كيف لا؟ وقد نخرت «الملعونة» عقول مكونات المجتمع بكبيره وصغيره… وصار الأغلب – تفاديا للتعميم- يضحي بماله وولده وكرامته وعزة نفسه أمام أرقام، من شأنها تحقيق شهرته وانتشاره، ولو على حساب ماء وجهه.
رقص في الشارع العام أو في غرفة النوم، على كلمات أغنية (ضربت) «الترند»… تشخيص ميمي لحوار قديم، نشر غسيل الأسرة والعلاقة الزوجية، إفصاح عن الأسرار الخاصة والحميمية جدا، تلاسن وسب، وتقليد أعمى وأهبل وأطرش لثقافات أخرى دخيلة ذليلة…
اليوم، وأمام هذا الزخم المرعب من الأفكار الهدامة، يمكننا الاعتراف، ودون تردد، أن القادم صادم، وأن الحفاظ على الهوية التي تشبعنا بها والقيم التي تلقيناها على أيادي آباء لم يعرف «التيكتوك» سبيلا إليهم، مهمة صعبة جدا، تتطلب مجهودات مضاعفة، انخراطا كليا، تحملا شاملا للمسؤولية، وربما فرارا نحو جزيرة لم يدخلها الأنترنيت بعد.
وبالنظر إلى ماهية الوضع وجوهره، يتراءى جليا أن الأجيال الصاعدة، هي ضحية لدهشة البدايات! حيث لم تكن علاقة المجتمع بمواقع التواصل الاجتماعي في بداية الأمر، سوى فضول ودهشة، قبل أن يتحول الرابط إلى حماس، فانبهار وإعجاب وتعود، ثم عشق سام، تعلق وإدمان يتطلب التشافي منه تدخل متخصصين نفسيين وخبراء سوسيولوجيين.
وما أصعب أن يؤدي صغارنا أو بالأحرى رجال الغد، ضريبة دهشة غير محسوبة العواقب! ليصير الطفل اليوم يقتدي بالمؤثر الفلاني والبلوغر العلاني، اللذين لا يترددان في إخباره بأن طرق كسب الأموال سهلة جدا إذ يكفي أن ينقر على أحد الأزرار ليصير مليونيرا، وأن الحصول على التقدير المجتمعي والاحترام مقترن بعدد المتابعين! دون أن يخبرانه أنه هو السلعة التي يُباع فيها ويُشترى، وأن الوصول يتطلب السقوط ثم المثابرة، وأن الحياة دروس وتجارب نعيشها بخروجنا من المواقع إلى أرض الواقع.
لتواصل قوارب الهوية إبحارها نحو المجهول، وتفقد كل يوم وهي في طريقها إلى اللامكان، صفحة من كتاب القيم وكتابا من دليل الشيم.

* صحافية وكاتبة


الكاتب : مريم كرودي

  

بتاريخ : 28/08/2024