مسعورو الهاتفِ المحمول .. «مجتمع اللاَّتلامُسَ: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل

 

إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.

مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟
لِنُلاَحِظْ أَنَّ هذه النظَّاراتِ كانَ لها، على الأقلّ، فَضْلُ القضاءِ على الممرَّاتِ المخصَّصةِ للرَّاجلينَ «المُتَّصلين»، والَّتي ظَهَرَتْ أوَّلَ الأَمْرِ، في الصِّين. هنالك، حَيْثُ الحوادثُ، الَّتي يَتَعَرَّضُ لها الرَّاجلونَ، بِعُيونِهِمُ المُتَسَمِّرَةُ على هواتِفِهِمْ، مُتَواترَةً، إلى حَدِّ أنَّ بعضَ المُدُن، اقْتَرَحَتْ إحْداثَ مَمَرَّاتٍ خاصَّةٍ بالرَّاجِلِينَ، الَّذينَ ما تَنْفَكُّ عُيونُهُمْ تَنْغَرِسُ في شاشاتِ هواتِفِهِمْ، دُونَمَا انتباهٍ لمَخَاطِرِ الطَّريقِ، (Smombies)، هؤلاءِ المسعورونَ بالهاتفِ المحمولِ. نَعْثُرُ بالجنوبِ الغَرْبيِّ مِنَ الصِّين، وبالضَّبط في بلديَّة «Chongqing»، على مَمَرَّيْنِ للرَّاجلين، جنباً إلى جنبٍ. في الجِهَةِ اليُمْنَى، أشخاصٌ يَتَقدَّمونَ بِخَطَوَاتٍ سريعةٍ، و في الجانبِ الأيْسَرِ، مَوْكِبٌ بشريٌّ يتقدَّمُ بِبُطْءٍ، رُؤوسُهُم مُطَأْطَأَةٌ، يَمْشُونَ ميكانيكيًّا ووَعْيٌّهُمْ مأخوذٌ بهذا العالَمِ الافتراضيِّ.
مَمَرَّانِ مُتَوَازِيَّانِ، صُورِيًّا، لكنَّهُما في الحقيقةِ مَتعارِضانِ تماماً. مِنْ جِهَة، أولئكَ الَّذينَ هُمْ في قَلْبِ الحياةِ، عُيونُهُمْ في وجهِ العالمِ، ومِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أولئكَ المَأْخوذُونَ بِشاشاتِهِم.
هَذَانِ المَمرَّانِ يُبَنْيِنَان فضاءَ الرَّاجلينَ، داخلَ مُجْتَمَعِ «الَّلاتَلاَمُسَ». في كوريا الجنوبيَّة- حيثُ نسبةُ – امتلاكِ هواتفَ «ذَكِيَّة»، هي الأَعلَى عَالَميّاً (95% من البَالِغِين، يمتلكونَ هاتفاً واحداً على الأقلّ، مُقابلَ 81% بالولاياتِ المتَّحدةِ الأمريكيَّة، و75% في فرنسا) – تَمَّ تَثْبِيتُ إشاراتٍ ضوئيَّةٍ أُفُقِيَّةٍ، مُتَزَامِنَةٌ مع إشاراتِ المُرورِ، لتنبيهِ هؤلاءِ المَسْعُورِينَ الرَّقْمِيِّينَ. نَفْسُ الشَّيْء، في سنغفورة، وسيدني، وتل أبيب، وبودغرافن، بالأراضي المنخفضة. أَشَارتْ دراسةٌ أَنْجَزَتْهَا مُؤسَّسَةُ (You gov) في فرنسا، سنة 2019، إلى أنَّ 65% من الرَّاجلينَ يَتَصَفَّحُونَ هواتِفَهُم مَاشِينَ، أو مُجْتٓازِينَ لِمَعْبَرِ المُشَاةِ، مِمَّا يُفَاقِمْ حِدَّةَ الحوادثِ.
لكنْ كيفَ يُمْكِنُنَا أن نَتَقَبَّلَ تحوُّلاً، بهذا الشَّكْل، للفضاءِ العموميِّ؟
يبدو أنَّ مُجْتَمَعَنَا قد انْصَاعَ خَانِعاً، لهذا الإدمانِ الجديدِ، إلى حَدِّ الإِحْتِفَاءِ بهؤلاءِ المسعورينَ، بِإِحْدَاثِ ممرَّاتٍ خاصَّةٍ بِهِمْ. هؤلاءِ المسعورُونَ الَّذين أَصْبَحْنَاهُمُ. أَلاَ يُسْتَحْسَن أنْ نتساءلَ حَوْلَ أَسبابٍ خُضوعِنا ومُجَابَهَتِهَا، بَدَلاً مِنْ أَنْ نَتَبَنَّى سِيَّاسَةَ النَّعامَة، الَّتي َلنْ تَقُودَنا إِلاَّ إلى الإِرْتِطَامِ بِالحَائِطِ؟ لقد وَلَّدَ الهاتفُ المحمولُ أعراضاً جديدةً، «كالنوموفوبيا» /»Nomophobie»، أوِ الخوفُ مِنْ أَنْ تَكونَ مَعْزُولاً عن هاتِفِكَ، وهو إضْطِرابٌ يَزُجُّ بالفردِ داخلَ حالةٍ من الإكتئاب.
لَقَدْ كَشَفَتِ الدِّارسةُ الحديثةُ الَّتي أَنْجَزَتْهَا مدرسةُ الأَعمالِ التِّجاريَّة، بالمدينةِ الجامعيَّة في لُنْدُن، عَنْ تَوَجُّسِ بَعْضِ الُّلنْدُنِيِّين الدَّائِمِ، مِنْ نُضُوبِ بَطَّارِياتِهِم. البَطَّارِيَاتُ، حَسَبَ هؤلاءِ الباحِثِينَ، تُبَنْيِنُ حَياتَنا اليوميَّةَ بمستوياتٍ غَيْرَ مُتَوَقَّعَة. بَاتَتْ حُمُولَةُ البَطَّاريَةِ، أداةً لقيَّاسِ الزَّمَنِ أكثرَ أَهَمِّيَةً مِنْ ساعةِ اليَدِ. البَعْضُ يَشْرُطُ تَنَقُّلاتِهِ، بِمَا تَبَقَّى في بطَّارِيَتِهِ مِنْ زَمَنِ الشَّحْنِ، أَوْ بِنُقَطِ الشَّحْنِ الَّتي يُتَيَسَّرُ الوصُولُ إْلَيْهَا. في العديدِ مِنَ الشَّهاداتِ الَّتي تَمَّ اسْتيقَاؤُها، ثَمَّة مُعْطًىً ثَاِبت يفْرِضُ نَفْسَهُ. «إذا نَضُبَتْ بطَّاريَتي، مِتُّ رَمْزِيًّا». فَأَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْكَ، في عالمِنَا ذِي الاتِّصالِ الفائقِ، (Ultra-Connecté)، أنْ تُجيبَ عَنِ الرَّسائلِ النَصِّيَةِ، وعَنِ الإيمَايْلاتِ، وعَنِ الإشْعاراتِ، فذاك «مَوْتٌ اجْتِمَاعِيٌّ»، حَيْثُ يَغْدُو الفَرْدُ لامَرْئِيًّا. بَطَّارِيَةٌ فارِغةٌ، تُفاقِمُ قَلَقَاً جديداً، لأَنَّها تُعَطِّلُ مَرَافِقَ العالَمِ الحديثِ. شَاحِنُ البطَّارية، هذا التَّافِهُ، الَّذي غالباً ما يضِيعُ مِنَّا، بِقَدْرِ ما تَضِيعُ جوارِبُنا، قَدْ يَغْدُو مَوْضُوعَ نِزَاعاتٍ عائلِيَّةٍ عديدة.
لكنْ، أيضاً، نَسْتَطيعُ أَنْ نُهَنِّئَ أَنْفُسَنا على هذه الثَّغَراتِ التِّكنولوجيَّة، الَّتي تَنْتَظِمُ، بهذا القَدْرِ أَوْ ذَاكَ، دَاخِل تَقَادُمٍ مُبَرْمَجٍ. بَطَّارِيَةّ تَخْذُلُنَا، هي الضَّمانةُ لِأَنْ نَعْثُرَ مُجَدَّداً، على شَيْءٍ مِنَ الإستقلالية، لكنْ، ما الَّذي يَحْدُثُ ما إِنْ يَتَوارَى الإِحْسَاسَ بِالذُّعْرِ، جَرَّاءَ فُقْدَانِ الاتِّصَال؟ نَمْشِي ونَحْنُ نَنْظُرُ إلى العالَمِ وجهاً لِوَجْه، نُلاَحِظُ بعضَ التَّفاصيلِ المحيطَةِ بِنَا، يُمْكِن أَنْ نَذْهَبَ إلى حَدِّ الانْخِرَاطِ في نَسْجِ حوارٍ مع شخصٍ نَجْهَلُهُ، لِنَسْتَوْضِحَهُ عَنِ الطَّريق !
نَتَفَادَى دَوماً- بِالنَّظَر إلى أَنَّ التَّواصُلَ الرَّقْمِيِّ فَعَّالٌ ومُريح- الإِتِصَالُ المُبَاشِر مع الأشخاصِ الفِعْلِيِّين، بَلْ نَتَفَادَى الاتِّصَالَ بالواقِعِ نَفْسِه. يَنْزِعُ الرَّقْمِيُّ شيئاً فشيئاً، إلى مَحْوِ وَضْعِيَّة «وجهاً-لوجه» الواقِعِيَّةَ.
يَغْدُو دَوْماً، هذا الاتِّصَالُ خَالياً مِنْ إمْكانِيَّةِ التَّجَسْدُنِ، ومُتَعَارِضاًـ مع وضْعِيَةِ «وجهاً- لوجه»، كَمَا يُصَرِّحُ بذلك الفيلسوفُ الكوري-الجنوبي، «Byung-Chul han». صحيحٌ أَنَّنَا، حِينَمَا نُجْرِي مكالماتِ-فيديو، (Face Times)، أوْ فيديوهات على «السكايب»، لَمْ نَعُدْ، بَعْدُ، نَنْظُرَ مباشرةً إلى أَعْيُنِ مُخَاطَبِينَا، ولكنْ، دُونَ هذا القَيْدِ الَّذي يَعُوقُ فِعْلَ الحَرَكَة، سَنُعِيدُ نَسْجَ الرَّابِطِ الاجتماعيِّ، بِيدَ أَنَّهُ ما إِنْ نَسْتَمْتِعَ بِلَحْظَةٍ خَاطِفَةٍ، تُتِيحُ التَّسَاؤُلَ حَوْلَ هذا الإِحْسَاسِ الغَريبِ بِالحُرِيَّة، حَتَّى نَعْثُرَ، على مُزَوِّدٍ كهربائيٍّ يَضَعُنَا مُجَدَّداً، تحتَ سَطْوَةِ الافتراضيِّ.
تَتَعَزَّزُ في دروبِ عالَمِ ما بَعْدَ كوفيد19، ظاهرةُ الاِنْفِصَالِ عَنِ المُجْتَمَع، حيثُ النَّاسُ، مُقَنَّعوُنَ بِكَمَّامَاتِهِم، يُشَكِّلُونَ عِنْدَ أَيِّ مَلْقىً، تَهْدِيداً بِعَدْوَى مُحْتَمَلَة. فَأَنْ تَسْتَفْسِرَ «غوغل» عن مَسَارِكَ، بَدَلاً مِنْ شخصٍ مَجْهُولٍ يَمُرُّ بِمُحَاذَاِتكَ، فَذَاكَ تَدْبِيرٌ احتياطيٌّ لتباعدٍ اجتماعيٍّ مَطْلُوب.


الكاتب : محمد الشنقيطي / عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 30/08/2023