مشروع الخطاب الإسلامي العلماني 4- الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية

ساهم نصر حامد أبو زيد في وضع واحد من أكثر المناهج الفكرية كفاءة وموضوعية لقراءة التراث الإسلامي، وقاد صراعا شرسا ضد المؤسسة الدينية التقليدية التي عملت على تكفيره..
ولعل هذه القراءات السريعة في بعض أعماله ترتقي إلى مصاف رد الجميل لمفكر شجاع حاول أن يقي الأجيال العربية من الامتثالية والتزييف في الوعي والثقافة.

 

يعتبر الشافعي (150-204 هـ) المؤسس الحقيقي للوسطية في مجال الفقه والشريعة، وإليه يعود فضل الريادة في تأسيس التيار الأصولي لما يسمى بأصول الدين وأصول الفقه بكل دلالته الاجتماعية والسياسية.
والتيار الأصولي (الشافعي) – كما يرى أبو زيد – قد دفعت به أسباب تاريخية – اجتماعية اقتصادية سياسية إلى موقع السيادة والسيطرة، بمعنى أن تغير الظروف والملابسات كان يمكن أن يدفع بتيار آخر، وهذا الكلام موجه للذين يريدون أن يجعلوا من هذا التيار الخاص حاكماً على الثقافة والتاريخ والواقع، فالقول بجوهرية (الوسطية) واعتبارها سمة أصيلة من سمات الفكر الإسلامي والثقافة العربية قول يحتاج لمراجعة تكشف بعده الأيديولوجي وتعريه من ثياب القداسة التي ألبست له في تاريخنا الثقافي والعقلي.
في المنهج، يعتمد أبو زيد في دراسته عن الشافعي على تحليل الأفكار والكشف عن دلالتها أولاً ثم الانتقال إلى مغزاها الاجتماعي السياسي- الأيديولوجي ثانياً.
وتجنباً لمزالق التحليل الميكانيكي- الانعكاسي فإنه يبدأ بالحركة من الداخل إلى الخارج.. من الفكر إلى الواقع الذي أنتجه، غير متجاهل لضرورة وضع الفكر الشافعي في السياق الفكري العام للعصر الذي أنتجه وفي سياق المجال المعرفي الخاص – مجال أصول الفقه- لأن أطروحات الشافعي لا تفهم بمعزل عن الصراع الفكري الذي كان محتدماً بين أهل (الرأي) وأهل (الحديث) في مجال الفقه والشريعة ولا يمكن لهذا الصراع بدوره أن يُفهم حق الفهم إلا في سياق الصراع الفكري على مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم من المشبهة والمرجئة، وهذا الصراع المركب سيحيل من داخله إلى صراع آخر مركب أيضاً وعلى مستويين:
– مستوى الصراع الشعوبي بين العرب والفرس خاصة وهو صراع كانت له أبعاده الثقافية والفكرية الواضحة. ومستوى الصراع الاجتماعي- الاقتصادي السياسي الذي كان يتخذ في الغالب شكل الصراع الفكري- الديني ويتركز في النهاية حول تأويل النصوص الدينية.
– أما الأصول الفقهية للشافعي فتتركز على أربعة هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وهو دائماً يؤسس اللاحق منها على السابق فالسنة تتأسس مشروعيتها على الكتاب، لتصبح مصدراً ثانياً للتشريع، وإذ يصبح الكتاب والسنة بناء عضوياً دلالياً واحداً يمكن للشافعي تأسيس الإجماع عليه ليصبح نصاً تشريعياً يكتسب دلالته من النص المركب من الكتاب والسنة، ويأتي الأصل الأخير في أصول الشافعي (القياس والاجتهاد) ليتأسس استنباطاً من الأصول الثلاثة السابقة.
ويرى أبو زيد أن هذا التركيب وهذا التأسيس لأصول الفقه الشافعي تأسيس يعتمد في الأساس على تحويل (اللانص) إلى مجال (النص) وتدشينه نصاً لا يقل في قوته التشريعية وطاقته الدلالية عن النص الأساسي الأول الذي هو القرآن الكريم.
إن هذه الآلية، آلية تحويل (اللانص) إلى مجال (النص) وما تؤدي إليه من تضييق مساحة الاجتهاد والقياس بربطه بوثاق النص ربطاً محكماً، آلية لا تخلو من مغزى أيديولوجي في السياق التاريخي لفكر الشافعي وفي فكرنا الديني الراهن على حد سواء.
ويرى أبو زيد أن الشافعي يقع أحياناً في التناقض بسبب اندفاعه الأيديولوجي ويضرب على ذلك مثلاً في موقف الشافعي من مشكل وجود بعض الألفاظ الأعجمية في لغة القرآن حيث يرى- خلافاً لما استقر عليه الرأي في عصره- أن هذه الألفاظ هي في الواقع ألفاظ عربية وأن القائلين بغير ذلك جهلوا هذه الألفاظ أساساً فتوهموا أنها ليست عربية طارحاً (أي الشافعي) اتساع اللسان العربي اتساعاً يجعل من المستحيل الإحاطة به إلا للأنبياء.
إذاً طالما أن اللسان العربي بهذا الاتساع الذي لا يحيط به إلا الأنبياء، فإن مهمة تفسير القرآن تصبح عسيرة على غيرهم، هكذا يناقش أبو زيد موقف الشافعي منبّهاً إلى تجاهله- أثناء دفاعه عن اللسان العربي- الحروف أو اللهجات أو اللغات السبعة التي تنزّل فيها القرآن والتي استقرت أخيراً- بناء على توصية عثمان بن عفان- على لغة قريش.
– إن دفاع الشافعي عن اللسان العربي ليس إلا دفاعاً عن القرشية التي يتحدر منها ودفاعاً عن نقاء لغة قريش لتأكيد هيمنتها وسيادتها الثقافية والسياسية، ورغم أن هذا الدفاع عن قريش، الذي لا يخلو من انحياز أيديولوجي قد يوقع الشافعي في تناقض معرفي، إلا أنه يستمر فيه ويظهره بصور متعددة منها:
1 – احتفاؤه الخاص بالمرويات من الأحاديث التي تؤكد فضل قريش على الناس كافة حتى لو كانت هذه المرويات غير متصلة السند.
2 – التأكيد على حصر الخلافة في قريش دون غيرها من العرب حتى لو علاها الخليفة بالسيف وأكره الناس على الاجتماع إليه.
هذا ولا تخفى دلالة أن الشافعي هو الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين (القرشيين) مختاراً راضياً خاصة بعد وفاة أستاذه مالك بن أنس الذي كان له من الأمويين موقفا مشهودا حين أفتى بفساد بيعة المكره، وكذلك موقف الإمام أبي حنيفة الذي رفض أدنى صور التعاون معهم رغم سجنه وتعذيبه.
إن الكيفية التي يمكن بها استخراج الدلالة من النصوص تبدأ مع الشافعي بتقرير مبدأ على درجة عالية من الخطورة فحواه أن الكتاب يدل بطرق مختلفة على حلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت ويمكن أن تقع في الحاضر أو في المستقبل على السواء مستشهداً بالآية (الله خالق كل شيء) التي يراها أبو زيد آية خلافية من حيث دلالة لفظة (كل) فيها على العموم، والشافعي هنا يحدد انتماءه الأيديولوجي المنحاز إلى صف القائلين بالجبر الرافضين لحرية الإرادة الإنسانية ولفعالية الإنسان في اختيار أفعاله.
ويعمل الشافعي على توحيد الطرائق الدلالية بين اللغة العربية والقرآن تأسيساً لعروبة الكتاب (معنى ودلالة) من منظور أيديولوجي في سياق الصراع الشعوبي الفكري والثقافي، وبهذا نفهم المآل الأخير الذي انتهى إليه تحديد أنماط الدلالة (عند الشافعي) الذي اعتمد على تصنيف المتلقين، فلن يستطيع أن ينهض بمهمة فهم القرآن وتفسيره إلا عربي بالسليقة والجنس مهما تعمّق (غير العربي) في اكتساب اللغة وتعلمها، وهنا سيغدو مفهوماً إصرار الشافعي على قراءة الفاتحة بالعربية كشرط ضروري لصحة الصلاة متجاهلاً موقفاً المسلمين من غير العربي على عكس أبي حنيفة الذي أجازها لمن لا يعرف العربية، وهو خلاف سيقود إلى خلاف أكبر حول (هوية) النص القرآني، هل هي (أي الهوية) المعنى وحده أم المعنى متلبساً بالألفاظ، وهو ما يدافع عنه الشافعي الذي يرى هذا التلازم بين اللفظ والمعنى معتبراً اللغة العربية (التي اختصرت في القرشية) جزءاً جوهرياً من بنية النص.


الكاتب : بشير عاني

  

بتاريخ : 22/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *