بخطوات بطيئة، ثقيلة نوعا ما، يمشي، دوما، تحت الشمس التي تقترب كلما ابتعد. يمشي دائما نحو السينما. لا شيء يفصله عنها، لأنه متورط فيها حتى النخاع. تستيقظ فيه، كما يستيقظ العدم إذا داهمه النور. يشاهد الأفلام، يفكر فيها، يرممها، ويقول لنفسه: «ما هو الشيء الذي لا أمتلكه؟».
في السينما لا شيء يسقط سوى الضوء. الضوء الذي يعلمك أن ترفع رأسك، لا لتنظر إلى الأعلى، بل لتحلم بإيقاع فريد. كل شيء هناك. حياة بكاملها تدفعك إليها الصور المتلاحقة على الشاشة، كأنك تغادر حكايتك نحو حكايات أخلاى أكثر جاذبية وإدهاشا، أو كأنك تتضاعف بتناغم في ما تشاهده. فإذا أصررت عليها، أخرجتك على نحو تام من الأرض، ومن الساعات والقياسات، وزرعتك في ما يضيئك باستمرار.
هذا هو درس هذا الرجل الذي لا يقيم، حقا، بيننا. بل إقامته تتقاطع مع ما تتيحه لنا السينما من حكايات وأشكال ورغبات. مصطفى العلواني (أو بّا علوان)، السينفيلي، الأستاذ، المناضل السياسي والنقابي، الناقد، ولد الدرب، الصديق، الأخ.. الذي ما إن تقترب منه حتى تضيع في تفاصيله الحية. الرجل الذي يمشي دائما، لكن دون اتجاه، أو هذا ما يخيل إليك. يعبر بك بلدانا يعرفها وحده ويجعلها قريبة.
الرجل الذي يشبه «خدعة النور في آخر الممر». قد يضيع منك، لكنه يضيع فقط لتعثر عليه في مقهى «الشرق الأوسط» أو مقهى «با ابراهيم» أو مقهى «الجوهرة الزرقاء» أو مقهى «أوسكار».. أو تقريبا في كل حانات الصدف الجميلة.. أو- وهذا هو الأهم- في كل القلوب التي تضيء في أقفاصها بحثا عن سماء أخرى، أقل غيوما وأكثر صفاء..
عرفت أخي وصديقي مصطفى العلواني وأنا طالب في مقتبل الجامعة، فأدركت، كما أدرك أصدقائي كلهم، قبلي وبعدي، أن هذا الرجل صادق مثل الكريستال القاطع، بسيط كالماء، حاد كالسكين، جميل كقطرة ندى تنام على جفن وردة.
فمتى عرفته؟
لن أقيس معرفتي به بالأعوام. فهو عارم وغزير كالزمن، كأنه ولد معك. شُعلتُه لم تنطفئ منذ لحظة «نادي العمل السينمائي»، تلك اللحظة التي انقدنا إليها بعنفوان أيام الآحاد إلى السينما الأخرى. السينما التي تختلف عن «بروسلي» و»دراموندرا» و»جيمي كليف» و»شارل برونسون» و»شيك نوريس» و»كلينتستود» وآخرين. السينما التي تقع خارج «بوليود» أو «هوليود»أو بينهما. سينما هيتشكوك وأكيرا كوروساوا وساتيا جيت راي ونيكيتا ميخايلكوف وفيم فاندرز وفيرنر هيرزوك وغريرغوري تشورخاي وميرا نايير وجوسيبي تورناتوري .. وآخرين.
مصطفى أو «باعلوان»، كما أحب أن أناديه، دائما يضع نفسه في خدمة السينما والسينمائيين. سينيفيلي حقيقي، تعرفه الملتقيات والمهرجانات السينمائية، ويعرفه السينيفيليون، كما يعرفون آراءه «الحاسمة» حول الأفلام المغربية والأجنبية. ينتبه إلى التفاصيل، إلى «الشكل» الفيلمي، إلى الأشياء والزوايا، لكنه ينتفض بكل قوة ضد الأفكار المتعبة، وضد «التتياك السينمائي» والخطابات المفتعلة أو المنومة. فالرجل مناضل عرف المعتقلات، وعرف السحل والضرب والرفس والاحتجاز، وعرف كيف يظل واقفا على قدميه، دون أن يتخلى عن مواجهة الشعارات الميتة.
«باعلوان» متحيز كبير للصدق والحرية والديمقراطية. لا يريد أي شيء لنفسه. يعرف أنه لن يكون رجلا مهجورا، أو رجلا ممتلئا بالنحيب، لأنه ببساطة شديدة طفل يبلغ من العمر سبعين سنة، قضاها مضيئا بيننا.
«باعلوان» شحنة لا تنضب من الفرح، يتدحرج بيننا سخيا بكل ما يملك. يمشي ويمشي ويمشي، وإذا أدركه التعب يستمر في المشي نحونا، لأنه يعرف أننا غرفته الخضراء، وأنه الصقر الذي يطار الضوء في غاباته..
لا يقرأ «باعلوان» الأفلام مثلنا. يتجاوزنا لأن عينه عذراء ومثقفة. يرى ما لا نراه، ويرشدنا إلى تلك التفاصيل الصغيرة التي لن يصطادها إلا من يحرف مخابئ نجمة الشمال.
«با علوان»، أستاذ فلسفة، قارئ ممتاز، محاور مشاكس ومقنع، ذاكرة ممتلئة عن آخرها بالعناوين والأسماء والإشارات. ولهذا كله، فإن كتاباته النقدية لا تشبه النمل على أرجل الطاولات، بل تشيد عالما آخر تتجاور فيه الإحالات والمرجعيات..
«باعلوان» صديق فوق العادة لنخبة من السينمائيين. يلتفون به حين يحضر، لأنهم يدركون جيدا أنه على أتم الاستعداد لبناء عالم ما. وأشهد أنني عاينته وهم يرمم سيناريوهات، وهو يدلي بدلوه في هذا التوضيب، وهو يقترح إزالة هذا المشهد، وتعويضه بمشهد آخر أكثر قوة، وهو ينتقد بشدة.. وهو يتعرض مرات عديدة للنكران، وأحيانا للاستغلال الصريح. لكنه يسامح لأنه لا يحمل السينما فوق ظهره، بل طي ضلوعه، في قلبه وأحشائه.
لتعرف حقا مصطفى العلواني، عليك أن تشد الأحزمة. فمن تسلخ جلده في المعتقلات ليس في قلبه إلا الحب والصفاء والوفاء. فما أشهى الجلوس إليه، وما أحلى الرجوع إليه، في حدته ولطفه، في جديته وسخريته، في انبساطه وارتفاعه.. وفي كل أبعاده العصية على الإمساك.
وأشهد، ختاما، أن هذا الرجل لا يعرفه حق المعرفة إلا مصطفى فوميسيل، قائد الكتيبة، الذي يعرف أن «باعلوان» ربيع قديم وأمل قادم باستمرار..