التفكير في العالم وفهمه انطلاقا من الأدب، تلك كانت تيمة فقرة حوار التي احتضنتها قاعة شنقيط، يوم الأربعاء الماضي بالمعرض الدولي للنشر والكتاب، وكان الضيف مثقفا مغربيا من العيارالثقيل، ألف العديد من الأعمال باللغة الأنجليزية بالإضافة إلى مقالات علمية ودواوين شعرية، أحد أهم المتخصصين الدوليين في أدب المسرحي العالمي شيكسبير، وكاتب ديواني «آخر العنادل»، و»قصائد من الشمال»، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الكيبيك بشيكوتومي، كما شغل منصب نائب عميد الجامعة مكلف بشؤون التعليم والبحث والإبداع، حقق نجاحات مبهرة، أدبيا وأكاديميا، خاصة اكتسابه عن استحقاق لقب «الأديب المتخصص الأكبر في أدب شيكسبر بكندا وأمريكا الشمالية»، وبعد مسيرة شعرية وإبداعية فاز كتاب ابن الحي المحمدي بالدار البيضاء الذائع الصيت في فرنسا وكندا «درس روزاليندا” بجائزة التميز بالنسخة 54 لمعرض ساغوين ايلاك سان جان للكتاب لسنة 2019 الصادر باللغة الفرنسية، هو الشاعر والباحث المغربي الكندي مصطفى فهمي الذي لم يخلف الموعد في هذه الأمسية وقدم للحاضرين محاضرة ممتعة عن الأدب والفلسفة وعلاقتهما بالحياة والوجود والهوية.
في بداية مداخلته، وبعد أن قدمته في كلمة مقتضبة مسيرة الندوة حفصة بكري لمراني، التي طرحت سؤالا حول كتابه مؤلفه «درس روزاليندا»، قال مصطفى فهمي إنه سيتحدث عن الأدب و قدرته على مساعدتنا على فهم العالم ومساعدتنا على فهم المحيطين بنا وبالأساس مساعدتنا على فهم أنفسنا لأن فهم النفس ومعرفتها من أكثر الأشياء نبلا في الحياة والأكثر أهمية متسائلا: «ما فائدة أن نكون مطلعين على الكثير من المعلومات و المعارف الكونية إذا كنا نجهل أنفسنا؟»
للإجابة عن هذا السؤال سيسافر بنا الشاعر داخل نص مسرحي أدبي داعيا الجميع إلى مرافقته :» سنتوقف لنجيب عن السؤال الدي يهمنا اليوم والذي يشغل بال الجميع في العصر الحالي وهو مسألة الهوية وماهية الهوية وكيف نعيش أزمة هوية، ثم كيف نفقد الهوية، ثم سنتكلم عن الكرامة وفي الأخير نقل الميراث».
وليمهد لموضوعه يسترسل الشاعر مصطفي فهمي بالقول إن نيتشه قال إن الفلسفة تزعج الغباء، هي لا تضع له حدا لأن لا شيء يستطيع أن يوقف الغباء، لا شيء يستطيع أن يوقف التهور، لكن الفلسفة ترغم الغباء على النظر إلى نفسه في المرآة، إذن فالفلسفة تحمينا من الغباء.
وبطريقة مشوقة وسلسة يبدأ في سرد قصة الملك لير لشكسبير، الذي يعتبر الكاتب أهم المتخصصين في أدبه بالعالم، وهي قصة تراجيدية تتكون من خمسة فصول كتبت في سنة 1605 ونشرت سنة 1608 وقدمت على المسرح سنة 1606 ، وهي قصة ملك بريطاني قرر تقسيم مملكته على بناته الثلاث ولإعلان قراره يستدعي حاشيته ووجهاء مملكته وبناته مبررا قراره أمامهم بأنه قد أصبح كبير السن ومن اللازم أن تحكم مملكته قوى شابة.
تدور أحداث القصة في بريطانيا القديمة، حيث يقرر الملك المسن لير التخلي عن ملكه وتقسيم مملكته على بناته الثلاث، كورديليا، ريغان، وغونريل. تتمثل خطة لير في وهبه لأكبر مساحة من مملكته لابنته الأكثر حبا له وهي ابنته الصغرى كورديليا. إلا أن غونريل وريغان، الفاسدتين والمخادعتين، تكذبان على والدهما بطريقة عاطفية ساخرة ومبالغ فيها. كورديليا ترفض الانخراط في لعبة لير، وترد ببساطة على أنها تحبه كابنته لا أقل ولا أكثر. ردها الباهت، على الرغم من صدقها، يغضب الملك لير على ابنته كورديليا ويجعله يتخلى عنها تمامًا. موقف كورديليا جعلها الشخصية الأكثر شعبية في ذلك الوقت، لقد فضلت كورديليا أن تقول الحقيقة لوالدها دون مواربة، يقول المحاضر، إن شكسبير سيطرح هنا سؤالا انطلاقا من موقف الابنة الصغرى للملك:» هل التزامنا بقول الحقيقة هو التزامنا الوحيد؟ ليجيب أن هناك أمورا أخرى نستطيع قولها دون أن نهين أي شخص، كتجنيب إهانة رجل مسن أمام أصدقائه، كما فعلت كورديليا التي أهانت والدها الملك رغم أنها لم تقل سوى الحقيقة».
نيتشه يتساءل ماهو الشيء الأكثر إنسانية ؟ الشيء الأكثر إنسانية هو تجنيب شخص المهانة والخجل فلا أحد يستحق أن نهينه حتى المجرمين، هم يستحقون العقاب ولكن من حقنا أن نحافظ على كرامتهم. ويضيف المحاضر أن كورديليا كانت جد صغيرة لتعرف ذلك، فهي لم تكن تعلم أن الصراحة هي شكل مقنع من الوحشية.
ويتابع مصطفى فهمي الحكي : يقسم الملك لير مملكته إلى قسمين، لكن بشروط: أن يحافظ على لقبه كملك، وهذه كانت غلطة لا تغتفر، إذ لايوجد ملك بدون مملكة، لكنه لا يعرف ذلك، شرطه الثاني هو الاحتفاظ بمئة 100 فارس، ثم التخلى عن إقامته الملكية ليقيم كل شهر عند واحدة من ابنتيه.
كانت أخطاء فادحة من الملك لير التي بواسطتها ستتحول قصته إلى تراجيديا ومأساة، فمن ملك سيتحول إلى مجرد متشرد .
يقول المحاضر إن النقاد وقراء هذا العمل يرون أن تراجيديا الملك لير ابتدأت مع جملة الملك الأولى من خطابه: لتعلموا أننا قررنا تقسيم على ثلاثة مملكتنا» ، إذ أن الجملة الصحيحة التي كان يجب قولها هي: «اعلموا أننا قررنا تقسيم مملكتنا إلى ثلاثة»، إن الملك لير يغير ترتيب الكلمات لأنه في إعلان كهذا يُترك العنصر الأهم إلى النهاية، وفي هذا الإعلان المهم ليس هو العدد بل قوله بتقسيم مملكته، لماذا؟ لأن المملكة لا تقسم لأنها إرث، والإرث ليس هبة من الماضي بل هو دين ، لذا لايمكن أن نفعل ما نريده بإرث من الماضي، سوى نقله إلى الأجيال المستقبلية، في حالة جيدة، وإن استطعنا أن نحسن منه سيكون أفضل ولكن من اللازم المحافظة عليه .
يعود المحاضر إلى سرد القصة ليصل بنا إلى النقطة التي سيواجه فيها الملك لير أولى أزماته عندما ينتقل للعيش عند إحدى ابنتيه ويلاحظ أن الاهتمام والاحترام الذي كان يحظى به عندما كان ملكا سيتحول إلى إهمال وعدم لا مبالاة من الجميع وسيطرح السؤال في لحظة يأس وعدم تصديق : هل هناك من يستطيع أن يخبرني من أنا؟ هنا شكسبير ، وعن طريق هذا السؤال سيضع أصبعه على مشكل طالما شغل الناس وهو ماهي الهوية؟ لقد شبه شكسبير العالم بمسرح كبير ويقول إن الحياة ليست سوى ظل يمر، تمثيلية بسيطة، بالنسبة إليه العالم مسرح والناس ممثلون والحياة فصول مسرحية. ويتساءل المحاضر : كيف نختار أدوارنا ؟ مجيبا أن هذا الاختيار ينبع من منطلق رؤية كل منا للخير ويسترسل في شرح هذه النقطة معتبرا أن زاوية رؤيتنا للخير، إن كانت تختلف مع المحيطين بنا فسوف نعيش أزمة هوية. الملك لير ومن خلال مواقفه مع ابنتيه الطماعتين والخائنتين واللتين سوف تتراجعان عن وعودهما سيجد نفسه في الأخير مجنونا ومشردا في الطرقات، ثم سيقتل في النهاية.
لقد تطرق شكسبير في هذه القصة المأساوية إلى التناقضات الإنسانية البشعة وصراع الخير والشر وانتصاره في النهاية. وهكذا استطاع الباحث والشاعر أن يسافر بنا داخل نص أدبي أظهر كل ما في النفس البشرية من شر وخير وعنف وظلم ورذيلة وفضيلة و تناقضات وأن يجيب عن سؤال الندوة: كيف نفهم العالم عن طريق الأدب.
بعد ذلك انتقل المحاضر إلى الإجابة عن أسئلة الحاضرين، وفي سؤال للاتحاد الاشتراكي عن رأيه في الجوائز وهل تضيف شيئا للكاتب أم أنها تبقى مجرد اعتراف ؟ أجاب أنها بالنسبة له مجرد اعتراف تلفت اهتمام القراء والمهتمين إلى الإصدارات الفائزة.
مصطفى فهمي يستدعي شكسبير لفهم العالم
الكاتب : خديجة مشتري
بتاريخ : 15/02/2020