لا تنكتب الذات من خلال علاقة انعكاسية مباشرة مع الواقع، بل من نسوجات [مبدأ الوساطة الجمالية] الذي ينظم فاعلية الخيال الشعري، وينضد مدارجه الإستطيقية، وهي تصوغ سجلاتها من ذلك التفاعل المضيء بين القصيدة (الأثر الشعري) ومسوداتها الرمزية : طروس الذاكرة الشعرية، والمحافل السيرية للأنا الشعري، وديناميات الفعل الشعري الذي يضع الشعر في قلب الوجود الإنساني، حيث [الفكر] خط الاستواء الكينوني لتلاقي الشرط الأنطولوجي والشرط الجمالي .
يسكن الفكر بما هو [معرفة شعرية] جسد المجاز، وبالتالي فإنه تمثيل رمزي لمختلف [مجازات العبور]، لإسكان الذات في جسد وروح اللغة الشعرية، تلك اللغة ذات الوقع المضاعف، والأثر المنعكس في المرايا المتعددة لوساطات الغيرية، والتمثلات التي تتجمهر فيها النداءات اللاّمتناهية للمعنى الشعري، يستبطن كينونة الوجود، ويحفر عميقا في السؤال الأنطولوجي، متوغلا في أمشاج صلب وترائب اللغة لينسخ على رقيم القصيدة / الأثر صورة كينونة متخيلة جديدة، هي الصورة – الجوهر للذات .
مجازات العابر في إفصاح المعنى الشعري عن الهوية الذاتية، هي المستند الجمالي الأساس للكتابة الشعرية لدى الشاعر ياسين عدنان من خلال أعماله الشعرية الثلاثة :
– رصيف القيامة – دفتر العابر – الطريق إلى جنة النار (1)
في «رصيف القيامة» اعتمد الصوغ الشعريّ على رمزية [الرحلة القيامية] بتشييدات متخيل (أبوكاليبسي) يضع القول الشعري كما الذات الشعرية في المعبر البرزخي الوجودي ، حيث تحتشد مشاهد النهايات لترسم مناخا طقسيا لاحتمال بداية جديدة (كما لو أنها نذور انبعاث ) :
« فقال الشعراء إنهم لم يسمعوا
النفخ في الصور
وقال شهود عيان أن ضوءا دافقا
غسل السماء
ثم عرش مثل لبلاب في الأرواح
وقال راع أعمى
إن ريحا عظيمة مرّت
ولم يسمع دويها أحد
لكن امرأة بعيدة شهقت
فعمّ لغط وسادت جلبة
وتعب الواقفون
مما تبقى من أقدامهم
والنائمون من جنوبهم
والموتى من فكرة البعث)
(ص35-36)
يستبطن الأنا الشعري ذاته من خلال مشهدية واقع قياميّ، بتبصرات بورخيسية، ونسج يضارع أجواء الرحلات الأخروية في «الكوميديا الإلهية» لدانتي و «رسالة الغفران» للمعري ، ومحاكاة سوريالية تؤسلب [الواقع] من خلال الباروديا الساخرة لـ [واقع كوني]، يصير فيه المعنى الشعري «رجعا بعيدا « للذاكرة الأدبية الإنسانية. والجملة الشعرية نشأة أولى من الآثار المتصادية لرمزيات الذاكرة الشعرية.
تتجوهر القصيدة كـ «طرس» لتجاذبات خطاب العقل وخطاب الجنون، الأسلوبيات الهرمسية و الأسلوبيات التنجيمية، السفسطات و التنبؤ الرؤيوي، الغنائية الملحمية المنجرحة بسكاكين السخرية الهجائية للواقع والتسريد الشعري الدرامي للغة شبيهة بشرفة تطل على الهاوية .
تتقاطب في نص (رصيف القيامة) العناصر الرمزية الأربعة : الرحلة والطريق والنهاية والبداية . تصير هي الجهات الأربع لمناخ متخيل شعري يضع الكينونة على حد تخوم وجع الفقدان . تتوحد كل الأزمنة الشعرية في مشهد قيامي يقود الوعي الذاتي إلى نهاية الرحلة والطريق لتقف على رصيف زمن آخر، زمن جديد، مؤمل و متغيأ علّه ينشأ من خرائب المعنى بين (القول / الآنف و القول / اللاحق) .
في ديوانه «دفتر العابر» تتسيد رمزية السفر في جغرافية أزمنة عبور من الحاضر والماضي. نحن بصدد نصّ شعري مشائيّ مضاعف التكوين، الرحلة فيه إلى الأندلس حيث يعود فيها الشاعر المشاء الطريق القهقرى مستعيدا ذاكرة الفقدان الفردوسي – الأندلس ورحلة الخروج والشتات، في هجرة مستديمة للمعنى الشعري (شرق-غرب)، وتناسخ هوياتي للذات الشعرية في مفاصل العبور. ذهاب و إياب أرجائي في خرائط الوعي وخرائط الذاكرة .
تتلبس الكتابة الشعرية بـ «هويات المكان»: الشرق العربي، الغرب الأروبي، الغرب الأمريكي. كتابة توهمك بالطريق لتجد نفسك في مسالك الذاكرة، توهمك بالذهاب إلى (الآخر) لتعيدك إلى ذاتك، كما هو الشطر المتعلق بالسفر الأمريكي حيث يترك الشاعــــر العواصم السياسية ليقودك إلى «مدن الشعراء»، هؤلاء الذين يشكلون «حلقة الشعراء المفقودين»، الذين هم مرايا لكينونة توحد الإنساني في مسكن الشعر. وتقتفي الأنساب المتآلفة في مجازات الرمز، مانحة للذات الشعرية انتسابا صميميا للكوني، ذلك الانتساب المفتقد في ( مدائن الواقع المعلقة ) المسيجة بسجون التاريخ والجغرافيات والهويات المغلقة .
نقرأ من الديوان :
« لم تكن مدنا
كانت نجوما تضيء سماء أحلامك
لم تكن مدنا
كانت أشجارا تخفي غابة الروح
وكنت كلما حللت بأرض
تذكرت أنك كنت لها ابنا
في عمر آخر
غير هذا الذي تجرجره خلفك
وأنت تعبر هذا الجسر المعلق
بين ألفيتين
..
كلما زرت مدينة شهقت :
كأني هنا ولدت
كأني هنا
سأموت «
(ص197-198)
الشاعر، العابر، المشاء، التروباديّ، يتكلم بلغة مترحلة مشاكلة لروح (نـــص الرحلات الرمزية العرفانية) وهي لغة لحلول الذات في مرايا الأمكنة، ولانبجاس صوت الكينونة الشعرية في مجازات العبور والغيريات .
في الطبقات الغورية الثاوية للديوان ينصت الجسد، كما الروح إلى اغتراب الأندلس في أوجاع الموريسكيين، والى محنة العقل (ابن رشد محمولا فوق كتب إلى مقبرة فــي اشبيلية، والى رثاء الذات المعتمدية في منفاها المراكشي، وإلى نص الذات/ الرغبة يمهر هويات الجسد وسيمياء الحب في شعر ابن زيدون و»طوق الحمامة»، ويغور الإنصات إلى عمق محنة الوجدان الصوفي الشريد من قرطبة إلى فاس/ باب المحروق من خلال رمزية صوت وشعر ابن الخطيب.
كل هذه الطروس تنحفر في جسد النص متآخية مع الإحالات المتواترة إلى الشعر الاسباني (لوركا بالخصوص ).. إلى درجة استدعاء الديوان إلى قرابة مائة اسم من الشعراء والأدباء، من حاضر المشهد ومن ذاكرته، وسياق الاقتضاب المنهجي لا يسمح لنا بتخريج كل الأسماء والأعلام لأنها كثيرة جدا . لكن الأهم في هذا الصوغ هو أننا بصدد [أنا شعري متعدد] يتمثل كينونته الشعرية في المؤتلف و المختلف من تناظر الغيريات، ملتقطا شوارد أنسابه في أثر العبور، وفي بلاغة الرمزالمترحل ، واستعارات المرايا و تداعي الوجوه و الأقنعة :
« في مالمو
أتممت قصيدة في مقبرة
وغفوت قليلا في حديقة الأرواح
لاشك أن جسدا لي
قديما
كان مدفونا هناك
عجبا
كلما خلوت أيها العابر
بأرض اكتشفت روحا جديدة
وعمرا قديما
فاكتم أسرارك عن الريح
دونها في الأكفان
وناولني بأصابع الرجفة القصوى
هذا الكتاب
..
أهذا كتابك ؟
أين يمينك إذن ؟
أهذا كتابك
أتله غيبا
أكتابك ؟
أم جذوة السفر
طبت في روحك
يا جواب الآفاق ؟»
(ص 200-202)
في الديوان : [نص السفر] هو الظل المرآوي لـ [نص السيرة] . هذه بنية نصية دالة مركزية في التشييد الشعري لكتابة هوية الذاكرة المترحلة . الأثر الترحلي يجعل نص السيرة مطبوعا بالتشظي والشذرية، لأن ما هو «سيري» ينكتب في لوح العابر الذي يستقطع أزمنته الصغرى الأرخبيلية من تدفق النهر الهيرقليطي للزمن ، تتوحد هذه الأزمنة الشذرية ليأخذ المعنى الشعري أبعاد المطلق. وهذا التخييل الشعري السيرذاتي ينحل في تشابيك [بورتريهات مجازية مقتضبة ومكثفة] تمتح من بلاغات الوصف الاستعاري و تظهيرات و إضمارات تلاقح السرد بالمجاز، بضربات فرشاة غنائية تتوسط الحد الفاصل بين الوثيقة و الانطباع .
لا ينفصل مبدأ التكوين في نص [السيرة الشعرية] عن الزج بصوت الأنا الشعري في معابر الذهاب نحو الآخر (شرقا وغربا) . يتجنب الشاعر مأزق ذلك الوعي الإسقاطي الذي يجعل الذات تنتفي وتنمحي في صورة الآخر. و بدل ذلك يروم النص الشعري إلى رؤية استشرافية، تحكمها تجسيرات الجوار الخلاق، وإلى متخيل رمزي مجازي يصوغ أنطولوجيته من تبادل الأدوار والأمكنة ، وتشاكلات فضاء المعنى في قلب المحايثة بين متشابه و مختلف الهويات و الثقافات .
إن الأنا الشعري، هو دائما، جملة في بداية السطر. لا يكثر الشاعر من الالتفات إلى الوراء لأنه مشدود إلى أثر العابر . لغته الشعرية فراسة في نسيخ (Sumulacre) المحو، حيث للنهايات طعم البداية . وحيث البحث عن الأصل زج بالمعنى الشعري في أسطوريات الكتابة – التأسيسية كما يشير إلى ذلك أرنست كاسيرر في مبحثه حول المخيال و(اللغة والأسطورة).
ياسين عدنان هو واحد من أبرز شعراء المشهد الشعري المغربي يجيد منح القصيدة الشعرية كتابة إبداعية ينعقد فيها سؤال الكينونة في توأمة خلاقة بين تشييدات [نص المكان] و[نص السيرة] . تحمل الأتوبيوغرافيا الشعرية على مساند مجازات المكان . بلغة رمزية شفافة تجمع بين الومض الشعريّ والاقتضاب السردي، ومن داخل [وعي ميتاشعري] يشتغل كـ [نصّ حاف] يؤلب طروس المعنى، والآثار ، والعلامات السيميائية لاحتضان «شعرية الأثر»، حيث صوت الكينونة نداء مفتوح على أقاصي القصيدة وعلى أقاصي الذات .