معارك نصر حامد أبو زيد! النص الديني في سياق الواقع واللغة والتاريخ

كان إنتاج «أبوزيد» يدور حول دراسة النص المؤسس للمنظومة المعرفية داخل العقل الإسلامي، من خلال دراسة العقل التفسيري عند المعتزلة، ودراسة المجاز عند ابن عربي، ودراسة مفهوم النص الذي ناقش فيها الصيغة العقدية عند المعتزلة بمقولة خلق القرآن، وأنه ليس كلام الله، وما يترتب على ذلك لاحقًا في معالجتها للنص، وأيضًا عند الأشعرية في تمسكهم بالمقولة اللاهوتية بأن القرآن هو كلام الله المحفوظ في اللوح المحفوظ، والمتنزل على النبي محمد من الملك جبرائيل، إلى ما يترتب على ذلك لاحقًا في كيفية تعاملهم مع النص.
إلى أن يقوده ذلك ليكتب كتابه في (نقد الخطاب الديني) على خلفية الهجوم من قبل الخطاب الرسمي والأيدلوجي الديني على حدٍّ سواء، الذي لا يتسامح مع التعددية، ويسعى لفرض خطاب الإسلام بصيغة جامدة، وبذلك ينتهي أي أفق للإصلاح يستوعب المتغيرات الحضارية للبشرية، حسب وصف أبوزيد.

يرى أبو زيد أن القراءات للنص التي لا تأخذ بعين الاعتبار تلك المستويات من السياق تؤثر فكريًّا في تصورنا للنص، وهو ما يظهر من خلال أربع نقاط:
– تحويل النصوص الدينية إلى مرجعية شاملة للحياة، وقراءة تطورات الوعي الإنساني والفكري فيها.
– الكتاب المقدس يمتلك الوصول إلى كل ما وصل وما سيصل إليه الإنسان ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.
– مصادرة كل إنجازات العقل البشري في مجالات المعرفة، وحصرها واختزالها في نص تمت صياغته منذ أربعة عشر قرنًا مما يعزز سلطة الماضي في العقل المعرفي.
لتحقيق وعي علمي بالتراث، يجب أن تكون هناك جرأة على طرح الأسئلة يرافقها وعي بالنسبية الثقافية للمجتمع.
– استخدام الدين وكونه أداة مفعولاً بها من قبل الأيدلوجيا التي تلغي كل مستويات السياق التي تعرضنا لها، والقفز على ذلك لتحقيق المكاسب النفعية، وصبغ الدين بها. فليس المهم ما تقوله النصوص من داخل بنيتها ومستويات سياقها، بل الأهم ما يحتاجه الخطاب ليقوله من خلالها.
إن تجاهل تلك السياقات هو ما دعا إلى إنشاء تلك اللجنة المسئولة عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وإليكم هنا كيف يتم تركيب ذلك الرابط العجيب:
1 – شرعي، وذلك بالتأكد من أننا أمام حقيقة شرعية دل عليها النص من وجوه الدلالة المقبولة شرعًا بغير تكلف ولا تعسف.
2 – علمي، من خلال التأكد من أننا أمام حقيقة علمية أجمع عليها المختصون على أنها قد ارتقت إلى مستوى الحقيقة العلمية، وذلك بالاتصال بالخبراء المختصين بهذا المجال.
3 – وجه الإعجاز، ويتمثل بالربط بين الحقيقة الشرعية التي يتضمنها النص، والحقيقة العلمية التي يشير إليها ربطًا علميًّا دقيقًا لا تكلُّف فيه ولا تعسف.
ويبقى السؤال حاضرًا: كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يجعل تلك الحقائق في طي النسيان، ويقارب بين آرائه وقدسية الدين، وينسبها إلى نفسه بطريقة غير مباشرة؟
أزمة الخطاب التنويري
يرى أبو زيد أن الخطاب التنويري ظل يدور مع نقيضه السلفي داخل دائرة السجال الأيدلوجي، ولم يتجاوز ذلك إلى تأسيس أفق معرفي جديد، لذلك لم يكن غريبًا أن تكثر حالات الارتداد، فيتحول البعض إلى السلفية مع تقدم السن وميلاد تيارات أكثر جذرية. وبسبب الطبيعة السجالية الأيدلوجية للعلاقة بين التنويريين والسلفيين لم يستطع التنويريون أن ينقطعوا عن السلفيين بإنتاج وعي علمي تاريخي بالنصوص الدينية ذاتها، وظلت الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية هي الرؤية المسيطرة عند كلا الفريقين على السواء. فإذا كان الفكر الديني يجعل الله قائل النصوص هو محور اهتمامه ونقطة انطلاقه فإننا نجعل المتلقي الإنسان بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي تاريخي هو نقطة البدء والمعاد.
إن معضلة الفكر الديني أنه يبدأ من تصورات عقدية مذهبية عن الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية، وعلاقة كل منها بالأخرى، ثم يتناول النصوص الدينية جاعلاً إياها تنطق بتلك التصورات والعقائد، وبعبارة أخرى نجد المعنى مفروضًا على النصوص من خارجها، وهو بالضرورة معنى إنساني تاريخي يحاول الفكر الديني دائمًا أن يلبسه لباسًا ميتافزيقيًّا ليضفي عليه طابع الأبدية والسرمدية في آن واحد.
تهمة الردة والمحاكمة
قادت هذه الأفكار الجريئة “أبو زيد” إلى أروقة المحاكم في مصر، تحت تهم :”العداوة الشديدة للقرآن والسنة، الهجوم على الصحابة ونعتهم بصفات لا تليق بهم، الهجوم على القرآن وإنكار مصدره الإلهي. والحديث عن أن وجوده الأزلي القديم في اللوح المحفوظ هو أسطوره، إنكار مبدأ أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شيء، وأنه هو العلة الأولى. الدفاع عن الماركسية والعلمانية، الفكر الغربي، ونفي صفة الإلحاد عنها”.
لتصدر محكمة الاستئناف بتاريخ 14 يونيو 1995م قرارًا بتفريقه بينه وبين زوجته، ونصح بعض المحبين “أبو زيد” بالتقدم إلى المحكمة لينطق الشهادتين، لكنه رفض ذلك معللاً أنه لن يسمح بتأسيس سلطة تبحث في قلوب الناس. وعندما انتقل إلى هولندا ابتدأ بالبسملة بمحاضرته الأولى هناك، وقال: “إن كنتم تحتفلون بي لظنكم أني أنقد الإسلام فأنتم مخطئون، أنا لست خارجًا عن الإسلام، بل هو جزء مني، وأنا أنتمي لتاريخه الحضاري”.
ولم يزل الإسلاميون يكتبون عن نصر أبو زيد إلى يومنا المعاصر على اعتبار أن أعماله هي هجوم على ثوابت الإسلام، وهو ما قاله فهمي هويدي: في (أن التأويل الذي يتحدث عنه نصر هو في جوهره عبث بالنصوص وتعطيل لها).
توفي أبو زيد في 5 يوليو 2010، ليترك خلفه إرثًا كبيرًا لا يزال العقل العربي تتلبسه الريبة في الاقتراب منه، ومحاولة فهمه وقراءته.


الكاتب : سامي عبد الله

  

بتاريخ : 01/06/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *