معالجة سينمائية لقضية المرأة من خلال الفيلم الوثائقي «Levoyage de Khadija» لمخرجه طارق الإدريسي

 

صار للسينما اليوم اهتمام واسع من طرف الدارسين والمفكرين من مشارب مختلفة. لعل هذا الاختلاف ساهم بشكل كبير في تعدد المنتج الفيلموغرافي بالمغرب. فمن بين الإسهامات السينمائية التي برزت في الساحة السينمائية نجد الفيلم الوثائقي «Le voyage de Khadija»، للمخرج المغربي الريفي الشاب طارق الإدريسي؛ حيث تعنينا في هذا الفيلم دراسة جوانب الإبداع السينمائية التي تُمَيز هذا الفيلم وتجعله عملا فنيا متفردا بحضور جماليات الجنس الفيلمي الذي ينتمي إليه.
يحكي الفيلم «Le Voyage de Khadija» في مدة 70 دقيقة قصة خديجة، المزدادة بأمستردام من أبوين مهاجرين من قرية بني شيكر قرب مدينة مليلية بمنطقة الريف بالمغرب، حيث لم تَعُد خديجة للمغرب مدة 20 سنة. خلال سفرها هذا إلى المغرب، تعيد نقاش بعض النقاط العالقة في مخيلتها والمتعلقة بثقافة العائلة المختلفة عن الثقافة الهولندية. تسأل خديجة عن المرأة ومعاناتها، عن الإرث في الإسلام، وعن شخصية ماما علال، الجدة القوية التي لم تفارق صورتها مخيال خديجة، حيث تتم الإشارة إلى الجدة ماما علال في الفيلم بالشخصية التي كان الكل يخشاها رجالا ونساء والتي تحمل خديجة الكثير من صفاتها: كالشجاعة، والجرأة، والتضحية، ونبذ الظلم.
بذلك يكون الفيلم سفرا في المكان وفي الزمان وعبر الوجدان. إنه سفر من هولندا إلى المغرب، وسفر بين الحاضر والماضي ذهابا وإيابا، وسفر داخلي ينبع من دواخل خديجة وينتهي بدواخلنا.
يتناول الفيلم تجربة اجتماعية ترصد لنا ظروف امرأة شجاعة وجريئة تطرق مواضيع راهنة فتفتح بذلك قضايا ظلت مؤصدة من طرف الرجل ومن طرف المرأة نفسها جراء عوامل خارج إرادتها. هذا ما تعبر عنه مجموعة من اللقطات المتتالية لخديجة حيث تفتح باب المنزل المقفل منذ زمن، وكذا أبواب الغُرَف الواحدِ تلو الآخر. لقطات منظومة بمونتاج سردي كرونولوجي متقَن. كما أن اعتماد الإظلام في الدُّرج وعدم فتح النوافذ من طرف خديجة يطرح أكثر من تساؤل حول الموقف المراد ترويجه في الفيلم، والذي يطبع المتلقي بطابع الإبهام والغموض. هل هو انفتاح للمرأة على ذاتها؟ هل هو انفتاح داخلي أم دعوة لانفتاح من داخل مجتمع مغلق؟.
إن سيرورة البحث والتقصي التي اعتمدها المخرج ساهمت في إظهار وإبراز التوجه الفكري والتناول الترافعي المتضمن في الفيلم من أجل قضية المرأة منظورا إليها كقضية إنسانية تعني الرجل والمرأة على حد سواء. فمقابلاتُ خديجة محاولاتٌ لإقناع الآخرين الخال، الجدة، وبعض النساء والرجال المستجوبين بفكرة المساواة بين الجنسين في جميع المجالات. كما أن المخرج حاول رصد بعض المضايقات (التحرش harcèlement) التي تتعرض لها المرأة في شوارع المدن المغربية؛ حيث صور مجموعة من اللقطات لبعض الرجال الذين يعاكسون خديجة في بعض الأزقة.
غير أن المخرج طارق الإدريسي يصرح بأنه كان ينوي تصوير عدد أكبر من اللقطات التي تُظهر التضييق الذي تعاني منه المرأة أثناء ممارستها لأنشطتها اليومية (1) وذلك بغية تقريب المتلقي من جسامة هذه الظاهرة المرفوضة على جميع الأصعدة، سواء الأخلاقية أو الاجتماعية أو غيرها.
يحيلنا التناول الفكري التوجيهي لهذا الفيلم على المحاولات الأولى لاستعمال السينما لأغراض تعبوية، وهي المحاولات التي كانت تروم التعبئة الجماهيرية مع المخرج الروسي سيرجي إزنشتاين وأفلامه الثورية. نأخذ على سبيل المثال لا الحصر فيلم «المدرعة بوتمكين» الذي يؤرخ لثورة 1905 حيث يرصد مَشاهد احتجاج عمال السفينة على الأوضاع المزرية ورثائهم جسد مناضلٍ منهم قُتل ظلما على يد قائدهم. كما اعتُمِد آنذاك «تأثير كوليشوف» (2)KuleshovEffect  من طرف العديد من المخرجين كمبدأ لمعرفة نوع التأثير المراد تحقيقه لدى المتلقي. لعل هذا ما دفع لينين لقول مقولته الشهيرة: «ينبغي أن تتذكروا جيدا، أن من بين الفنون، بالنسبة لنا، الفن السينمائي هو الأهم» (3).
ذلك راجع للدور الذي يمكن أن تلعبه السينما في تغيير الأفكار والمواقف، والدعاية، والتربية، وغيرها؛ وهذا ما يؤكده تروتسكي في مقاله الشهير، ‘الفودكا والكنيسة والسينم»(4)، فالسينما قادرة على التدمير وإعادة البناء في سبيل وعي أريد له أن يكون موجها بالصورة، وبالصمت، وبالأفلمة. من هنا يبدو أن المتفرج لفيلم «Le voyage de Khadija» ينطبع بانطباع التوجه النضالي الحافل بالفكر التحرري الراديكالي تجاه قضية المرأة والذي يحث الفيلمُ على تبنيه والترافع من أجله. هذا الموقف، الذي استُلهم تحليلُه ومنهجُه من تفكيكية جاك ديريدا القائمة على مناهضة أولوية النظام الأبوي المميز بفكر الفحولة الأبيسية، وتكريس فكر الاختلاف والمساواة في الحقوق والواجبات.
فالكاتارسيس catharsis، الذي يتحقق في المتفرج للفيلم خلال بكاء خديجة مع أفراد عائلتها، «تطهير… من الانفعالات الضارة ونوع من الدواء النفسي» (5) ينتقل مفعوله من الشاشة البراقة إلى المتلقي بشكل سلس وماكر؛ هذا ما يمكن رؤيته من خلال العديد من المشاهد الاجتماعية التي تغوص في وجدان المتلقي وعاطفته كاللقاء مع العائلة بعد طول غياب. هذا اللقاء الإنساني الحساس يعد تجسيرا بين الماضي والحاضر، وعودة لتجديد الوصال مع الوطن الأصل، ومصالحة مع الذات.
ذلك أن «العلاقة بين العمل الفني والمتلقي ليست علاقة قائمة على المتعة الجمالية فحسب، بل هي علاقة تربطنا بشكل مباشر أو غير مباشر مع العالم الذي يحيل عليه، وهو ما يجعل التفاعل بين هذا العمل الفني وبين المتلقي أمرا ممكنا» (6). كل هذا يتحقق في علاقة المتلقي بالفيلم موضوع ورقتنا؛ وهذا يعكس تحكم المخرج الشاب طارق الإدريسي في آليات التمرير والتأثير الممكنَيْن من خلال الصورة السينمائية والنضال من أجل قضية فرضت ذاتها في عصر الصورة الراهن.
من خصائص الصورة السينمائية تعدد خطاباتها المولدة للمعنى. حيث إن المونتاج أهم وأخطر مكون في السينما، بل يَعتبره البعض جوهرا لها. فالمونتاج le montage عبارة عن عملية تقنية معقدة تخضع لمنطق فني، وهو يحوي عمليات مختلفة: كالقص، والحذف، والإضافة، والترتيب، والتوضيب، والتعديل، والتنظيم، وغيرها من المبادئ التي تحدث عنها رودولف أرنهييم (7) وفصلها تفصيلا.
ذلك أن المخرج طارق الإدريسي استعمل بذكاء نوعا رئيسا من أنواع المونتاج، هو المونتاج السردي الكرونولوجي، حيث ساهم هذا الاختيار في الحافظ على تسلسل السرد وخطيته دون تأخير ولا تقديم. فيكون بذلك أقرب من دزيغافرتوفDziga Vertov في فيلم «الرجل ذو الكاميرا» حيث يباغت المخرج الواقع في عفويته وعريه لينقل لنا أحاسيس ومشاعر شخوص الفيلم في أصدق حُلَلِها.
ثم إن استعمال المونتاج الذهني بشكل عفوي عند دخول بطلة الفيلم خديجة إلى البيت بعد غياب طويل، حيث تبدأ في فتح الأبواب المغلقة، دلالةٌ على فتح القضايا التي ظلت مغلقة لأسباب اجتماعية ودينية، فالدال (8) هنا بلغة كريستيان ميتسCristianMitz هو حدث فتح الأبواب، وأما المدلول فهو فتح القضايا المسكوت عنها. هذه السيرورة السميائية هي ما يمثلها شارل ساندرس بورسC.S. Peirce بالانتقال من حالة الإمكان النوعي إلى حالة الوجود (9)، أي من الوجود الكامن بالقوة إلى الوجود المتحقق بالفعل.
ضف إلى ذلك أن الصمت الموظَّف في الفيلم يضفي جمالية نوعية عليه. هذا الصمت الذي تعبر عنه بعض اللقطات الصامتة، كبداية الفيلم بالإظلام، وتجول خديجة في الأزقة، وجريها بالاتجاه المعاكس للكاميرا، والعناق الطويل لخديجة وأفراد عائلتها وغيرها، هو أسلوب الفيلم الوثائقي الذي يسلم زمام السرد للصورة السينمائية بدل المعلق؛ فيترك المجال للمتلقي لطرق مستويات الفهم والتأويل لديه.
وهنا ننتقل من فكرة الحظ السينمائي إلى فكرة الاختيار الجمالي «From the cinematic chance to the aestheticchoice». ذلك أن التأثير الذي تُحدثه الصورة في المشاهد يكون تأثيرا مدروسا من الناحية التقنية، والجمالية، وكذا الفكرية التعبوية.
ختاما، يمكن القول إن الفيلم «Le Voyage de Khadija» مساهمة شجاعة تروم تسليط الضوء من زوايا مختلفة على قضية المرأة، كونها قضية إنسانية. فهو يروج العديد من الأفكار والمواقف الجريئة التي لا يخجل المخرج طارق الإدريسي من البوح بها والدفاع عنها حد الترافع. حيث تظهر المرأة المناضلة من أجل الحرية والهوية، ومن أجل المجتمع؛ فهي المحافظة على اللغة من الاندثار والنسيان، حيث دونت حروف التيفيناغ على جسدها، وحافظت على تماسك الأسرة واستمرار التماسك المجتمعي.
ذلك أن الفيلم يقتفي الأثر من خلال اختيارات دقيقة محسوبة سلفا: كاختيار بطلة الفيلم ذات الشخصية القوية، واختيار موضوع الفيلم الراهن، وكذا اختيار فضاءات الفيلم ذات الدلالة والأبعاد الاجتماعية والثقافية. وهو ما ساعد المخرج على بلوغ مسعاه بدهاء وسلاسة سينمائيتين.

الهوامش:

1ماستر كلاس منظم من طرف الإجازة الجامعية المتخصصة في صناعة الفيلم الوثائقي، تنسيق الدكتورة ليلى الرحموني والدكتور مراد التعرابتي. بتاريخ 31 دجنبر 2022 بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية ابن طفيل، بالقنيطرة
2 Geoffrey Nowell-Smith, The Oxford History of World Cinema, Oxford University Press; 1996; P167
3 Gaston Haustrate; Guide du Cinéma : Initiation à l’histoire et l’esthétique du Cinéma, Tome 1 , Imprimerie Lienhart à Aubenas 1992, P 70
4 https://www.marxists.org/archive/trotsky/women/life/23_07_12.htm consulté en 11/01/2023
5مارك جيمينيز؛ ما الجمالية؟؛ ترجمة د. شربل داغر؛ مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، الطبعة الأولى 2009 ؛ ص 8
6 عبد لله بريمي؛ مطاردة العلامات؛ بحث في سيميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية –الانتاج والتلقي-؛ دار كنوزالمعرفة عمان؛ ط 1 ؛ ص230
7 RodolfArnheim; Film As Art; University of California Press; London 1975; P94
8CristianMitz, PSYCHOANALYSIS AND CINEMA The Imaginary Signifier, Translated by Celio, Bn~ton, Annuryl Williams, Ben Brewster and Alfred Guzzetti. 1982. P151
9 بريمي عبد لله، مرجع سابق، ص129

المراجع:

– مارك جيمينيز؛ ما الجمالية؟؛ ترجمة د. شربل داغر؛ مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، الطبعة الأولى 2009؛ ص 8
– عبد لله بريمي؛ مطاردة العلامات؛ بحث في سيميائيات شارل ساندرس بورس التأويلية –الانتاج والتلقي-؛ دار كنوزالمعرفة عمان؛ ط 1؛ ص230
– ماستر كلاس منظم من طرف الإجازة الجامعية المتخصصة في صناعة الفيلم الوثائقي، تنسيق الدكتورة ليلى الرحموني والدكتور مراد التعرابتي. بتاريخ 31 دجنبر 2022 بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية ابن طفيل، بالقنيطرة
– RodolfArnheim; Film As Art; University of California Press; London 1975;
– CristianMitz, PSYCHOANALYSIS AND CINEMA The Imaginary Signifier, Translated by Celio, Bn~ton, Annuryl Williams, Ben Brewster and Alfred Guzzetti. 1982.
– Geoffrey Nowell-Smith, The Oxford History of World Cinema, Oxford University Press; 1996;
– Gaston Haustrate; Guide du Cinéma : Initiation à l’histoire et l’esthétique du Cinéma, Tome 1 , Imprimerie Lienhart à Aubenas 1992,
https://www.marxists.org/archive/trotsky/women/life/23_07_12.htm

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في سلك الدكتوراه، حاصل على الماستر في المسرح وفنون الفرجة، أستاذ خبير ومكون معتمد من طرف مديرية جيني بخنيفرة، فنان تشكيلي وناقد مسرحي سينمائي،عضو مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام، له كتاب بعنوان: «خطاب السينما المغربية وتخوم التربية: بحث في الجماليات».


الكاتب : إسماعيل هواري (*)

  

بتاريخ : 14/02/2023