في كل منطقة من مناطق المغرب، تواصل عدد من البنايات والمآثر، التي تشكّل جزء مهما وأساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية، الوقوف بشموخ، وإن كانت تعاني الإنهاك، بعدما فعل فيها الزمن فعلته، حتى صارت تعيش مرحلة “أرذل العمر”، وتنتظر وقوعها أرضا، لتختفي كما لو أنها لم تكن يوما، فتلاقي بذلك مصير العديد من المعالم التي تم طمسها سابقا، وحلّت محلّها بنايات مفتقدة لأي روح، كان الهدف من وراء تشييدها الربح المادي الخاص بالأساس؟
بنايات، تتوزع ما بين أسوار، وفنادق، ومركبّات، ودور للسينما، وقصبات، وغيرها… بعضها تم التدخل من أجل إنقاذها و “إنعاشها”، وأخرى تُركت لحالها إلى أن جاء “أجلها” ووريث الثرى، في حين تنتظر أخرى التفاتة فعلية من الجهات المختصة للحفاظ على هوّيتها، وإعادة الاعتبار إليها…
عرفت القنطرة الإسماعيلية عدة أسماء، منها «القنطرة البرتغالية» و»القنطرة الحسنية»، ولعلها شيدت في نفس الفترة التي شيدت فيها قصبة موحى وحمو الزياني، أي في عهد يوسف بن تاشفين، و»جرى ترميمها أو تجديد بنائها خلال حكم المولى إسماعيل الذي يكون استعان في هيكلتها باليد العاملة البرتغالية عبر استقدامها من بين الأسرى البرتغاليين بسجن مكناس»، حسب الباحث المصطفى فروقي الذي رأى أن هذه القنطرة «أعيد ترميمها مرّة أخرى في عهد الحسن الأول الذي تولى حكم المغرب ما بين 1873و 1894، حتى أن المؤرخ أحمد المنصوري في «كباء العنبر من عظماء زيان وأطلس البربر»اعتبرها من الآثار الحسنية .
ونظرا لتاريخية مدينة خنيفرة، كان نائب رئيس اللجنة المغربية للمجلس العالمي للمباني والمواقع (إيكوموس)، عبدالعالي بوزيان قد شدد، في ندوة نُظمت بخنيفرة، حول: «التراث الثقافي والطبيعي»،على ضرورة الاشتغال على «دراسة تنتشل مآثر المدينة من السطحية»، فيما لم تفته الإشارة إلى برنامج التأهيل المنتظر ببعض المواقع على مستوى خنيفرة، معبرا عن أمله في «احترام واستحضار العمران التراثي المحلي الأمازيغي في هذا البرنامج»، كما تطرق لعدد من المواقع الأثرية والطبيعية، والصناعات المحلية، على مستوى الإقليم، ليدعو عموم فعاليات المجتمع المدني ل «الترافع من أجل إحداث متحف اثنوغرافي وحماية الممتلكات التراثية».
وخلال نفس الندوة التي سبق ل «جمعية أطلس للمحافظة على التراث المادي واللامادي» أن نظمتها، عشية الخميس 19 أكتوبر 2023، لم يفت الفاعل المدني سلام الحجام الإشارة لقطع نقدية أثرية «ساهم اكتشافها في تغيير مجريات تاريخية متداولة»، ومنها «قطع تعود لعهد أغمات والمرابطين»، كما كشف عن بعض القطع النقدية التي «أكدت وصول الرومان للأطلس المتوسط في الوقت الذي لم يكن أي أحد أو أي باحث يعلم بذلك»، قبل توقفه أكثر عند قطع نقدية من تاريخ خنيفرة، مستعرضا أمام الجمهور الحاضر نماذج منها تعود لقرون مضت، وإلى حدود عصر جوبا الثاني، ومنها التي ضربت ببوزقور، مريرة، تيكريكرة وواومانة بإقليم خنيفرة.
سفريات توثيقية في الإرث الحضاري
خلال السنوات الأخيرة، نهض عدد من الباحثين المحليين للبحث والتنقيب في الإرث الحضاري لإقليم خنيفرة )السياسي منه، اﻻقتصادي، اﻻجتماعي، الروحي والثقافي)، وذلك من خلال نفضهم الغبار عن الكثير من المعطيات التاريخية المهمة، وعن تاريخ المواقع والمعالم الأثرية التي تستدعي ما ينبغي من العناية لأجل الحفاظ عليها وحمايتها من التدهور والاندثار، باعتبارها رأسمال مادي وحلقة وصل بين الماضي والحاضر، مع تعريف الأجيال بما لعبته هذه المواقع من أدوار أساسية، وتعريفهم أيضا بتاريخهم وثقافات أجدادهم، والوقوف على بعض المميزات العمرانية التي ﻻتزال شاهدة على التصاميم المعمارية بالمنطقة.
وسعيا إلى تعريف الناشئة بالتراث والتاريخ المحليين، من خلال مقاربة الاستكشاف الميداني للمعالم التاريخية والمواقع الأثرية، فات لإحدى المؤسسات التعليمية بخنيفرة (الثانوية الإعدادية الأمير م. عبدالله)، في شخص»نادي التربية على التسامح» بها، أن حقق طموحه بإصداره لدليله التربوي المعنون ب «جوانب من تاريخ خنيفرة»، في إطار «دعم تعزيز التسامح والسلوك المدني والمواطنة»، والناتج عن مجموعة من الزيارات التاريخية التي دونتها مكونات النادي بهدف التعريف بالمواقع والمآثر الأركيولوجية والتاريخية، ويقع الدليل في 40 صفحة، بتصميم فني للزجال توفيق البيض، وافتتاحية موجزة للباحث في التاريخ المحلي، لحسن رهوان.
وقد تضمن دليل»جوانب من تاريخ خنيفرة»، لعدد مهم من أهم المواقع التاريخية والمعالم الأثرية، مثل قلعة المهدي (فزاز)، المشيدة خلال القرن العاشر الميلادي، و»إغرم أوسار» التي تعد من أبرز مدن العصر الوسيط، ثم «مناجم عوام» التي تعود فترة استغلالها إلى أواخر القرن السابع وأوائل الثامن الميلادي، و»القنطرة الحسنية/ الإسماعيلية (البرتغالية)» التي اختلف المؤرخون حول تاريخ بنائها، فضلا عن «قنطرة البرج» التي تعد من المآثر الإسماعيلية، و»الزاوية الدلائية» الأشهر الزوايا التاريخية بالمغرب، و»الزاوية الناصرية بتامسكورت»التي تعد من أبرز مراكز الطريقة الناصرية، ثم «قصبة موحى وحمو الزياني» المصنفة إرثا إنسانيا.
( يتبع )