معاهد السينما: تلقي التقنية أم الإبداع؟

في تعليق للمؤرخ بول روثا سنة 1930، كتب أن «السينما هي المعادلة الإشكالية الكبرى بين الفن و الصناعة». وهذا لا يزال تحديا يواجه المنظرين والنقاد والمهنيين الذين يعملون في مجال السينما، قد كتب نويل كارول «على الفيلم أن يكسب شرعية لمكانه ضمن الثقافة. والطريقة التي ينطلق بها في البداية لجعل نفسه يحمل على محمل الجد هي البرهان على أنه فن-فن على قدم المساواة مع الفنون السبعة التي سبقته».
فهل السينما فن أم صناعة؟ و هل معاهد السينما في المغرب تصنع الفنان المبدع أم التقني الحرفي؟
مضى على وجود السينما كتكنولوجية حوالي مئة عام، وقد برزت العديد من الاختراعات السينمائية، ودخلت في حيز الوجود، وبدأ استغلالها من طرف الدول المتقدمة كأمريكا وفرنسا و بريطانيا و ألمانية، في سنة 1890، وخلال وقت وجيز تطورت تقنيتها من خلال ما تقدمه للجمهور من تسلية، وذلك عبر أشكالها الشعبية، وخاصة في المناطق الحضارية، وقد حقق ذلك نجاحا ملحوظا من خلال جذبها للفنانين والمنتجين والعلماء والسياسيين، فلم تعد وسيلة للتسلية فقط بل أصبحت تستخدم في التربية والتعليم والبحث العلمي، وكذلك في الدعاية،عبر المحاضرات التوضيحية ،وأفلام السير الذاتية.
أحرزت السينما على نحو سريع تميزا فنيا عظيما، فأضحت حدودها أوسع من كونها مجرد أفلام، بل شملت المسرح، والموسيقى، والشعر والرسم، والرواية والصورة الفوتوغرافية والمتحركة، واستغلتها في سبيل التاريخ والتأريخ بالمعنى الأوسع، فقد صنعت ملايين الأفلام تحمل مواضيع الحروب، والثورة ،والعلوم السياسية والاقتصادية، وأسلوب الحياة الثقافي والفني.
في النصف الأول من القرن العشرين، قام منظرو الأفلام بالعديد من المحاولات حول الدراسة الجدية للسينما، باعتبارها شكل من أشكال الفن، وقد انطلقوا من فكرة مفادها مقاربة تجديد خواص الفيلم باعتباره فيلما، وكان أول هؤلاء الدارسين هي مدرسة الشكليين و هي مدرسة فكرية تدافع عن الفيلم بصفته فنا، و كان من بين روادها المنظر «رودولف أرنهايم» صاحب كتاب «الفيلم كفن» وصانع الأفلام الروسي سيرجي ايزنشتاين، و يطرحون مقولة أن قيود وسيلة الفيلم تمكن صانعي الأفلام من تطويع و تحريف التجربة اليومية للحياة الواقعية لأغراض فنية. في حين نجد على نقديها مدرسة الواقعيين مثل أندريه بازان صاحب المجلدين في ماهية السينما و التي تدافع عن جماليات الفيلم من وجهة النظر الواقعية و «سيغفريد كراكور «وستانلي كلافل»، الذين يدافعون عن قدرة الفيلم التسجيلية فمن خلال تسجيله الالي الميكانيكي للأحداث يحاكي الفيلم تجربتنا البصرية الطبيعة للواقع و إن هذه الخاصية الفريدة التي يتصف بها الفيلم هي من اختصاص المبدعين الفنانين، وليس التقنيين.
إذا قمنا بتحليل المقولتين سنستنتج أن القيود التي تحدث عنها الشكليين هي الاستعمال المفرط للتقنية، فالاعتماد عليها في تصوير الفيلم يعيق القصة التي يرويها، حيث تكون ناقصة من حيث واقعيتها وذلك في علاقتها مع الجمهور المشاهد، فربما الرسالة المرجوة منه لا تعبر عن رؤية جديدة، وفريدة للواقع، وهذه الرؤية الفريدة والجديدة تكون في تجلياتها فنا وإبداعا، وهذا عكس ما جاءت به المدرسة الواقعية، فقد شددت على استعمال اللقطات الطويلة زمنيا والبؤرة العميقة والمونتاج لتجميع اللقطات، وأن هذه التقنيات هي التي تجعل الفيلم يعبر عن رؤيتنا البصرية للواقع، وهذه صناعة يقوم بها التقنيون الحرفيون و ليس المبدعون.
إذا أصبحت السينما صناعة ضخمة قائمة على مجموعة من التقنيات المعقدة ،كتقنية الاخراج و تقنية المونتاج و تقنية الكتابة السينمائية ، وتقنية التصوير، وتقنية الصوت و تقنية إعداد الممثل ، وهي مجموعة من المواد التي يتم التركيز عليها في معاهد التعليم العالي أو الجامعات أو مراكز التكوين المهني في مجال السمعي البصري أو مجال السينما والتلفزيون، إضافة إلى تدريس مادة تاريخ السينما وتاريخ الفن والنقد السينمائي والتحليل الفيلمي، ويذهب البعض إلى تدريس سيمائيات الصورة، وكذلك بعض المواد التي لها علاقة بالتواصل والإعلام، فإن السينما أيضا تشمل مئات الفنون المختلفة، كموهبة أداء الادوار المختلفة، وموهبة الموسيقى والرسم والرقص، فقد تتعلم وضع السينوغرافيا والديكور وتتعلم كيف تستعمل تقنية المهنة سواء في المسرح أو السينما، ولكن ماذا عن الجانب الفني الابداعي في المهنة؟ هل يتم تدريسه كالتقنية أم أنه جانب غامض يكمن في باطن الذات البشرية؟
أثناء بحثي عن معلومات تخص مجال الاخراج السينمائي، صادفت دراسة ألمانية قامت بها الكاتبة” يوخن كورتن” تخبرنا فيها عن وجود قائمة طويلة من كبار المخرجين الألمان لم يتلقوا دراسة أكاديمية في هذا المجال السينمائي على رأسهم المخرج الألماني «راينر فيرنر فاسبيندار» فلم يتم قبوله في أكاديمية الفنون في ميونخ ، لكنه أصبح من أكبر مؤسسي السينما الألمانية الحديثة. والشيء نفسه جر على المخرج «تيم تويكير»، الذي صقل مواهبه من خلال عمله في دور سينما شهيرة في برلين والتي تحمل اسم «موفيميانتو»، وهو يعمل اليوم في هوليود ويقوم بإخراج أفلام تكلف ميزانيات خيالية.
في المقابل نصادف العديد من الأمثلة لمخرجين قطعوا مَدرجا أكاديميا لتعلم فن الإخراج و هناك أناس كثيرة يتحدثون عن أهمية العزوف عن أي دراسة أكاديمية في مجال السينما لأنها لا تفعل شيئاً سوى تقييدك بشكل معين ولا تسمح لإبداعك وتفكيرك أن ينطلق بعيداً عن تلك الحدود التي تفرضها عليك الدراسة وتتأكد لنا هذه الفكرة حين نجد أن أغلب الكتاب والمخرجين الذين أضافوا للسينما العالمية، وطوروا كثيراً من شكلها، لم يدرسوا سينما، واعتمدوا على إبداعهم وتجاربهم وتعلمهم الذاتي.
نأخذ مثال المخرج بول توماس أندرسون كاتب ومخرج أفلام يعد من المخرجين القلائل الذين لهم بصمة واضحة في كل أعمالهم، حيث تستطيع أن تعرف أن الفيلم الذي تشاهده من تأليفه وإخراجه فبعد تخرجه من مدرسته الثانوية قرر أن يتقدم لمعهد السينما، وبالفعل تم قبوله لكنه تفاجئ أن الأساتذة يحاولون تقييده بشكل معين ووضع أفكاره وإبداعه في قالب تقليدي، وكأنهم يقررون ماذا يكتب وفيما يفكر، ومع مرور الوقت وجد نفسه مجرد قرد وسط مجموعة من القردة تلقوا نفس العلم ويفكرون بنفس الطريقة.
قرر بول توماس بعد فترة قليلة جداً سحب مبلغ الرسوم الذي دفعه لالتحاقه بالمعهد. قرر بول توماس أندرسون أن يتعلم بنفسه ويخوض التجربة، وقد قام بتصوير أول فيلم قصير له، واكتشف ان مستواه تطور وتعلم أشياء كان من الصعب تعلمها في معهد السينما، و قد فعل ذلك أيضا المخرج الفيلسوف “وودي ألن ” فقد حدث أنه فر هاربا من أول فصل في دراسة السينما، بل ذهب لصناعة السينما مباشرة، حيث اعتبر أن دراسة السينما مملة و مضيعة للوقت.
قال أحد علماء الرياضيات «إن الفصول الدراسية تدمر حاسة الابداع الخلاقة لديك وتجعلك بليدا» وأنا هنا لست ضد الدراسة وطلب العلم والمعرفة وخاصة البحث العلمي والأكاديمي، ولكن على الانسان معرفة أن الالهام الذي يخلق الابداع، هو طاقة داخلية تنفجر مع اكتمال النضج و التخزين من خلال مشاهداتك للأفلام العالمية المختلفة و قراءاتك المتنوعة للكتب العلمية والمعرفية و تجاربك في الحياة الناجحة والفاشلة.
فهل المحاضرات والندوات والدروس التي تلقى في الجامعات والمعاهد كافية لصنع مبدعين وفنانين؟ أم أنها فقط تصنع تقنيين وحرفيين؟


الكاتب : عبد الرحيم الشافعي

  

بتاريخ : 12/10/2019