معجم «الغني الزاهر» للأستاذ عبد الغني أبو العزم

المعجم خزان اللغة ومادة حداثيّة بامتياز

بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية بدبي يوم 6 نونبر2023 ، حيث تم الاحتفاء بصدور معجم «الغني الزاهر» للأستاذ عبد الغني أبو العزم، قدم بهذه المناسبة كلمة تناول فيها خصائص ومميزات مؤلفه، ومجمل الأفكار المتعلقة بإنجاز معجم عربي حديث، وكما تم التعبير عنها. ونشير بهذه المناسبة إلى أن مؤسسة محمد بنراشد آل مكتوم هي التي قدمت الدعم اللازم لطباعته وكل الوسائل الممكنة لإنجازه، ونقدم في ما يلي خلاصة لمجمل الأفكار الواردة من حيث منهجية التأليف المعجماتي.
إن المعجم الذي نقصده في هذه المداخلة يهتم بالثقافة اللغويّة العامة، في ضوء اهتمامه بتعدد الأساليب، أساس اللغة، أي تحديد ما هو بلاغيّ، ومجازيّ، واجتماعيّ، وإبداعيّ.والأدب المقصود كذلك أدب مختلف العصور، حيث إن كل عصر له أسلوبه الخاص به في علاقته بتطور المجتمع والسياقات، واختلاف المواضيع، مما يسمح بتنوع مداخله، وتنوع مادته اللغويّة. واختلاف العصور يشير بالضرورة إلى اختلاف طبيعة اللغة ومحدثاتها، إلا أن الكلمات تظل حاملة لِشِحْنَتِها وطاقتها الإبداعيّة والفكريّة.

 

المعجم خزان اللّغة

«ولقد كنت دوماً أعتبر المعجم خزان اللغة.وهو بذلك أداتُها المتحركة في تطورها، كما أنه ديوانُها، يدوِّن طبيعة الكلمات، ويسجل حركاتها وأنواعَها بكل انتماءاتها النحويّة، وما يتعلق بالمعلومات الخاصة بها، على مستوى الخط والصوت والانتساب الإيتيمولوجيّ، وعلى مستوى الدلالة والقيم التعبيريّة، وأنماط الاستعمال، وعلى مستوى التخصص العلميّ بكل فروعه».
من خصائص هذه الموضوعات أنها ترتبط ارتباطاً عضويّاً. وهذا ما يميز المعجم الحديث المنفتح بفيض ثروته اللغويّة على مادة العلوم، أي لغاتها ومصطلحاتها.وإذا ما أضيفت العلوم إلى اللغة والأدب،آنئذ تكتمل بنية ثلاثيّة تجعل من المعجم مادة حداثيّة بامتياز.
وهكذا نجد ترابطاً وتكاملاً للتصور الذي نعطيه للمعجم، وبذلك يتضمن الحديث عن الثالوث، ضمن وحدة مترابطة لاكتشاف كنز اللغة في ضوء اللسانيّات وميتامعجماتيّة، وثقافة تراثيّة، وثقافة فلسفيّة،وعلميّة وأدبيّة.

الخطاب الأدبي ومحتواه

يشير مصطلح الخطاب الأدبيّ، في هذا العرض، لما يصطلح عليه في الدراسات المعجماتيّة بالمدونة اللغويّة التي يحتاج إليها المعجماتيّ في أثناء إنجاز معجمه، لكونها تتضمن تفاصيل المادة اللغويّة، التي يحتاجها في تعامله مع كل مدخل من مداخل المعجم، من أفعال ومصادر وصفات وحروف ومصطلحات أدبيّة وحضاريّة وفنيّة وعلميّة،وكذلك فيما يخص مادة الاستشهادات المأخوذة من نصوص شعريّة ونثريّة مختلفة المناحي.
يتضمن محتوى الخطاب الأدبيّ ومكوناته ومقتضياته قاعدتين متينتين متضامنتين غير قابلتين للانفصال في حد ذاتهما:
الأسلوب: يعد الأسلوب ذا خاصّيّة تفرض نفسها على المعجماتيّ لإنجاز معجمه،مما يجعل المعجم مُهَيّأ لتأدية دوره بدقة،كما يعطي للمفردات عمقها وصيغتها المعجميّة،وآليّات تراكيبها،ومن دونها يفقد المعجم جوهره.
المفردات النصيّة: تشكل المفردات العمود الفقريّلأي معجم،باعتبارها المادة الحيويّة التي يتم الرجوع إليها من حين لآخر لمعرفة دلالاتها.وأغلب هذه المفردات مأخوذة من نص من النصوص.وهي، فوق هذا وذاك، ما يعطي للمعجم دلالاته المعجميّة مما يتجلى في ترتيبها ترتيباً معجميّاً، بالإضافة إلى شروحها وتحليلها بحسب المنهجيّة التي يسطرها المعجماتيّ.
وهكذا يمكن القول إن الخطاب الأدبيّ بحاجة ماسة إلى المعجم، لكي يفسر مفرداته أو مصطلحاته، وليؤكد ماهية مادته اللغويّة،ولكي يغذي كل توجهاته، بحاجة إلى المادة اللغويّة الموجودة في الخطاب الأدبيّ، وبذلك يكون المتلقي في وضع مريح لاكتسابه لغة الخطاب الأدبيّ.
ما هي مادة الخطاب الأدبيّ؟ هي مجموع النصوص الشعريّة والنثريّة ومجالاتها، أدباً واجتماعاً وتاريخاً وفلسفة. لا شك أن التفكير في المعجم اللغويّ يستدعي حضور مادة الخطاب الأدبيّ، وقد أضحت متعددة المناحي والأبعاد، وعلى سبيل المثال الأقطار العربيّة، وقد اتسعت رقعتها الجغرافيّة والأدبية، مما يخلق إشكالا،ويجعل الإحاطة بكل المواد المتعلقة بأدبها صعبة.فإذا كانت الوحدة الثقافيّة بالنسبة للشعوب العربيّة قد تشكلت منذ العصور الأولى للتاريخ الإسلاميّ، أي منذ العصر الجاهليّ والإسلاميّ والأمويّ والعباسيّ والفاطميّ إلى بداية عصر النهضة، فإن العصر الحديث قد عرف اتساعاً يتعذر معه الإلمام بكل تفاصيله، مما يفرض الانتقاء على قاعدة الشيوع والتداول بالنسبة لأي بقعة جغرافيّة من الأقطار العربيّة. وهذا ما حاولنا تطبيقه في معجم «الغني الزاهر»الشيء الذي لا نجده في المعاجم العربية المعاصرة.
المعجم ظل وسيظل أداة علميّة، ذو منفعة دائمة، يتطور مع تطور اللغة ويستقصي محدثاتها ومصطلحاتها وتعابيرها. والأدب جذوره في اللغة، منها يستقي ألفاظه ومعانيها من خلال ممارستها. يعكس الأدب حياة الناس وأحوالهم وإحساساتهم ونزعاتهم وعواطفهم. وهذا ما يساعد صاحب المعجم على بلورة منهجيّته، وتوسيع أفق مفرداته، وأساليب لغته، لأن لكل عصر لغته والعكس صحيح أيضاً. فالمعجم معلم قابل للتطور والتحديث. لنأخذ مثالا المعجم الوسيط الذي أشرف عليه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فمنذ صدوره 1960لم تتم مراجعته، أو إضافة أي مصطلح، إلا ما كان من طبعة 1973.

الخطاب المعجماتي

يسعى إلى سبر أغوار معاني الكلمة، إيتيمولوجيّاً وتجريديّاً وحقيقيّاً ومجازيّاً، في محاولة لاكتشاف مجمل دلالاتها في سياق استعمالاتها، مما يساعد المتلقي على ترسيخ المعرفة اللغويّة لفهم النصوص المتداولة في مجمل الكتب على اختلاف أنواعها وأجناسها.
لا شك أن هذه الرؤية المعرفيّة اللغويّة تطرح فيما يخص إيجاد معجم يتلاءم معها ويساير أهدافها، لتحقيق ماهية الخطاب المعجماتيّ، وهي إشكالات متوازية ومتقابلة ومكملة، لكونها تعد من ركائز الإنجاز المعجماتيّ، وقد صاحبت التفكير في إيجاد معجم منذ بدايته، وعرفت تطوراً تصاعديّاً عبر مراحل التاريخ اللغويّ. لذا، يمكن إجمال ركائز الإنجاز المعجماتيّ في ما يلي:
أ- ترتيب المداخل؛ب- التعريفات؛ج- المدونة اللغويّة؛د- الاستشهادات.
إن ما يعطي قيمة متميزة لأي خطاب معجماتيّ يتجلى في استثماره لكافة التراكمات المعجميّة، والإضافات المتعددة، في ضوء الركائز المشار إليها، وفي أن يكون منفتحاً على مجمل الإنجازات اللغويّة والعلميّة، والأفكار الجديدة، والألفاظ المستحدثة، لكي يتمكن من إغناء جاهزيّة المعجم الخاضع دوماً إلى التجديد والتطور.
وإذا نظرنا إلى تاريخ المعاجم بصفة عامة، والمعاجم العربيّة بصفة خاصة، فإننا نجدها لم تثبت على صيغة واحدة، إذ عرفت تعدد صيغها وأنواعها، لأن ما كان يميز التراث اللغويّ العربيّ القديم هو اهتمامه المتزايد بإيجاد صيغة مثلى لخطاب معجماتيّ دال. وهذا ما يفسر اختلاف أساليبه ومناهجه عبر تاريخه الطويل، وتنوع أصنافه، بدءاً من الرسائل اللغويّة ومعاجم الألفاظ، ومعاجم الموضوعات، ومعاجم المؤلفين والفقهاء والأعلام، ومعاجم الجغرافيّين والأطباء، وما له علاقة بالأعشاب والأدوية والحيوانات، وانتهاء بمعاجم اللغة، انطلاقاً من المدرسة الخليليّة التي كان همها محصوراً في حصر مفردات اللغة، مستعملها ومهملها، ومروراً بكل المعاجم التي كانت تسعى إلى إيجاد ترتيب ملائم لطبيعة اللغة، وما اكتنفه من إشكالات ظلت حاضرة في الفكر المعجماتيّ، إلى أن استقر على ضرورة اعتماد الترتيب الألفبائيّ، وإن اختلفت مساراته وتعددت توجهاته.
إذا فَقَدَ المعجم هاتين الخاصّيتين، فإنه يفقد بالضرورة ماهية خطابه.وهذا ما يدفعنا إلى القول، من دون مبالغة، إننا لا نملك أي معجم حديث يستحق هذه التسمية، يمكن أن نضاهي به مستوى بعض المعاجم الأوروبيّة.وإذا كنت قد أشرت إلى أن المكتبة العربيّة أنجزت معاجم تراثيّة موسوعيّة غنيّة بمادتها اللغويّة، وسعت إلى استقصاء جل الألفاظ في ضوء استعمالاتها، فلأن ما ألف بعدها لم يخرج عن نطاقها، بل ظل يسبح في محيطها.
يمكن في هذا الصدد مثلا استثناء المنجد الذي نهل من القاموسالمحيط باعتباره مرجعه الأساس، وقد أضاف في طبعاته الأخيرة عدداً محدوداً من المصطلحات والكلمات الجديدة، ومعجم الوسيط الذي نهل بدوره من لسان العرب، محافظاً على نسق ترتيب المادة اللغويّة بحسب اشتقاقاتها، وتمكن بدوره من إدخال عدد محدود من الألفاظ الحضاريّة والمصطلحات الحديثة والمولدة والمعربة. وإلى جانب هذين المعجمين، هناك معجم المرجع لعبد الله العلايلي الذي لم يكتمل، إلا أنه يعد نقلة نوعيّة في تاريخ المعجم العربي الحديث،ومعجم الرائد لمسعود جبران،والمعجم العربي الحديث للجر خليل، ومعجم اللغة العربيّة المعاصرة الذي يعد طفرة مهمة في تاريخ المعاجم العربيّة الحديثة، وإن كان لم يتخلص من الرؤية المعجماتيّة القديمة رغم حداثته. مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن هذه المعاجم التي ذكرتها لم تعرف أي تجديد أو تغيير في محتواها، إذ أن كل طبعة جديدة من طبعاتها تخلو من أي إضافة أو تصحيح أو مراجعة.وأي معجم لا يتجدد في كل سنة أو على الأقل في كل سنتين يعتبر معجماً متجاوزاً بالضرورة.
أقول إذا ما استثنينا هذه المعاجم المذكورة أعلاه بما لها وما عليها، فإن المكتبة العربيّة مازالت بحاجة إلى معجم حديث، بحسب المواصفات المعجميّة التي يتطلبها الخطاب المعجماتيّ في ضوء الأسس الحديثة للمعجماتيّة.

المعجم وشمولية مفردات اللغة

لا تعطى أي قيمة علميّة للخطاب المعجماتي في غياب معجم شامل لألفاظ اللغة العربيّة قديمها وحديثها؛ القديم، لكون عدد هائل من الكتب التراثيّة، دينيّة وفقهيّة وصوفيّة وفلسفيّة، ونصوص أدبيّة نثراً وشعراً، مازال متداولاً في أغلب أوساط قراء العربيّة، فضلا عن تداولها في المقررات المدرسيّة والجامعيّة، لأن ما يتم تداوله من ألفاظ مستحدثة، في ميادين العلوم والإعلام، يجب بالضرورة أن يعرف طريقه للمعجم ليستقيم مفهوم الخطاب المعجماتيّ، وليلبي حاجة المتلقين للمعرفة.
تعتبر المدونة قاعدة الإنجاز المعجماتيّ، لا في ما يمس متواليات المداخل، بل ما يرتبط بها موضوعيّاً، أي طريقة عرضها تعريفاً، من جهة، وإيراد سياقات أو عبارات أو أمثلة مسكوكة أو متلازمات، من جهة أخرى. وبذلك، فإن المدونة في شموليتها تتيح اختيار شواهد أدبيّة، للتعامل مع كل مادة من مواد المداخل، لأن كل مادة، أي مدخل، تعد نصّاً معجميّاً قائم الذات، حيث يتضمن عدداً من المفردات تحتاج بدورها إلى شروح وتفسيرات. وهذا ما يُخضِعُ المدونة لمحك جديد، إذ إن غيابها يشكل عطباً معجميّاً، يفقد الخطاب المعجماتيّ خاصّيّته، لكونها تتيح للمعجماتيّ إمكانيّة استقصاء مفردات اللغة قديمها وجديدها.

التعريف والاستشهادات الأدبية

إن ما يعطي للتعريفات وجاهتها وقيمتها المعرفيّة يتجلى في ضرورة استنباطها من الاستشهادات المقدمة والمستخرجة من نصوص الأدباء، أي ما يعرف بالتفسير الإيضاحي بالأمثلة.
تعد الاستشهادات الأدبيّة المستخرجة من المدونة مرآة صافية للمعجم، لكونها مستقاة من كتابات كتاب لهم معرفة باللغة واستعمالاتها، ويعرفون آليّات اشتغالها، مما يعطيها قيمة أدبيّة ولغويّة، بالإضافة إلى الأمثال، وصيغ المتلازمات، أو العبارات المتداولة عبر العصور التي قد لا يصادفها المعجماتيّ في المدونة؛ أي كل ما من شأنه إيضاح الاستعمال لإظهار الدلالات المتعددة للكلمة في صياغاتها المتنوعة. وهذا التوجه هو ما يعطي للخطاب المعجماتيّ وجاهته لغة وأدباً ومعرفة، عندما يحيط بأسرار اللغة العربيّة قديمها ومحدثاتها. وكل بدعة في هذا الصدد ليست ضلالة. ويمكن القول إن غياب المعجم المبتكر وغير المستوعب لطبيعة اللغة المتجددة يجعل الخطاب المعجماتيّ فاقداً لكل دلالته ومراميه؛ أي:
أ- معرفة اللغة معرفة دقيقة في سياق استعمالها؛ب- معرفة معاني المفردات ودلالاتها المتعددة؛ج- معرفة تطورها وما جد منها؛د- معرفة الترادف والتضاد للمفردات؛ه – معرفة مصطلحات العلوم الإنسانيّة والتقنيّة.
وبالتأكيد، فإن هذه المعرفة لا يمكن تحقيقها إلا بواسطة معجم ديناميكيّ وعمليّ،مفاتيحه سهلة الاستعمال، لكون إنجازه تم بحسب الشروط المعجماتيّة، وقد مر من التحري والتحقيق والتنقيب والاستقصاء. وهذا بالضبط ما تنتظره اللغة العربيّة لنقل خطابها المعجميّ عبر مداخل اللغة.

 

 


بتاريخ : 20/12/2023