معرض «أبواب الذاكرة» تشكيل الضوء

في معرضه الفني الأخير، يقدم الفنان محمد بوسكسو رحلة بصريّة تستحضر تاريخاً مُتعدّد الطبقات عبر أبواب مدن ساحلية مغربية: آزمور، والصويرة الجديدة، وآسفي. لا يكتفي المعرض بتوثيق هذه الأبواب كعناصر معمارية فحسب، بل يحوّلها إلى لوحات تشكيلية تُحاكي فلسفة الفنون البصرية في تفاعلها مع الضوء، واللون، والزمن. هنا، تُصبح الكاميرا ريشةً ترسم ماضي المدن وحاضرها، وتكشف عن حوار جمالي بين الإنسان والطبيعة، وبين الذاكرة والابتكار.

التشكيل البصري:
ضوءٌ يكتب قصيدة الألوان

تعتمد الصور على حِرَفية عالية في توظيف **اللون** و**الضوء**، حيث تتحول السطوح الخشبية والمعدنية للأبواب إلى لوحات تجريدية. الألوان الترابية—من أزرق بحري باهت إلى صدأ نحاسي دافئ—تتآلف مع إيقاعات الضوء الساقط بزوايا حادة، كأنما الشمس تشترك مع الفنان في نحت التفاصيل. العوامل المناخية كالرياح والرطوبة تُضفي طبقة جمالية غير مُتوقعة؛ تشققات الخشب تتحول إلى خطوط تعانق الظل، والصدأ ينساب كطلاء طبيعي يروي حكايات التآكل والبقاء. هذا التفاعل بين العناصر الطبيعية والصنعة البشرية يمنح العمل بُعداً وجودياً، وكأن الأبواب شاهدة على صرامة الزمن ورقة الفن.

الأبواب كـنصّ ثقافي:
عتبات الذاكرة الجمعية

لا تنفصل الجماليات هنا عن حمولتها التاريخية. فالمدن المُختارة—بموروثها اليهودي، الأمازيغي، الأندلسي، والبرتغالي—تختزل تناغماً ثقافياً نادراً. الأبواب، بزخارفها الهندسية ونقوشها النباتية، تُقرأ كشفرات بصرية تعكس التمازج الحضاري: نجمة داوود تتعانق مع الزخارف العربية المُنمّقة، والألوان البرتغالية الزاهية تتصالح مع البساطة الأمازيغية. بوسكسو لا يلتقط الصور بل «يُفكّك» طبقات الهوية؛ كل بابٍ بوابةٌ إلى عالَمٍ استثنائي، حيث التعددية ليست مجرد تراكم، بل هي نسيجٌ متماسك.

الفن كفعلٍ تثميني:
إحياء التراث وإعادة اكتشاف المبدع

يُعتبر المعرض امتداداً لمسيرة بوسكسو في توثيق التراث غير المادي، لكنه يتجاوز الفكرة التقليدية للحفظ إلى فضاء التقدير والتحسيس. الصور تدفع المُشاهد إلى التساؤل: مَن صمم هذه التحف؟ وكيف حوّل الحرفي موادَ بسيطةً إلى إرثٍ خالد؟ الفنان يسلط الضوء على «المبدع المجهول» الذي أتقن اختيار الأصباغ الطبيعية، وابتكر تقنيات مقاومة لعنف البحر، محوّلاً الباب من حاجزٍ وظيفي إلى عملٍ فني. هذا التثمين يُعيد الاعتبار للحرفي كفنانٍ، ويرسم صورة لمجتمعٍ كان الإبداع فيه عملاً جماعياً، لا فردياً.

عتبات الفن نحو الوعي

بوسكسو، عبر عدسته، لا يوثّق أبواباً بل يفتحها. كل صورة دعوةٌ لتأمل الجمال في التفاصيل اليومية المُهمَلة، ولقراءة التاريخ من خلال لغة الفن التي تتخطى الحروف. المعرض، برغم جذوره المحلية، يطرح أسئلة كونية: كيف يحوّل الإنسان البيئة إلى جمال؟ وكيف يُصبح الفن جسراً بين الماضي والمستقبل؟ هنا، تُعلّمنا الأبواب القديمة أن الإبداع ليس ترفاً، بل ضرورة للروح، وأن الحرفي—مهما كان متواضعاً—هو حارسٌ للجمال.


بتاريخ : 07/10/2025